حضارة النص
العقلانية اقتراب فكري تعتبرالعقل ذو دور مركزي في إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها. ويتحدد معنى العقلانية بحسب المجال الذي يؤطرها: نظرية المعرفة، الدين، علم الأخلاق، المنطق، العلم الطبيعي والرياضي. لكن الاستخدام الأكثر شيوعاً للكلمة يتعلق بنظرية المعرفة واقتراب التعامل مع الدين وحياً ونبوة كمصدر للمعرفة.
أما معنى العقلانية في مجال نظرية المعرفة فهو ذلك المذهب الذي يرى أن المعرفة اليقينية لا بد أن تكون أولاً: كلية بحيث تشمل القضية جميع الحالات الجزئية.
ثانياً: ضرورية بحيث تلزم النتائج عن المقدمات لزوماً ضروريًّا. وترى العقلانية الفلسفية أن الكلية والضرورة كصفتين منطقيتين للمعرفة الحقة لا يمكن أن تستنتجا من التجربة فقط، وأن عموميتها تستنتج من العقل نفسه: إما من التصورات المفطورة في العقل أو من التصورات الموجودة فقط في صورة الاستعدادات القبلية للعقل التي تمارس التجربة تأثيرها المنبه على ظهورها، لكن سمة الكلية المطلقة والضرورة المطلقة تعطى لها قبل التجريب الواقعي، وأحكام العقل والصور القبلية مستقلة بشكل مطلق عن التجربة ... .
وأما فيما يتعلق بالموقف من الدين؛ فيشير وصف العقلانية إلى أصحاب رؤى متعددة وبالغة التفاوت بما يصعب معه اعتبارهم مذهبا أو مدرسة فكرية متجانسة، فمنهم القائل بأن المذاهب الدينية ينبغي أن تختبر بمحك عقلي. أو يشير الوصف أحياناً للقائلين بأنه لا يجوز الإيمان بخوارق الطبيعة، وهذا المعنى الأخير لا ينطبق على كل العقلانيين؛ لأن منهم من يقبل المعجزات ويسوغها عقلانيا، وأيضاً يطلق وصف العقلانية على الذين يقبلون المعتقدات الدينية لكن بعد اختبارها اختبارا عقليًّا، كما يطلق على المؤمنين الذين يفسرون الدين في ضوء العقل ويعتبرون أنهما لا ينفكان عن بعضهما البعض.
لعل أبرز نقد يمكن تقديمه هو أن العقلانية كتيار في نظرية المعرفة لم تنتبه إلى أهمية التجربة في تكوين المعرفة إلا مع الفيلسوف الألماني كانط. وقد بالغت في البحث عن اليقين خارج التجربة، وأغلب العقلانيين، لا سيما غير المعاصرين، نظروا إلى العقل باعتباره كيانا نهائيا ثابتا ومغلقا. ولا شك أن انغلاق العقل على ذاته يؤدي إلى الوقوع في الوهم.. إذ لا بد من مصادر أخرى للمعرفة مثل الواقع، والطبيعة، والعلم التجريبي والرياضي .
والثغرة الأساسية في موقف كثير من العقلانيين هي الاعتقاد في ثبات العقل وواحديته. وقد وقع أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وليبنتز وكانط في هذه الثغرة بإضفائهم الثبات المطلق على صورة العقل ومقولاته ومبادئه. التصور هذا أثبتت نظرية المعرفة الحديثة قصوره؛ لأن العقل كأي ظاهرة تاريخية قابل للتغير والتطور، وفى كل مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز ذاته حيث يعيد بناءها بشكل جديد.
أيضاً من التسرع إصدار حكم واحد على جميع العقلانيين في موقفهم من الدين كأنهم زمرة واحدة، فالعقلانية تيار واسع ومتشعب، والمنتمون إليها لم ينتهوا إلى نتائج واحدة بشأن الدين، لأن العقلانية تيار ليس بالضرورة ضد الدين، فهي تركيبة متنوعة تضم المؤمن وغير المؤمن، لأن العقل بطبيعته نسبي فيما ينتهي إليه من نتائج. وبعض العقلانيين لا يجوّز الإيمان بخوارق الطبيعة مثل هيوم وكانط ، لكن بعضهم يقبلها ويسوغها عقلانيا مثل ليبنتز. وكذلك بعضهم يقبل الدين وعقائده لكنه يفهمها في ضوء العقل ويبرهن عليها بأدلة عقلانية. وعلى سبيل المثال اعتقد لوك أن المبادئ الإلهية والأخلاقية قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها، أما هيوم فأنكر ذلك، أي رفض أنها قابلة للبرهنة.
وقد أثبت بعض العلماء المسلمين موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول مثل ابن تيمية، بينما انحرف بعضهم بالعقل في موقفه من النبوة مثل أبي بكر الرازي. ولا شك أن كثيرا من العقلانيين يتخذون من الدين موقفا نقديا جزئيا أو شاملا، لكن بعضهم يقبله كله كما جاء في نصوصه الأصلية. ومن ثم ينبغي الحكم عليهم كلا على حدا .
وبعيدا عن التحليلات المتواطئة والمشبّعة بالمواقف المتباينة او المتمترسة خلف الجهوية المذهبية المنغلقة على ذاتها لنا أن نلقي نظرة فاحصة على كيفية تبدي ظاهرة العقلنة في التاريخ الاسلامي ..
تثير العقلنة التي عرفها الإسلام الدهشة وبالتالي التأمل الواسع الذي يستدعي من النتائج ما هو أكثر دهشة يحتاج الى إعادة تأمل .
العقلنة في الإسلام تنبع من النص وتتركز حوله وهي في الجوهر عقلنة النص. من الأهمية أن نتساءل لماذا لم يعرف الإسلام عقلنة نابعة من الأزمات التي عرفتها مؤسساته وأوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ تنبع العقلنة من النصوص ليس فقط لأن هذه النصوص انتقلت إلى مناخ جديد ذي مرجعية زمانية ومكانية مغايرة. بل أيضا حملت معها أينما اتجهت بذور خطاب مغاير.
إن النص لا يثير المحاكمات العقلية فقط، لا يوجه النظر العقلي ولكن يستفزه كذلك. فهو قد يصمت عن الإجابات أو قد يقدم إجابات غير واضحة أو يوحي بإجابات متعددة. كل ذلك يجعل النص يشرئب بذاته نحو تأسيس امتداداته وينطلق بفضاءاته. إنه يريد أن يلتحم بالعقل وليس له بديل آخر لإنجاز الامتداد ومده بالحياة. إنه يصنع المقدمات والأولويات في الإجابة أو عدمها التي تفتقر إلى الطاقة الذهنية لتحويلها إلى تفسيرات وتأويلات. كما في النص أيضا تطلع نحو الكونية. والتعميم في الخطاب ولا شك أن ذلك كان نتاج اللقاء الصريح والضخم بتراث يوناني مزعج ولكنه وحده يعقلن هذه الكونية دون أن يوجهها في اتجاه ديني مغاير.
طبعا لم يكن متصورا أن يكون للنص هذا الوزن النظري والعلمي وأن تكون لحاجته للعقلنة هذا الدور لولا أنه لم يكتسب سلطة تدريجية فرضها أتباع الدين لترسخ بعد ذلك في التربية والتعليم والتقاليد والمشاعر والشعائر والطقوس . ثم يصبح كل شيء قابل للتبديل والتغيير عدا النص، وكل شيء قابل للنقاش والتعديل عدا النص. كما اتسع مدار النص الذي يتمتع بهذه السلطة وتقنن وتمتع بترسيم نهائي لحدوده بعد اكتماله.
لا ننكر أنه جرت محاولات لعقلنة النص في الإسلام بعضها مارس نشاطه بصورة مشروعة دائمة أو مؤقتة. لكن بعضها اعتبر بدعة وضلالا وكفرا وزندقة ولم يتمتع بهذه المشروعية على وجه العموم..
إذا كانت العقلنة في الإسلام هي قضية النص والتباساته، وكانت أيضا قضية الصراع النظري والعملي حول دلالة هذا النص، فإنها أيضا قضية الإخفاق في تغيير موقع النص وهيمنته. ولذلك نعتبر العقلنة في الإسلام تعني المحاولات التي لم تستطع أن تحقق أهدافها على المستوى العقائدي والتشريعي. نلاحظ هذا الإخفاق في مسار الحركة الاعتزالية منذ زمن المتوكل، ونلاحظه كذلك في مسار الحركة الفلسفية التي لم تحظى أفكارها بأية مشروعية تذكر .
إلى ماذا يعزى هذا الإخفاق؟ هل يعزى لنجاح الخصوم أم يعزى لقصور هذه المحاولات الكلامية والفلسفية؟
إن قراءة أعمال المعتزلة والفلاسفة المتوفرة اليوم تكشف عن نقائص نظرية ساهمت بدون شك في إخفاقها العلمي. فجدل الأشعري والغزالي وابن تيمية لم يكن مجرد حادثة عابرة أو علامة على تحامل موجه. بل إنه جدل كاشف كشف هذه الثغرات النظرية وحولها إلى صالح خصوم هذه العقلنة.
أهم هذه النقائص أو الثغرات وأخطرها أن هذه المحاولات لم تقدم ضمانة للنص، أي ما يضمن صدقه المطلق، فليس من الممكن تصورأي تغيير في موقع النص في صلب أي دين أو أية ايديولوجيا، دون هذا المقابل الذي لم تنجح العقلنة في الإسلام في تقديمه. هذا اضافة لصدمة الفكرة العقلانية وتجاوزها للسائد أو المستقر المهيمن .
لنتأمل ذلك في ثنايا المذهب الاعتزالي. فما ألفه المعتزلة حول أولوية العقل على النقل، يسير في اتجاه يهدد النص. فابن الراوندي المعتزلي سابقا والزنديق كما يوصف في المصادر الإسلامية، سينفذ إلى هذه الحقيقة حينما قال: إن النبوة إن أتتنا بما يوافق ما جاء به العقل فنحن في غنى عنها لأن العقل وحده يكفي ، وإن جاءت بما يخالف العقل فنحن ملزمون برفضها لأنها مخالفة لما استقر في العقل .
غير أن فيلسوف شكل معضلة كبيرة هو أبو بكر الرازي الذي رفع من مستوى العقل في مقابل النص حيث يقول : بالعقل فضلنا على الحيوان ، وبالعقل أدركنا جميع ما يرفعنا، ويحسن ويطيب به عيشنا، ونصل إلى بغيتنا ومرادنا .… وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا، الخفيّة المستورة عنا .. …. وإذا كان هذا مقداره ومحلّه وخطره وجلالته، فحقيق علينا أن لا نحطّه عن رتبته ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه، ولا وهو الزمام مزموما، ولا وهو المتبوع تابعا، بل نرجع في الأمور إليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه، فنُمضيها على إمضائه، ونوقفها على إيقافه، ولا نسلط عليه الهوى الذي هو آفته .
وهذه الإشادة بالعقل والحظوة التي تمنح له، يشترك فيها الرازي مع ابن الراوندي، الذي اعتبر العقل أعظم النعم، وأنّه قد صحّ عنه الأمر والنهي، والتحسين والتقبيح ، والإيجاب والحظر. وبالتالي لا حاجة إلى النبوّة إذا كانت تتفق مع العقل، إذ هو يغنينا عنها. أما إذا كانت متضادة معه، فأولى أن نلفظها ونرفضها، ومن ثمّة فإنّه لا حاجة إليها في الحالتين. كما ذهب إلى أنّ نبيّ الإسلام قد جاء بما هو متنافر مع العقل، " مثل الصلاة وغسل الجنابة، ورمي الحجارة والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، والعدو بين حجرين لا ينفعان ولا يضران كما نفى المعجزة مثل حديث الميضأة وشاة أم معبد وحديث سراقة وكلام الذئب وكلام الشاة المسمومة، وتساءل عن عدم نصرة الملائكة للنبي يوم أحد، عندما توارى بين القتلى فزعا. وأشار إلى الكيفية التي يفهم بها النبي ما لا يفهمه بقية الناس، فإذا كان ذلك بإلهام فإنّ لهؤلاء أيضا إلهامهم، وإن كان بتوقيف فليس في العقل توقيف. كما اتّهم ابن الريوندي النبيّ بأنّه يقول ما يقوله المنجّمون، مثال ذلك قوله لعمّار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية .
وهذه الإشارات الوجيزة إلى مضامين نقد ابن الراوندي والرازي للنبوة، تكشف لنا أن انهما قد فكرا في تلك المسألة، ضمن تيّار فكريّ كانت له الجرأة لكي يبلور بعض الآراء التي تنتقد الأنبياء والنص من زاوية عقلية وقد مثل تمجيد العقل وتأكيد قدرته على تمكين الإنسان من بلوغ الحقائق، نقطة ارتكاز لا بدّ منها، لدى ذلك التيّار للتحرّر من أسر النص والنبوة إذ لا حاجة إليها فوظيفة النبيّ عديمة القيمة، إذا كان بمقدور الإنسان إن يدرك الله بعقله، ودون واسطة تذكر، فضلا عن إدراكه لشتى الصنائع الفكرية والعملية.
ومن هنا، فإننا إزاء قول فلسفيّ جذريّ في عقلانيته. فإذا كان بعض الفلاسفة أمثال ابن رشد وابن سينا سيقولون إنّ الحاجة إلى الأنبياء هي حاجة أخلاقية في جوهرها، تتعلّق بما هو عمليّ فإنّ الرازي يرى أنّ الحاجة تنتفي إليهم في الأخلاق كما في المعرفة، في العقل العمليّ كما في العقل النظريّ، إذ العقل برأيه هو المرشد أخلاقيا وعلميا على حدّ السواء، فهو يضفي عليه من حيث وظيفته طابعا شموليا، لا تفوته صغيرة ولا كبيرة إلا أدركها، وما عجز عنه اليوم يبلغه غدا.
غير أن المواجهة الاعتزالية المرعبة للنص هي في الواقع التي أحدثت الصدمة تلك التي راحت تتضح في عقائدهم وأفكارهم .
إن قول المعتزلة بخلق القرآن قصد تنزيه الله عن شرائط الكلام الإنساني، صدم في العمق الوسط الإسلامي السني وفاجأه، لأنه أثار التشكك في الهوية الإلاهية للقرآن. هذه الهوية التي حركت الثقاة والأتقياء لجمعه وحفظه وتدارسه وتعليمه، وجعل الفقهاء يقضون سنيهم في تفسيره وشرحه وتأويله واستخلاص الأحكام من آياته. ولم تعد التبريرات التي ساقها المعتزلة كافية في الوعي الاسلامي السني .
حيث إن القول الاعتزالي أصبح يضع القرآن في منزلة المخلوقات ويعرضه لكل نقائص المخلوقات. فغياب الصفة الإهية لا يعوضها المعتزلة بما يحافظ على منزلة النص وأساس صدقه ويقينه الديني المطلق . وذلك هو الذي منح لابن حنبل تلك الهالة التاريخية بعد أن تعرض الى ماتعرض له من محنة كادت أن تطال حياته . وفي مسألة القدر صاغ المعتزلة حججا متعددة أهمها أنه إذا لم يصح القول بقدرة الإنسان على خلق أفعاله بطل الوعد والوعيد والأمر والنهي... وهذا الاحتجاج يربط صدق ما ورد في النص بصدق قضية فلسفية قابلة للتشكيك. بل إن التسليم بها يخلق تعارضا آخر مع عدد من الآيات والأحاديث التي تصرح بالمشيئة المطلقة.
وفي مسائل الصفات أصرت المعتزلة على التنزيه المطلق للذات الإلاهية وتأويل كل ما يوحي بالتشبه أو التجسيم. ولكنهم صدموا الإيمان العام عندما نفوا عددا من معاني الآيات والأحاديث الصريحة التي تتحدث عن لقاء الإنسان بربه. فثارت فتن في بغداد حول الرؤية التي نفاها المعتزلة. فنزل الحنابل إلى الساحة ينتصرون للنص ويعلنون على منبرهم أن الله كما وصف نفسه بدون كيف، فهو ينزل ويستوي ويتكلم كما ورد في النص.
سيقدم المعتزلة أيضا نظريات فلسفية مغايرة تماما لسياق النقل على أساس أنها تدعمه وتؤيده فأثاروا الشك في قصور النص عن دعم ذاته. ولم يبرروا كيف يمكن أن يفتقر "القول الإلاهي" إلى "القول الإنساني". ومن هذه النظريات: القول بالمنزلة بين المنزلتين نظرية الكون نظرية الأحوال... لاشك أن جدل الأشعري كان له دور في نصرة أهل السلف الذين لم يتعودوا على هذا النمط من الجدل الكلامي، كما أن لموقف المتوكل دور سياسي في هذه النصرة. ولكن نفور الفقهاء وجمهورهم من المعتزلة هو الذي يفسر انقراضهم التدريجي والنهائي. فارتسمت منذ ذلك الحين معالم أول إخفاق وأخطره للعقلنة في الإسلام.
سنجد في المحاولة الفلسفية أيضا ما ينسجم مع هذا الاتجاه وما سينتهي إلى نفس النهاية. فإذا استثنينا أبا بكر الرازي الطبيب -الذي نفى النبوة بدعوى أن الله لا يجوز عليه أن يبعث ما يثير الفتن والحروب والتقاتل، باعتباره أرحم بهم وأعرف بمصالحهم اضافة الى ما سقناه سابقا من آراءه. فإن الفارابي سيحاول في نظرية النبوة رفع هذه القطيعة وتحقيق لقاء بين النبي والفيلسوف، لقاء يعتمد على وحدة المنبع الذي هو العقل الفعّال على المستوى المعرفي، وعلى وحدة السلطة في قمة الهرم السياسي.
لكن هذا اللقاء الذي حل محل قطيعة الرازي لم يكن لقاءا متوازنا. فما يتلقاه النبي عبر القوة المتخّيلة هو في أفضل الحالات مجرد مثالات لما يتلقاه الفيلسوف عبر القوة الناطقة أي المعقولات الخالصة. والخطاب النبوي يعتمد أقيسة شعرية وخطابية وجدلية في التاريخ الإنساني. لكن الفيلسوف هو الذي يضع الأقيسة المنطقية .
كل ذلك يجعل هذا اللقاء الذي رسمه الفارابي وانتشر عبر مؤلفاته التي ذاع صيتها في المشرق والمغرب غير قابل لأن يمتلك شرعية دينية في الوسط الإسلامي السني.
ورغم أن فلاسفة الإسلام بعد الفارابي تلافوا التصريح بنظريته في النبوة إلا أنهم بصفة عامة لم يتخلصوا من آثارها في أعمالهم.
فقد سلم ابن رشد بمراتب الأقيسة، كما سلم بأن النبوة لا يقوم صدقها على ما يتم على يد الرسول من خوارق ومعجزات وإنما على قيمة التعاليم التي يبشر بها. كما سلم أن للشريعة ظاهر ومؤول. فالظاهر فرض الجمهور والمؤول "هو فرض العلماء" ولا "يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهورمن العامة .
قد لا يتوقف التساؤل عند هذا الموقف من النص، لأنه ينقلنا إلى ما يعلل هذا الموقف نفسه؟ هل يتعلق الأمر بإلزامات الجدالات الكلامية؟ أم أنه نشأ عن إكراهات التراث اليوناني الفلسفي الذي استعاده فلاسفة المسلمين ؟ أم أنه يتعلق بفكر المعارضة الذي ظل يغلب على أتباع هذه الحركة.....؟
غير أنه يمكن أن تضاف إلى هذا الموقف من النص جملة أخرى من العوامل الكامنة في هذه العقلنة نفسها، في مرجعيتها وفي مدى التزامها بشرائط اليقين التي حاكمت خصومها على أساسها وفي مدى توفرها على وعي ذاتي بكيانها ومدى نجاحها في تقديم مذاهب متكاملة، وفي مدى حرصها على خلق تراث ثقافي .
كل ذلك طبعا لا يبرئ خصوم العقلنة ،فبعد أن فقدت العقلنة مواقعها هيمنت ثلاث لحظات رئيسية: لحظة الأشعري-لحظة الغزالي-لحظة ابن تيمية.
لا يمكن الخلط بين هذه اللحظات. فرغم أرضيتها السنية المشتركة ومرحلتها التاريخية، إلا أنها منذ القرن الثامن للهجرة أصبحت تمثل ثلاث تيارات متعاصرة ومتمايزة.
إن لحظة الأشعري تمثل لحظة تبلورت فيها لأول مرة في الإسلام أطروحة "القول بحدود العقل وهي أطروحة تضافر أئمة الأشاعر على نسج بنيتها النظرية وهي تبنى عندهم على أسس ثلاث: نسبية القيم – نفي العلّية إنكار وجود الكليات ، وهي أسس يحتج بها لتجريد العقل من كل إمكانية للحكم اليقيني المطلق، أي جعله قاصرا دون امتلاك الحقيقة بنفسه دون ورود النقل. كما أن هذه الأسس تضع حدودا لما يمكن للعقل القيام به في فهم النقل. فلا يمكن لدليله مهما كانت قوته أن تبطل أو يُشكك فيما هو صريح بالنص: فالنص إذا كان يتضمن أمورا يتقبلها العقل ويسلم بها فإنه بالضرورة يتضمن ما يعلو على العقل وما يمتنع عليه.
لحظة ابن تيمية لحظة أفرزها التراث السلفي الحنبلي، وهي لحظة يمكن وصفها "بلحظة النقل" بامتياز. فالنقل في نظرها الذي يشمل أساسا نصوص القرآن والسنة لا يفتقر للعقلنة، فهو يتضمن كل ما يتعلق بالعقائد والتشريعات، أي كل ما له صلة بحياة الناس، أفرادا أو جماعات، في جزئياتها وكلياتها، كما أن النقل عبر عن ذلك بوضوح ودون أي لبس أو إلغاز. وفهم النقل لا يتجاوز الدلالة اللغوية وما هو متعارف عليه في بلاغة العرب الذين نزل بلغتهم.
لحظة الغزالي وهي لحظة يمكن أن ندعوها بحلظة القول "بتجاوز العقل وهي بهذا المعنى لحظة التصوف الذي منحه الغزالي والقشيري مشروعية في العالم السني .
إن هذا العقم النظري صاحبه التزام بمبادئ تعضد موقف أهل الشريعة وتناهض كل محاولة للعقلنة ، منها اعتبار الدين ليس أفكارا وتأملات بل هو تجربة عملية تعني أساسا ممارسة كل أشكال العبادات: الفرض والواجب والمستحب. وهي ممارسة تحمل طابعا دائميا وآنيا تصاحبها كل أشكال الفكر ومحاسبة النفس وتصحيح الأعمال وجعل الموت والحياة الأخروية هاجسا لا تضعفه الحياة الدنيوية ومشاغلها وهمومها ولا ترقى عليه. يضاف إلى هذا كله التسليم المطلق بالمشيئة الإهية والإقرار العميق بالخوارق وفضائل أهل الولاية وكراماتهم بما لا يتناقض مع النبوة ومعجزاتها.
إن الآثار المدمرة لهذه اللحظة في المجتمعات الإسلامية أصبحت في مرتبة الحقائق التاريخية . وقد حاولت السلفية الأشعرية وكذا السلفية الحنبلية مقاومة هذه الشبكات الصوفية التي أسست بؤرا وخلايا في الأنسجة الباطنية للمجتمعات الإسلامية في القرى والحواضر ووظفت بنجاح مفاهيمها في الثقافات المحلية وعبر العلاقات القبلية .
إن هذه اللحظات التي تهيمن اليوم على الوسط الإسلامي السني ليس مجرد لحظات نظرية مجردة بل إن مواقعها حاضرة على صعيد التشريع كما أنها لا تزال ترسم وعي فئات اجتماعية واسعة. ويمكن أن نتساءل هنا : كيف استمر هذا الحضور القوي رغم ما عرف بصدمة الغرب أو صدمة الحداثة؟ وبصورة ملموسة كيف استمرت هذه اللحظات التي ترفض العقلنة وتحريك النص عن مواقعه وسيادته رغم أن العالم الإسلامي استيقظ يوما وهو يشاهد تخلف أوضاعه وانحطاطه؟ وفي وقت تقلص فيه ظل الشيخ والفقيه والأمير أمام أرباب الصناعة وممثلي الشركات ورجال الصحافة والانترنت وانفتاح الفضاء والعولمة ؟
يبدو أن تساؤل "زعماء الإصلاح كان مضللا: كيف نجحت أمم تتبنى ديانة مسيحية ضالة ديانة الأسرار والاستبداد الكنسي في بناء هذه الحضارة العقلية الظافرة بينما تحولت مجتمعات دين العقل إلى نموذج محزن للجمود والضعف؟
في هذا التساؤل تحريف واضح لقضية العقلنة في الإسلام. فهي ليست قضية إخفاق ديني تاريخي لتيارات كلامية وفلسفية بل هي قضية ممارسات اجتماعية فاسدة يتعين تصحيحها والدعوة لإصلاحها .
وهذا الفهم يجرنا إلى دائرة مغلقة لأنه يتمسك بنفس الآليات والمفاهيم التي تمرست عليها بالتوارث والإجادة التيارات النقلية المهيمنة. وقد دلت الوقائع على أن هذه التيارات لا يضيرها نقد أخلاقي إصلاحي سطحي فهي تحتمل بعضه على مضض في انتظار أيام أفضل لكنها سرعان ما تنتفض حينما يتقاطع الإصلاح بمواقعها التقليدية في التشريع والمؤسسات. فالبدعة عندئذ في الإصلاح نفسه وليست في الواقع المتخلف. هل الواقع الإسلامي أصبح اليوم في مقام الواقع الأنتروبولوجي المتحجر الذي يفضل أصحابه قتل أنفسهم على تغيير تراثهم؟ وهل النص الديني الإسلامي كما يزعم النقليون لا يسمح باستئناف عقلنة جديدة وتصحيح مسار أصبح في ذمة التاريخ؟
إنها أسئلة نتركها في ذمة التاريخ وفي تلافيف العقول التي دمرتها الخرافة ....
التعليقات (0)