حضارة علم الكلام.
لا شك أن الحضارة الإنسانية هي نتاج مجموع الإسهامات البشرية عبر التاريخ. و هذا يعني أن الثقافات الإنسانية المختلفة اشتركت بشكل أو بآخر في صياغة تفاصيل الفعل الحضاري. غير أن مفهوم الحضارة ارتبط ارتباطا وثيقا بالعلم منذ فجر الثورة الصناعية في أوربا. و اليوم يكاد العلم يكون مرادفا لمفهوم الحضارة، وتكاد كل المؤشرات الأخرى تفقد حضورها أمام قوة العلم و راهنيته.
هذه المقدمة تجرنا إلى طرح السؤال التالي: ما مكانة العلم عند المسلمين؟. و السؤال لا يلغي دور المسلمين في التراكم الحضاري، لكنه يستفسر عن طبيعة النموذج العلمي الذي يمكن للمسلمين أن يدافعوا به عن هذا الدور المفترض. و في هذا السياق، وبعيدا عن التناول العاطفي للموضوع لابد من الاعتراف بضعف العطاء العلمي للمسلمين. و حتى الإنجازات التي تحققت في العصور الذهبية للتفوق الإسلامي على يد شخصيات من قبيل: ابن سينا و ابن الهيثم و جابر بن حيان و ابن النفيس و غيرهم لم ترق إلى مستوى الحدث العلمي الذي يحدث انقلابا في منظومة العقل مثلما فعل علماء الغرب من أمثال كوبرنيكوس و جاليلي و اسحاق نيوتن و ألبرت إنشتاين... و السبب في محدودية الإنجازات العلمية التي حققها المسلمون هو غياب التأطير النظري اللازم و الضروري لوضع العلم في سكته الحقيقية. إذ لم ينجح المسلمون على مدار التاريخ في إنتاج نظرية علمية بأسس و قوانين واضحة. و هكذا لم تكن مساهمات المسلمين في علوم الحياة المختلفة لتشكل فارقا يمكن الإستناد إليه للحديث عن حضور ما في الحضارة الإنسانية من هذا الجانب. ( أقصد الجانب العلمي).
الحديث عن العلم في بلاد الإسلام يحيلنا على إبداع خاص برع فيه المسلمون كثيرا، لكنه ضيع عليهم فرصا كثيرة للنبوغ و التقدم. إنه علم الكلام. فقد عرف عصر التدوين حركة فكرية متميزة، لكنها ضلت الطريق و اتجهت إلى البحث و الكتابة في مواضيع سال من أجلها كثير من المداد دون جدوى. علم الكلام الذي ارتبط بالقرآن شكل مادة للكتابة و التأليف و النقاش لمدة طويلة. و في الغالب الأعم كانت الإشراطات السياسية تتحكم إلى حد بعيد في طبيعة الآراء المتضاربة بشأن القضايا العقائدية. و هو ما حول الجدل بشأن عدد من المسائل الدينية إلى تصفية حسابات سياسية انتهت بمحن و نكبات متعددة. و بدل أن يتجه المسلمون إلى النظر في الطبيعة من أجل فهمها و استنباط قوانينها الفيزيائية، تاهوا في جدل عقيم حول الذات و الصفات و الأفعال الإلاهية. وفي خضم هذا التوهان الفكري فوت المسلمون فرصة الإستفادة من الإعجاز العلمي القرآني، وعجزوا عن إعمال العقول من أجل إدراك أسرار الكون و استيعاب منطق سيرورته و استمراره. و هكذا ساهموا في الحضارة الإنسانية بالكلام. و هو على الأرجح كلام لا طائل منه.
و بين الأمس و اليوم لا شيء تغير في نمط التفكير. فمازال الكلام عملة رائجة بين أوساط المسلمين ، و مازالت النقاشات الدينية العقيمة تفرض نفسها باستمرار. و أصبح المسلمون ظواهر صوتية تملأ الدنيا ضجيجا، لكنها تعجز عن تغيير الواقع البئيس، وذلك في تكريس واضح لإبداع إسلامي إسمه الكلام. لكن الجميع مقتنع اليوم أن لا علاقة له بالعلم. لأن العلم أمر مختلف. محمد مغوتي.14/08/2010.
التعليقات (0)