مواضيع اليوم

حضارة العبيد

محمد سرتي

2009-12-20 10:09:36

0


ما إن شارف العصر الحجري على الانتهاء حتى كانت فصائل الهوموسابين بل وإنسان الكرومانيون قد اختفت تماماً من سطح الأرض لتحل محلها فصيلة الإنسان الزراعي الذي بدأت من عنده مسيرة الحضارة البشرية الحديثة. وما إن بدأت الكرة الأرضية تخطو أولى خطواتها نحو العصر النيوليثي حتى كانت معالم حضارة هذا الإنسان قد ارتفعت بوضوح فوق مستوى سطح البحر لتعلن عن تدشين حقبة أركيولوجية جديدة تغيرت خلالها معالم هذا الكوكب في وقت قياسي وبسرعة أقل ما توصف به أنها مذهلة.
ومنذ البدء أظهر الإنسان الجديد كم هو جبان وكسول، وبدا واضحاً من خلال نظامه الاجتماعي الأول أنه مخلوق يختلف تماماً عن سابقيه، مخلوق تسيطر الانهزامية على نفسيته وتتميز شخصيته بطباع الميوعة والتخنث والاستكانة والخضوع، والميل الشديد نحو طلب الراحة والسكون والاستقرار.
لقد كان كل من إنسان الكرومانيون والنياندرثال وبقية الهوموسابين مخلوقات صيّادة، تعيش على مطاردة الفريسة من مكان إلى مكان، بل من قطر إلى قطر، تتحرى رزق يومها في الغابات والبراري وبين الأودية والشعاب دون كلل أو ملل، لا تكاد تستقر في مكان حتى تغادره مدفوعة بروح المغامرة والتحدي، لم يفكروا في ادخار قرشهم الأبيض ليومهم الأسود، فكان كل يوم في حياة أحدهم يحكي عن قصة صيد مختلفة، بكل ما فيها من مغامرات وبطولات وصعوبات وتحديات ومتاعب ومواجهات وربما مآسي وآلام، اعتادوا مواجهة الأخطار ومصارعة الوحوش الكواسر، فخرجوا بنزعتهم القتالية يعاندون الطبيعة القاسية ويتغلبون عليها في كثير من الأحيان، لم يعرف الكسل ولا الجبن إلى قلوبهم ونفوسهم طريقاً، ولم يفكروا يوماً في الاستقرار والاستكانة، ولم يقبلوا بالرضوخ والخضوع لقوى الطبيعة بكل قسوتها وعنفوانها، بل لم تكن حياتهم سوى معركة دائمة مع تلك الطبيعة يواجهونها بكل تحدٍّ وإصرار ورجولة حتى آخر يوم في تاريخ تواجدهم على سطح الأرض.
أما الإنسان الزراعي الحديث الذي خلف هؤلاء مباشرة فهو على النقيض تماماً، فقد بدأ ظهوره على سطح الأرض في هيئة تجمعات زراعية حول مجاري الأنهار ومنابع المياه ليقتات من فضلات ما تفيض به تلك المياه على شواطئها، وما ينبت من تربة تلك الشواطئ الخصبة من حبوب وثمار، رضي بالقعود وقنع بما فرضته عليه التربة من أنواع الزرع فانكشفت سجايا شخصيته الرعديدة ونفسيته الضعيفة التي عبر عنها بميله الشديد للاستقرار والتمسك بالمكان والتأقلم مع موارده المحدودة مهما كانت محدودة.
دفع به رعبه من التغيير وخوفه من المغامرة والمجازفة إلى التشبث بالمكان، فاستعبده المكان، فبات يبني الحصون والقلاع وينشئ المباني الثابتة من الحجر والطين، ويحرث الأرض ويزرعها ويسقيها وينتظر فضلة خيراتها من الموسم إلى الموسم، ويكيف نفسه على العيش من تلك الخيرات التي تفرضها عليه الأرض فرضاً حتى لا يضطر للانتقال إلى سواها. لم يواجه الطبيعة ولكنه رضخ لها، لم يجد في نفسه روح التحدي والقتال فاستسلم لبيئته وأصبح أسيراً لها، إن فاضت عليه سنة بخيراتها رضي وفرح بهديتها، وإن أحجمت عنه أخرى لم يبرح مكانه بل خرّ ساجداً تحت أقدام ذلك المكان يسأله العفو والعافية والعتق من الجوع والفاقة.
من هنا تأسست الميثولوجيا الأولى على قاعدة تقديس الأرض والمكان وعبادة مظاهر الطبيعة. وإذا كانت غرائز الجبن والهلع قد دفعت بذلك الإنسان الزراعي للسجود والانحناء إلى كل ما هو كبير وضخم ومخيف وعظيم ومهيب فعبد الجبال الشاهقة والأشجار الضخمة والأعاصير المدمرة والبراكين وغيرها، بل وعبد حتى الوحوش والحيوانات المفترسة كالسباع والأفاعي والصقور، فإنه بدافع من غريزة الكسل نجده وقد توجه بالتقديس والتعظيم إلى كل ما يدر عليه ربحاً سريعاً أو يجلب له رزقاً سهلاً هيناً ليناً لا يحتاج لعظيم جهد في تحصيله، فعبد الأنهار الجارية وقدّم لها من صنوف القرابين ما يستحث به رضاها حتى تفيض بمائها على مزارعه فلا تجدب، وعبد السماء كيما تتكرم على أشجاره بأمطارها فلا تجف وتذبل، وكان تقياً ورعاً في عبادته للشمس وتحريه لمطالعها ومغاربها ليمرغ جبهته في تراب أشعتها، تلك الأشعة السحرية التي لولاها ما تمكنت الأرض من تدليله بخيراتها وإتخامه بأصناف حبوبها وأنواع ثمراتها. كما عبد تلك الأنواع من الحيوانات التي لم تكن تأخذ منه أكثر مما تعطيه، فطالما أغدقت عليه بخيراتها المجانية ودللته بوفرة ألبانها وأجبانها وسمنها ولحمها وشحمها وجلودها كما تدلل الأم طفلها، وذلك كالبقرة والجاموس والماعز وغيرها.
لم تكن الزراعة مجرد وسيلة جديدة لتحصيل القوت، بل لم تكن الوسيلة الأفضل، فشتّان بين مائدة الصياد ومائدة المزارع، فلم تخل مائدة الصياد من لحم طازج طري لا تزال رائحة الحياة تفوح منه، لحم مختلف ألوانه باختلاف فصائل الحيوانات التي تهيم حوله في البراري والجبال والغابات، لحم بلغ من الوفرة ما لم يضطره لتجفيفه أو تغليفه أو تخزينه لليوم التالي، أما الفواكه والثمار فكان يحصل عليها الصياد طازجة غضة لم يعتريها خمج أو فساد أو عطب، خرجت للتو من أمهات أغصانها فلا يزال طعم الحياة يطيب مذاقها، أشكالها المتنوعة لا تحددها طبيعة التربة أو ظروف المناخ بل يحددها مدى شجاعته في اقتحام غاباتها وبراريها ومدى نشاطه في تحري مواطنها وتسلق جبالها واقتناص مساقطها وسبر أغوار أوديتها وروابيها.
لم تكن الزراعة الخيار الأفضل لجلب الرزق، بل الخيار الأسلم والأسهل، خيار الجبناء والكسالى. فلكي يسلم من أخطار الصيد ويتهرب من مواجهة الكواسر والسباع عندما ينافسها على رزقها وينتزع اللقمة من أنيابها، ولكي يرتاح من مشقة التنقل والسفر بحثاً عن الثمرة والفريسة رضي الإنسان الحديث على نفسه أن يقتات على الحبوب والبقوليات كالدجاج والبط، وقبل باللحم المجفف البائت ذي الطعم المقزز كطعم الجيف، جبن عن منافسة الأسود على طعامها فنافس الضباع على بقايا اللحم والديدان على خشاش الأرض.
لم يلجأ الإنسان للزراعة كخيار استراتيجي أفضل ولكن كضرورة سيكولوجية فرضتها عليه نفسيته المتهالكة وهمته الوضيعة، فكانت الزراعة هي أوّل تعبير عن منظومته الثقافية الحديثة التي نسميها اليوم "الحضارة".
فالزراعة –إذاً- هي المنتج الحضاري الأوّل، وليس العكس، ومصطلح "حضاري" و "حضارة" هو اسم مشتق من الفعل "حضر" بمعنى وُجد أي بقي في مكانه واستقر بموقعه أو أقام به إقامة دائمة، والحضور هم الجماعة الموجودون في المكان وجوداً دائماً تاماً غير مسافرين أو عابري سبيل، وحضر الحدث أي شهده وتواجد في مكان وقوعه تواجداً كاملاً يتيح له إدراك جميع تفاصيل الحدث، وحاضر القوم جالسهم وحادثهم، وقوله تعالى (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) أي مطلة عليه بشكل دائم، وحضر الجماعة أي شهدها حتى نهايتها، وحاضرة الإقليم هي القرية أو المدينة التي تقام في مكان ثابت وبشكل دائم في وسط ذلك الإقليم ليتخذها أهله سوقاً. والحضر هم الجماعة من الناس الذين تجمّعوا واستقروا في بقعة صغيرة من الأرض واستوطنوها استيطاناً دائماً فلم يغادروها مهما ضاقت عليهم حدودها أو ضنت عليهم مواردها.
إذاً فأول علامة أنثروبولوجية فارقة للإنسان الحديث هي الثبات الجغرافي، الجمود المكاني، الإقامة الدائمة والحضور الأبدي في موقع واحد دونما تنقل أو ترحال إلا لظروف قاهرة، لذلك كانت الزراعة هي الخيار الاقتصادي الوحيد لهذا الكائن الحضاري عند بداية تواجده على سطح الأرض، ولكن –كما أسلفت- لم تكن الزراعة سوى التعبير الاقتصادي عن الطبيعة الحضرية لهذا الكائن، والتي ترتكز على أساسين سيكولوجيين رئيسين، الجبن والكسل.
يجب أن نفهم هذه النقطة جيداً، وهي أن الزراعة لم تنتج الحضارة، ولكن الطبيعة الحضرية للإنسان الحديث هي ما أنتج الزراعة، فأول شرط من شروط نشوء الزراعة هو الحضور المكاني، أو –كما يحلو للبعض وصفه- الاستقرار الاستيطاني. إن تلك الأنهار المدارية الدافئة بضفافها الخصبة وتربتها المتجددة على الدوام ومياهها العذبة المتدفقة دون انقطاع وشمسها المشرقة طوال العام وأمطارها الموسمية الغزيرة لم تغر إنسان النياندرثال أو الكرومانيون بالإقامة الدائمة على ضفافها واستغلال كل تلك العناصر وإقامة مراكز استيطانية زراعية ثابتة تغنيه عن مشقة الصيد وأخطاره بما توفر له من مصدر غذاء دائم لا مقطوع ولا ممنوع، لأن طبيعة الهوموسابين لم تكن حضارية، فأبت عليه نفسه أن يحبسها داخل إطار مكان ضيق الحدود ويفرض عليها نوعاً واحداً من الطعام لمدة زمنية طويلة.
إن تلك النزعة التحضرية الملحة والمتجذرة في نفسية الإنسان الحديث والتي تجلت في ميله الشديد نحو الاستقرار والجمود المكاني كانت هي الأساس الذي تفرعت منه بقية عناصر ثقافته الحضرية بكافة أشكالها وصورها، بدءاً من شكلها الزراعي الأول وانتهاءً بتعبيراتها الميثولوجية وتعقيداتها الأيديولوجية التي ما فتئت تتعاظم اطراداً مع التقدم في خط الزمن.
يقال في الأمثال: "من خاف سلم" وهو حقاً ما حصل لذلك الإنسان الخواف عندما نئا بنفسه عن مواطن الخطر ومظان الموت الرابض في مسالك الترحال ومعابر الأسفار، عندما رضي أن يكون من الخوالف فقرر السكون والاستقرار في بقعة زراعية صغيرة يحصنها ويعزلها عن محيطها المرعب، عندها سلمت حياته من الفناء فتكاثرت أعداده تكاثراً قياسياً بل فلكياً إذا ما قورن بأسلافه الهوموسابينيين. ولكن مع محدودية تلك الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، ومع إصراره الفطري على الحضور بها والاستقرار بل والانغراز في تربتها بدأت تلك الأراضي تضيق به حدوداً وموارداً خصوصاً مع ازدياد معدل تكاثره بشكل مهول، فنشأت مشكلة الانفجار السكاني التي كان لها ما بعدها.
تحاشرت تلك الكائنات وتزاحمت حول مصدر محدود للرزق فبدأت عناصر ثقافتها الحضرية تطفو على السطح الواحدة تلو الأخرى: الاختلاط، الملكية، القانون، الأنانية أو الفردية، والمادية. والتي يمكن تلخيصها جميعاً في مصطلح واحد: "ثقافة العبودية".
أما الاختلاط فهو أهم عناصر التكوين الثقافي الحضري على الإطلاق، وذلك بسبب ما ينبثق عنه من تداعيات عظيمة تتحدد من خلالها هوية هذا المجتمع وبنيته التراكيبية الشاملة بل وتستند عليها أهم أساسات مرجعيته الثقافية بوجه عام.

إن محدودية الأراضي القابلة للاستيطان الدائم لم تترك للإنسان الزراعي حرية اختيار الجار قبل الدار، فمهما تكن هويته أو ميوله أو انتماءاته؛ يجد في النهاية نفسه مجبراً على التعايش مع جميع تلك الفصائل والعرقيات والأخلاط الجنسية التي توافدت إلى ذلك المكان وقررت استيطانه بصرف النظر عن مدى التناغم الثقافي والفكري والسلوكي فيما بينها، فهو تعايش قسري لا يحدده سوى المكان، وذلك من أبشع أشكال العبودية للمكان والاستسلام له بالطاعة العمياء.
إن تعايشاً من هذا النوع لا ينتظر منه الوصول بتلك الفئات البشرية المتباينة إلى حالة من الانسجام الاجتماعي والتفاهم الودي الحقيقي بقدر ما ينتج عنه صنوفاً من الصراع والتطاحن المقنع، والتي تتخذ لنفسها في كل وقت من الأوقات شكلاً مختلفاً. وإن التفاهم الظاهر بين تلك الفئات حول استيطان بقعة جغرافية محددة والتشارك في استغلال خيراتها ومواردها الاقتصادية ليخبئ تحته رغبة دفينة لدى كل فئة في الاستئثار بتلك الموارد وطرد غيرهم أو إزاحتهم عنها بشتى الوسائل، ولكن تلك الرغبة الدفينة قد لا تبقى دفينة طوال الوقت، فهي ما تلبث أن تجد الفرصة لتعبر عن نفسها، صحيح أن هذا التعبير قد لا يتخذ شكلاً مسلحاً في معظم الأوقات، إلا أن أشكاله الأخرى هي أكثر عنفاً وقسوة بل وخسة من الشكل العسكري، وذلك يعود لطبيعة الجبن والكسل المتأصلة في نفسية الإنسان الزراعي والتي تكبح فيه قدرته على المواجهة المباشرة، وهذا النوع من الكبح ولّد لديه قدرات متنامية على إدارة أنواع من الصراع غير المباشر، والذي يحلو لي تسميته بـ "صراع الجبناء"، والذي يتمثل في ضروب الخيانة والغدر والاحتيال والنصب والخديعة والتآمر وغيرها من الصناعات التي أبدع فيها الإنسان الزراعي أيما إبداع وباتت من الصفات الأكثر بروزاً في ثقافة المجتمعات الحضرية حتى يومنا هذا.
إن ثقافة التقبل القسري اندرجت بعد ذلك على كل شيء طالما كان هذا التقبل ضرورة من ضرورات الشراكة الجغرافية والاقتصادية، فنتج عن ذلك نوع من التبلد القيمي لدى أفراد المجتمع الحضري بحيث بات أحدهم على استعداد لتقبل أي شيء (وأعني حرفياً أي شيء) يفرضه عليه المكان وظروفه، ولم تعد المباديء أو الأخلاق أو أي نوع من القيم المعنوية أو الاعتبارية قادرة على استثارة أحدهم أو الاستحواذ على شيء من اهتمامه أو دفعه للقيام بشغل ما إلا إذا كانت تصب في خدمة بقائه داخل ذلك الإطار الجغرافي وارتبطت بما يجلبه إليه ذلك البقاء من مردود اقتصادي ارتباطاً واضحاً.
إن القيمة المعنوية العظمى والعليا في الثقافة الحضرية هي قيمة المكان، فالحضري لا يعتز بشيء سوى مقره الجغرافي، وليس له هوية أو انتماء خارج إطار تلك البقعة من الأرض، بل وغالباً ما يتخذ من اسم تلك البقعة لقباً عائلياً خاصاً به، وهي قاعدة خطيرة من قواعد هذه الثقافة ومكوّن هيكلي من مكوناتها حيث تندرج تحته من الالتزامات المصيرية ما لا يمكن الاستهانة به.
تخيل نفسك وقد أصبح المكان هو نسبك، هو أصلك وفصلك، عندها كيف يمكن لك أن تقدّم تعريفاً واضحاً ومحدداً لهويتك الثقافية؟ بل كيف يمكن أن يكون لك هوية ثقافية خاصة ثابتة ومحددة؟ كيف يمكنك أن تجيب على الأسئلة التالية:
ما هي هويتك الجينية (أو البيولوجية، أو الوراثية، أو العرقية، سمّها ما شئت)؟ ما هي ثوابتك الأخلاقية؟ ما هي قيمك الأصيلة، مبادئك الراسخة، عاداتك المتجذرة، تقاليدك المستعصية على التغير؟ ما هي مرتكزاتك المعنوية والسلوكية الصلبة؟ ما هي مفاهيمك الفكرية الواضحة؟ ما هي عقيدتك؟ ما هو دينك؟ ما هي ثوابتك الأيديولوجية؟ ما هي خطوطك الاجتماعية الحمراء؟
إن الإجابة الموحدة لجميع هذه الأسئلة هي "لا يوجد". لا توجد أي هوية للمكان الذي تعيش فيه وتتمازج وتتخالط وتتزاوج آلاف الفصائل الجينية المختلفة، كل فصيلة وفدت إليه من مكان مختلف، يحمل كل منها فكرة مختلفة، عادة مختلفة، مبدأً مختلفاً، طبعاً مختلفاً، خلقاً مختلفاً، مفهوماً أيديولوجياً مختلفاً، نمطاً سلوكياً مختلفاً، بل وحزمة مختلفة من الأطماع.
إن ثقافة التقبل القسري التي اضطرت جميع تلك الفصائل أن تتبناها هي التي شكّلت في النهاية أسس العقيدة الحضرية على قاعدة "كل شيء مسموح، كل شيء مباح، كل شيء وفد إلى هذا المكان ورسّخ أقدامه على أرضه وفرض وجوده داخل إطاره حتى بات من الصعب إزاحته عنه فإنه يتحول تلقائياً إلى جزء لا يتجزأ من ثقافة المكان، وعلى بقية الأجزاء أن تتعايش رغماً عن أنوفها مع هذا الوضع باعتباره أمراً واقعاً" تلك هي القاعدة التي يعبّرون عنها اليوم بقولهم: "اليد التي لا تستطيع أن تدوسها فعليك إذاً أن تبوسها (تقبّلها)".
إن مصطلحات كالتفاهم والحوار والتعايش وغيرها لا تعبر لدى المجتمع الحضري إلا عن ذلك النوع من الرضوخ والاستسلام الفكري أو الخضوع الثقافي لقوى الضغط المختلفة التي استطاعت أن تفرض نفسها قسراً على بقية فرقاء ذلك المجتمع لتنتزع منهم بالقوة اعترافاً رسمياً بوجودها الراسخ داخل إطار المكان الذي لا يجدون بداً من التمسك بالبقاء فيه والانتماء إليه انتماءً جغرافياً يفرض عليهم تقبّل بل وتبني جميع ما يدب فوق ترابه من أنماط ثقافية قديمة كانت أم محدثة، والاعتراف القهري بها جميعاً كنوع من الرضوخ للأمر الواقع، اعترافاً لا علاقة له بالقناعة والرضى بل بالإجبار والإلزام.
إن الحوار الحضاري بين فرقاء المكان الواحد لا يمكن أن ينتج عنه انتصار الخطاب الحواري المستند للمنطق والعقل والمرتكز على قوته الإقناعية أو حجيّته الذاتية أو معانيه الاعتبارية المجردة كمعاني الحق والعدل والأخلاق والمثل العليا وغير ذلك، إن حواراً كهذا (حوار الفرقاء الشركاء في المكان الواحد) لا يتمخض إلا عن هيمنة الخطاب الانتهازي الاستغلالي القائم على الجبرية الجغرافية، بمعنى أن الخطاب الحواري المنتصر هو ذلك الذي يعبر عن مطامع الفئة القوية التي تستطيع فرض رغباتها بالقوة على بقية شركائها في ذلك المحيط الجغرافي، علماً بأن القوة هنا تتحدد في صورتين لا ثالث لهما: الكثرة العددية، أو الثراء الاقتصادي. والفئة التي تملك أياً من هاتين الدعامتين هي التي تستطيع كسب نتيجة الحوار الحضاري وإجبار بقية فرقاء المكان على تقبّل إرادتها وتفهّم خطابها بل وتبني ثقافتها مهما كان شكلها أو مضمونها.
إن مبدأ القوة كوسيلة شرعية وحيدة لاكتساب السلطة لم تتمكن الثقافة الحضرية من تغييره كما يدعي أنصار النظرية المثالية في القانون الدولي، ولكن طبيعة الجبن الضاربة بجذورها في أعماق الشعور الجمعي لهذا المجتمع جعلته يعبّر عن صراع القوة هذا بمفردات منمّقة نسجتها خيوط النفاق وأبدعت في تعليبها وتغليفها مصانع المراوغة الفكرية ومعامل الخداع اللفظي لتخرج متناغمة مع النفسية الحضرية الرعديدة التي فطرت على التهرب من المواجهة المباشرة، فبدلاً من الاعتراف بهزيمته كما يفعل الصادقون مع أنفسهم، وبدلاً من أن يرفض العبودية والانقياد القسري للمنتصر كما يفعل الرجال، بل وبدلاً من أن يصرّ على الانتقام ممن ألحق به الهزيمة، ومواجهته في حرب مباشرة وجهاً لوجهٍ كما يفعل الشجعان، نجد الإنسان الحضري يحاول تبرير هزيمته ورضوخه وجبنه وتهربه من المواجهة بتلك الأكاذيب التي يعتقد أن بإمكانها أن تحفظ شيئاً من ماء وجهه حتى لو أصبح هذا الماء آسناً عفناً لا رائحة فيه لكرامة أو شرف، فإذا ما سيطرت فئة معادية ومخالفة له على موطنه الجغرافي، واستلبت منه حريته الفكرية وإرادته السياسية، وكبّلته بأغلال الأسر الثقافي، وساقته إلى أسواق النخاسة الاقتصادية والعبودية الاجتماعية، نجده يتفاخر بنفسيّته المتسامحة وصدره الرحب وطيبته اللامحدودة، تلك الصفات التي لم يكن لأي منها وجود قبل تاريخ الهزيمة. نجده بعد الهزيمة يغير رأيه مباشرة فيبدأ في وصف الذل بأنه تواضع وتسامح، والرضوخ تقبل وتعايش، والعبودية الفكرية والثقافية حوار وتفاهم.
إن هذا النوع من تبرير الذل وتشريع الرضوخ والانهزامية النفسية، بل وهذا النوع من الخداع اللفظي الذي يقدم العبودية في هيئة من القداسة والرقي الخلقي، قد أدى في النهاية إلى تأصيل تلك الصفات الخسيسة داخل نفسية الإنسان الحضري، بحيث بات مجرد استهجان تلك الصفات من شأنه أن يسيء إلى نفسيته بل وربما يعتبره نوعاً من الشتيمة الجارحة لمشاعره مهما كان هذا الاستهجان مبرراً. لذلك نجده يحاول بكل ما أوتي من قوة الابتعاد بتلك الصفات عن أي نقد أو استهجان وذلك بتجريم هذا النقد واختراع المزيد من الألفاظ والمصطلحات المنمقة التي قد تحول دون توجيه أي نوع من الاستهجان لمفردات ثقافة العبودية تلك. فنجده مثلاً يصف استهجانك للانقياد والخضوع الثقافي بأنه تحجر فكري، ويصف استهجانك للتذلل والاستجداء بأنه كبر وغرور وخيلاء، وهكذا. وإذا كنت ممن يحترم ثقافته وينظر بعين التقدير والتبجيل لمفرداتها، وإذا رأيت فيها من الرقي والسمو والقيم السامية ما يفوق بمراحل عظيمة تلك المفردات الثقافية التي يحاول الآخر فرضها عليك قسراً، وإذا ما وجدت في تراث آبائك وأجدادك من الكنوز الثقافية ما يستحق منك الاستماتة في الحفاظ عليه وصيانته من الضياع والتفكك والتغير والتآكل والاختلاط المؤدي للانقراض، فقررت الاعتزاز بها، وتمسّكت بحقك في النأي بها عن جميع عوامل الانقراض وذلك كالاختلاط الاجتماعي والتمازج الفكري والدمج الثقافي والتلاقح العرقي مع تلك الثقافات التي أثبتت نظرياً وعملياً دونيتها مقارنة بما تملكه من ثقافة قومية، وإذا ما تمسّكت بحقك في توجيه النقد لتلك المصطلحات المنمقة التي تدس تحت معاطفها جميع معاول إبادة ثقافتك والقذف بها في معجنة الانقراض، فرفضت أن تعرض ثقافتك في متاجر التقبل القسري والتفاهم الإلزامي والحوار القهري والتعايش الانهزامي، عندها ستجد تلك الاتهامات المعلبة تنتظرك على أحر من الجمر في طريق الإدانة الحضارية الدولية، وذلك كالعنصرية والفاشية والراديكالية والتعصب والتخلف والرجعية والجمود الثقافي وربما معاداة السامية لا سمح الله.
إن استماتة الإنسان الحضري في الدفاع عن ثقافة العبودية بصفتها أكثر المنتجات الثقافية الحضرية أصالة لتعود في الأساس إلى عبوديته للمكان، تلك العبودية التي جرّت خلفها جميع أنماط الاستعباد الأخرى التي خضعت لها نفسيته وتبنتها ثقافته وخرجت أنظمته وقوانينه وأيديولوجياته وفلسفاته وكافة سلوكياته ونسقه الاجتماعية معبرة عنها.
عندما تسلب من الإنسان إرادته ويفقد حرية الاختيار فلن يكون من الصعب بعد ذلك ترويضه كما تروض الحيوانات الأليفة، ولن تختلف عملية كسب انتمائه وولائه عن طريقة كسب ولاء كلاب الحراسة وانتماء حمير الأسفار لمن يطعمها ويسقيها ويوفر لها المقومات المادية للعيش، فالعبودية –إذا ما أردنا توصيفها قانونياً- هي في النهاية عقد استخدام، وهو النوع من العقود التي تتطابق بنودها تطابقاً شديداً مهما اختلفت شخصيات أطرافها. فإذا ما أردنا –على سبيل المثال- توصيف العلاقة بين كلب الحراسة ومالكه توصيفاً قانونياً نقول إنه عقد ينص على أن يقوم السيد بتوفير الطعام والشراب والمأوى وبقية الاحتياجات المادية لكلبه في مقابل استغلاله لقدرات هذا الكلب البدنية والعقلية والحسية الأخرى، ومتى ما أخلّ أحد الطرفين بالتزاماته المنصوص عليها في العقد يصبح من حق الطرف الآخر إلغاءه، يصبح بإمكان السيد الإحجام عن إطعام كلبه أو بيع الكلب أو الخصم من لقمة عيشه، أو بإمكان الكلب التوقف عن الوفاء لسيده أو الاضراب عن الحراسة أو التهاون في أداء بعض التزاماته أو حتى البحث عن سيد آخر يوفر له قدراً أكبر من بقايا العظام. ولا تختلف بنود هذا العقد كثيراً لو كان الطرف الآخر هو بشراً تم شراؤه من سوق النخاسة أو أجيراً يعمل بالسخرة لدى سيد رأسمالي.
إن هذا الشكل من العقود هو الأكثر رواجاً في المجتمع الحضري، بل يكاد يكون الوحيد الذي تتحدد من خلاله أنواع العلاقات بين أفراد هذا المجتمع. ومقياس القوة والسلطة والسيادة والشرف والرفعة والهيمنة الاجتماعية في المجتمع الحضري هو الغلبة الاقتصادية، فإرادة الحضري وحرية اختياره مسلوبة تماماً من قبل المكان، والمكان لا إرادة فيه تعلو على إرادة المال، ولا حرية فيه للطرف الثاني من أطراف العقد إلا بالقدر الذي يمنحه إياه الطرف الأول.
لقد نشأ هذا المجتمع على طلب الرزق السهل، الرزق الآمن، وهنا أيضاً يظهر لنا بقوةٍ تأثير تلك الركيزتين اللتين أسستا هذا النمط الاجتماعي: الجبن والكسل، فليس أسهل ولا آمن من أن يتكفل أحدهم بإطعامك وإيوائك مدى الحياة، أو تخصيص مرتب شهري ثابت وأبدي من شأنه أن يوفر لك ذلك الشعور النفسي بالاستقرار والأمان من الجوع والتشرّد، وإذا ما كنت رعديداً جباناً فإن عرضاً كهذا من شأنه إسالة لعابك للدرجة التي تتنازل فيها عن كل شيء كي تفوز به، تتنازل ليس فقط عن إرادتك الحرة، ليس فقط عن رغباتك وميولك الحسية والمعنوية، ليس فقط عن قدراتك وإمكاناتك الجسدية والعقلية والفكرية، بل قد تصل المرحلة إلى تضمين كرامتك وشرفك وعرضك ودينك وأسلوب حياتك وكافة سلوكياتك وقناعاتك الفكرية واتجاهاتك السياسية بل وإنسانيتك برمتها ضمن بنود السخرة في عقد الاستخدام.
إن الحضري لا يقدّس العمل –كما يدّعي- بل يقدّس ربّ العمل، وهو ما عبّرت عنه الثقافة الحضرية من خلال تلك الأسس والاشتراطات التي فرضت توفّرها في أعيان المجتمع وفي من يستحق الاحترام والتقدير من أفراده، فالسيد في هذا المجتمع هو ربّ العمل، هو من يستطيع إعالة أفراده مادياً وبالتالي تسخيرهم لخدمته، هو الثري الذي يستطيع شراء أكبر عدد من الأجساد والأفئدة، هو الذي يملك المال فقط، حتى لو لم يكن يملك أي شيء آخر، بل حتى لو كان من أخسهم أخلاقاً وأنذلهم طباعاً وأدنسهم شرفاً وأغباهم عقلاً وأجبنهم قلباً وأنتنهم سريرة، حتى لو كان ديوثاً فاجراً أو لوطياً متخنثاً أو كذاباً منافقاً أو انتهازياً نذلاً لا يملك من صفات النبل شيء.
إن الميزان الوحيد لقياس الرجولة في مجتمع الحاضرة لا يعبّر عنه سوى مقولتهم المشهورة ومثلهم الرائج: "الرجل لا يعيبه سوى جيبه" وهو مثل تجدهم يرددونه دائماً في كل مناسبة يقيّم فيها الرجال، وخصوصاً عندما يتقدم أحدهم لخطبة فتاة من أهلها، عندها لا ينظرون من الرجل سوى جيبه، وليس لما دون الجيب عندهم أي اعتبار. لذلك فإنه من المستحيل تحديد الهوية الجينية لسكان الحاضرة، فالزواج عندهم والتناكح لا يتم بتاتاً على أساسٍ من النقاء العرقي أو الأصل الجيني، والمصاهرة لدى الشعوب المتحضرة هي شكل من أشكال العقود الاقتصادية، والتي لا تخرج في الغالب عن دائرة عقود الاستخدام.
إن عملية التناكح والمصاهرة في المجتمع الحضري هي أخطر من مجرّد تمازج جيني بين فصيلتين مختلفتين تماماً من المخلوقات بحيث تنصهر الصفات البيولوجية للطرفين في بعضها البعض وتختلط وتتفاعل لتنتج مخلوقاً بيولوجياً هجيناً، بل الكارثة الأكبر هي أن هذا الانصهار يحدث على المستوى الخلقي والعقلي والأيديولوجي قبل الجيني، فقد ثبت علمياً أن الصفات الأخلاقية تنتقل بالوراثة عبر الجينات تماماً كلون البشرة وتقاسيم الوجه.
إن من أعظم الأمور غرابة أن تجد ذلك الحضري المتأنق وهو يقود ابنته إلى فراش مخلوق ثري قد نزع الله من شخصيته جميع معاني الرجولة، وتغلغلت الخسة والنذالة ونجاسة الطبع ودناءة الأخلاق داخل كل خلية عصبية في جسده، ثم يدّعي والد الفتاة أنه شخص متحضّر غير عنصري، يؤمن بالمساواة ويرفض أي نوع من المفاضلة بين مخلوقات الله، ولكنك في المقابل تجد نفس الشخص وهو يعترض اعتراضاً شديداً على السماح لحماره بتلقيح فرسه، لأنه على علم يقيني بأن الفرس في هذه الحالة لن تلد له حصاناً صغيراً، ولكنها ستلد حماراً كبيراً.
ربما يغيرون لقب المولود ويسمونه بغلاً من باب المجاملة، ولكنه في النهاية سيبقى ابن حمار. وربما قد تبادر لعلم البعض أن البغل يختلف في شكله ومظهره تمام الاختلاف عن الحصان، ولكن ما لا يعلمه الكثيرون من بغال البشر هو أن الاختلاف في الطباع النفسية والصفات المعنوية والسمات الأخلاقية بين البغل والحصان هو أشد وأعظم. إن التزاوج بين الحمار والفرس لا يمكن اعتباره نوعاً من تحسين النسل، إنه في الحقيقة أبشع أنواع تدنيس النسل وتشويهه ومسخه.
يقول هتلر: "يجب أن يكف البشر عن الاهتمام بتحسين نسل الكلاب والخيل، وينصرفوا إلى تنقية وتحسين النوع البشري"
إن الثقافة الحضرية جعلت من الانتقاء الطبيعي انتقاءً تراجعياً، والطفرة الجينية التي يقول بها داروين لا يمكن أن تسلك في مجتمع الحاضرة اتجاهاً خلقياً، بمعنى أن ثقافة الحاضرة لا تولي عظيم اهتمامٍ للمعاني الأخلاقية، ولا تبذل من الجهد ما يكفي لصيانة تلك المعاني وتدعيمها وتربية أفراد المجتمع على احترامها وتبجيلها والتحلي بها وتجسيدها واقعاً عملياً معاشاً، بل على العكس من ذلك تماماً. فالمعنى الوحيد المقدس هو معنى المال، والاتجاه الاقتصادي هو الاتجاه الوحيد الذي تسلكه مسيرة الانتقاء الطبيعي الحضري، وهو اتجاه معاكس تماماً للاتجاه الأخلاقي.
إن هذا الاختلاط الديموغرافي الذي تديره وتوجهه عقيدة المال والثراء لا يمكن أن تأتي نتيجته لصالح مفاهيم الأخلاق والمعاني السامية والمثل العليا، فالوضيع دائماً في العقود الاقتصادية هو الطرف الثاني، وربّ العمل هو الذي يضع دائماً شروط العمل، والتي تتحدد من خلالها صفات العاملين وتتشكل على أساسها طبائعهم.
وكما يخضع الطرف الثاني لثقافة الطرف الأول؛ فإن العامل الثاني من عوامل القوة والتأثير في المجتمع الحضري –وهو الكثرة العددية- يخضع كذلك لإرادة المال. وقد ذكرت سابقاً كيف أن ربّ العمل أو مالك المؤسسة الاقتصادية أو سيد الأرض يحق له بموجب عقد الاستخدام امتلاك مجهودات العاملين لديه وتسخير كافة قدراتهم ومواهبهم وإمكاناتهم البدنية والعقلية والنفسية طيلة أوقات استيقاظهم ووعيهم منذ شروق الشمس إلى غروبها لصالح خدمته في مقابل توفير مقومات الحياة المادية لهم من طعام وشراب وملبس ومأوى وبعض المتع الكمالية التي تصب في النهاية داخل إطار تحفيزهم على بذل المزيد من الجهد لإرضائه، ولكن المسألة لا تقف فقط عند حدود المصنع أو المتجر أو المزرعة، فثقافة الحاضرة تجعل من ربّ المال رمزاً اجتماعياً وثقافياً عاماً، ونجماً يقتدى به ويهتدى ليس فقط من قبل عبيده وخدمه ومن يعولهم من العاملين لديه والمسخرين لأمره، بل من قبل جميع أفراد المجتمع الحضري الذين نشأوا على تقديس هذا الشعار وتبجيله، وتربّوا على عقيدة "الرجل لا يعيبه سوى جيبه"، ورضعوا مشاعر الخضوع والولاء لهذا الشعار وطقوس الطاعة والانقياد المطلق له حتى بات العيب الوحيد لديهم هو الفقر.
إن ثروة رب العمل وحجم مؤسسته الاقتصادية لا تحدد الحجم العددي لأتباعه وعامليه فقط، بل ومحبيه ومناصريه ومواليه ومنتخبيه وعبّاده ومؤلهيه والمسبحين بحمده والركع السجود، إن كل عيب أو نقيصة أو جريمة أخلاقية يقدم عليها ربّ المال تتحول في أعين الناس إلى عمل حسن وسلوك راقٍ يستحق الاتباع والتقليد، وكل عادة قبيحة وفكرة سمجة بل وهواية سخيفة يمارسها الأثرياء تتحول إلى جزء أصيل من عادات المجتمع وتقاليده، والنقيصة الحقيقية التي تجلب لصاحبها جميع أنواع العار في مجتمع الحاضرة هي الفقر.
في مجتمع الحاضرة نادراً ما تجد منصباً قيادياً أو مركزاً وظيفياً من مراكز صنع القرار يشغله شخص لا ينتمي إلى طبقة الأثرياء، وحتى على مستوى الأحزاب وجماعات الضغط المختلفة نجد القوة الاقتصادية تلعب الدور القيادي الأول، وهذه الثقافة هي التي صنعت نظام الملكية (بكسر الميم)، والذي بدوره شكل النواة الأولى لنظام الملكية (بفتح الميم) بصفته النظام الوحيد القادر على إدارة الحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمع الحاضرة.

إن ذلك اللفيف الديموغرافي الذين لملمتهم غرائز الجبن والكسل من شتاتهم ودفعتهم للتكدس تحت سقف واحد، وربطتهم برباط الجيرة والتصاهر أطماعهم المشتركة في استغلال موارد المكان الاقتصادية، لم تكن تلك الأطماع قادرة على ربطهم بأي رباط آخر، لم تتمكن تلك الأطماع أن تخلق بينهم مشاعر الألفة والمحبة والثقة المتبادلة. بل إن الأطماع نفسها التي جعلتهم يتفقون على التشارك في المكان وخيراته كانت في نفس الوقت تشكل وقوداً دائماً لجميع أنواع التطاحن والصراع الاجتماعي فيما بينهم حول ذلك المكان وتلك الخيرات.
إن صراع الجبناء هذا، بأشكاله المدسوسة غير المسلحة، والذي يتخذ لنفسه أنماطاً سلوكية شتى كالخداع والغش والكذب والنفاق والرياء والمراوغة والنصب والاحتيال والاختلاس والرشوة والتزوير والخيانة والغدر والنذالة بكافة صورها أنتج مجتمعاً تسوده الريبة ويغمره الشك وتنعدم المصداقية بين أفراده وتتحكم الانتهازية والنفعية تحكماً مطلقاً في صياغة وهيكلة كافة الروابط والعلاقات الاجتماعية فيما بينهم.
"اليد التي لا تستطيع أن تدوسها فعليك أن تبوسها" تلك هي القاعدة السلوكية الأم في مجتمع الحاضرة، ولكن برغم ما تشير إليه هذه القاعدة من حقارة أصحابها ودناءة طبعهم وأرومتهم وانحطاط أخلاقهم بل وانعدام إنسانيتهم؛ إلا أن الفضل يرجع إليها في إنتاج واختراع ذلك الشيء الذي نسميه اليوم بـ "القانون".
عندما أدرك سكان الحاضرة أنهم يعيشون في غابة هي أشد وحشية من غابات البهائم، عندما أدركوا أن صراع الجبناء هذا صراع حرٌّ ومفتوح لا يقيده ميثاق شرف ولا تحكمه أي ضوابط أخلاقية، بات كل منهم لا يدري من أين يأتيه الغدر، بات يشك في كل من يتعامل معه حتى أقرب الناس إليه، ففي غابة الجبناء لا يكون البقاء إلا للأنذل، عندها تطلعوا لابتكار نظام يحكم هذا الصراع، نظام يحميهم من أنفسهم، أو على الأقل يعطي الجميع فرصة متساوية للاستنذال، أما المغفل الذي لا يستغل فرصته يسقط حقه في حماية القانون.
القانون هو أحد أقوى أنظمة الاستعباد التي اخترعها الإنسان لنفسه، هو أداة لسلب الحرية ممن لا يستحقونها، وانتزاع الإرادة من أولئك الذين تجردوا من نوازع الضمير والضبط الأخلاقي الذاتي، وأصبحت إرادتهم لا تصب إلا في مصالحهم الأنانية حتى لو على حساب تدمير من حولهم، فجاء القانون ليضع الأغلال في أيديهم ويكبلهم ببنوده ويوجههم حسب إرادته لا إرادتهم وينتزع منهم حرياتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
في الحاضرة تجد قضبان الأنظمة والقوانين وشراك الأوامر والتعليمات والتوجيهات والعقوبات الصارمة قد أحاطت بكل فرد كما تحيط جدران الزنزانة بسجنائها، أقفاص افتراضية تسير في الشوارع وبداخل كل منها أسير مكبل ببنود من الأغلال السلوكية، لا يكاد يحيد عن طريقه المرسوم له سلفاً حتى تعيده سياط السجّان إليه دون شفقة أو رحمة، ولكن الغريب حقاً هو أن أحداً من أولئك الأسرى لا يطمح بتاتاً للخروج من زنزانته، بل لا يفتأ يطلب المزيد من الأغلال والقيود، ويطالب بإضافة المزيد من البنود في صكّ الاستعباد هذا، بل ويبدي استعداده المطلق لتلقي المزيد من الأوامر والخضوع للمزيد من القوانين والمكبلات السلوكية، وهي حالة فريدة من السادية وتعبير فاضح عن تلك النفسية الرعديدة التي يتمتع بها هذا المخلوق.
ليس حباً في القانون ذاته ولا قناعة بعدالته الجوهرية وقدسيته التشريعية ونزاهته المطلقة عن النقص والعيب والثغرات، وليس هياماً بتلك الأغلال وعشقاً لقضبان الزنزانة وجدرانها، ولكنها حالة الرعب الاجتماعي التي يعيشها الحضري من غدر شركائه القسرييّن في المكان، حالة العداء المبطن التي تحكم العلاقة بين أولئك الشركاء، صراع الجبناء الذي أرخى سدوله على المكان ليدفع بالفرد إلى طلب الحماية القانونية ضد شركائه، حتى لو كلّفته تلك الحماية حريّته. فتجد الحضري يقبل بل ويطالب بإلحاح أن تفرض عليه جميع تلك القيود السلوكية، ويحرم من إرادته الحرة، وتسلب منه جميع خياراته، ويخضع لتلك الأنظمة القاسية والرقابة اللصيقة على تحركاته وسكناته، وتفرض عليه من الالتزامات الخانقة والإملاءات المذلة ما يجعل حياة العبيد أكثر حرية من حياته، وذلك في مقابل أن تفرض نفس الأغلال القانونية على أخيه وجاره وصديقه وقريبه وشريكه في المكان، كل ذلك على أمل أن يحول هذا القانون دون تعرضه لخيانة جاره وغدر صديقه وتعدي قريبه على لقمة عيشه.
منذ أن وجد الإنسان الزراعي على سطح الأرض قبل ما يناهز التسعة آلاف عام وحتى اليوم، ومع ضخامة كل هذا الزخم من التجارب التشريعية؛ لم يتمكن المشرع الحضري من التوصل لمفهوم حقيقي للعدالة يمكن صياغته في قانون ثابت وواضح ومقبول لدى الجميع لفترة زمنية معقولة، إن ثقافة الحاضرة لم تتمخض حتى اليوم عن هذا المفهوم، فطيلة تلك الآلاف المؤلفة من السنين ومازالت قوانينهم تتغير بشكل دوري، ليس لأنها مرنة بما يكفي لمواكبة المتغيرات الشكلية للحياة، بل لأنها في كل مرة تثبت فشلها في تحقيق الهدف الأساسي من وجودها، وهو تحقيق العدالة، تلك العدالة التي يختلف تعريفها في ثقافة الحاضرة مع أي اختلاف يحدث في ميزان القوى الاجتماعية داخل حدود المكان. ما معنى هذا الكلام؟

إن العدالة عقيدة وإيمان قبل أن تكون سلوكاً وطريقة حياة، هي في معناها الأخلاقي المجرد أكثر سمواً وشمولاً من أن يتم تقييدها في نص قانوني أو تحديدها بمنهج تشريعي مادي أو تجسيدها في نمط سلوكي جامد. إن المفهوم العقائدي للعدالة هو الأصل الذي يجب أن ينبثق منه النص القانوني، فالنص خادم للعقيدة لا سيداً عليها، وإذا ما حدث انفصال أو قطيعة بين المنهج التشريعي وأساسه العقائدي عندها يسقط حق هذا المنهج في الادعاء بقدرته على تحقيق العدالة.
إن النص القانوني من شأنه أن يعطل عقيدة العدالة ويجرّدها من مفهومها الأخلاقي ومعانيها السامية إذا ما تمكن من فرض نفسه كأصل مرجعي أساسي لصياغة النمط السلوكي في المجتمع وليس كإطار شكلي يعبر عن المرجعية الحقيقية المتمثلة في العدالة كمفهوم عقائدي مجرّد وكمعاني أخلاقية فلسفية. وإذا ما أردنا توضيح الفرق بين إرادة العدالة والتأطير الشكلي للنص باعتبار هذا التأطير تعبيراً حسياً متجسداً عن تلك الإرادة، فإنه من الأقرب أن نشبه النص القانوني بلجام الفرس أو بردعة الحمار أو عقال البعير أو حبل الطوق الذي يوضع حول عنق الكلب، فلنفرض أن هنالك فرساً آمنت إيماناً مطلقاً بالطريق الذي تسلكه والتزمت في قرارة نفسها أن لا تحيد عنه قيد أنملة، التزاماً نابعاً عن قناعة وإيمان عميق بأنه الطريق الأفضل والأمثل والأقرب والأكثر أماناً، ترى هل تحتاج هذه الفرس إلى لجام؟
اللجام هو أداة الضبط والتوجيه التي يستخدمها الفارس لإجبار فرسه على سلوك طريق محدد والبقاء ضمن مساره رغماً عن إرادتها، وهو ضروري بسبب وجود قطيعة عقائدية بين إرادة الفارس وإرادة الفرس، حيث بدون اللجام لا تأتمر الفرس بأمر فارسها ولا تسير في الطريق الذي يتوافق مع قناعته ورغبته بل مع قناعتها ورغبتها، هي لا تسلك المسار الذي يؤمن به الفارس بل الذي تؤمن هي به ويناسبها ويوافق هواها، والذي قد لا يكون متوافقاً مع هوى الفارس بل متعارضاً معه، وبواسطة اللجام يرغم الفارس الفرس على تنفيذ إرادته لا إرادتها، فهو وسيلة لسلب إرادة الفرس وتعبيدها لإرادة الفارس.
ولمن أشكل عليهم فهم هذا التشبيه نقول بأننا نقصد بإرادة الفارس إرادة العدالة المطلقة، أي إرادة الله، أي المفهوم العقائدي المجرد للعدالة قبل أن يتجسد هذا المفهوم في صيغته الحسية على هيئة شرائع وقوانين. كما أننا نقصد بالفرس الإنسان الزراعي أو الحضري الذي لا يستطيع بفطرته المشوهة وأرومته الثقافية الفاسدة أن يستحضر في نفسه ذلك المفهوم الفلسفي السامي لإرادة العدالة الإلهية بمعناها المجرد، لذلك لزمه أن يعاين أمامه صورة حسية متجسدة تعبر عن تلك الإرادة تعبيراً مادياً ملموساً، وهذه الصورة هي القانون أو الشريعة التي نشبهها هنا باللجام.

في هذه الحالة يكون اللجام هو حلقة الوصل بين إرادة الفارس وسلوك الفرس طالما بقي الفارس ممسكاً باللجام، بمعنى أنه لو ترك الفارس اللجام أو فقد السيطرة عليه تحصل قطيعة تامة بينه وبين فرسه، ويصبح سلوك الفرس مستقلاً عن إرادة الفارس، بل ومتعارضاً معها على قدر التعارض بين إرادة الفرس وإرادة الفارس.
إن أهم صفة يجب توفرها في اللجام كي يكون فعالاً وعملياً هي المرونة، فإرادة الفارس قد لا تتغير، هو يريد الانتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) في أسرع وقت، وسيبقى ثابتاً على هذه الإرادة طيلة الطريق، ولكن تعبيره عن هذه الإرادة يختلف مع كل منعطف أو منحدر يقابله في ذلك الطريق، وعلى حسب ظروف الطريق ووعورة تضاريسه تختلف درجة شدّ الفارس للجام أو إرخائه له كما يختلف اتجاه هذا الشدّ وذاك الرخي بحيث تبدو الأوامر التي تتلقاها الفرس عن لجامها متعارضة ومتناقضة إلا أنها في كل مرة تعبّر عن نفس الإرادة حتى تصل بالفرس في النهاية إلى نفس المكان المقصود، ولكن ماذا لو أصاب هذا اللجام جمود وتحجّر؟ ماذا لو ثبت اللجام على نفس الوضعية في منتصف الطريق؟ هل هنالك وسيلة أخرى تستطيع من خلالها الفرس تجاوز اللجام بحيث تتلقى أوامرها مباشرة من الفارس دون وسيط؟
إنه لمن نافلة القول أن اللجام عديم الفائدة في ذاته وليس له أي قيمة عملية أو دور توجيهي سلوكي دون ارتباطه بالفارس والتصاقه بيده التصاقاً دائماً وتفاعله مع إرادته تفاعلاً آنياً مباشراً. وهو الوصف ذاته الذي ينطبق على النص القانوني عندما لا يكون مرتبطاً بالعدالة كعقيدة وقناعة معنوية مقدسة ورموز أخلاقية سامية وإرادة اعتبارية عليا ارتباطاً عضوياً.
ربما أكون لا أزال أتحدث في دائرة الرموز، لذا قد يلزمني المزيد من التشبيه والتمثيل عسى أن تصبح الفكرة أكثر وضوحاً، فلنأخذ على سبيل المثال أبسط القوانين وأكثرها شيوعاً، وهو قانون أجمعت غالبية المجتمعات الحضرية على تطبيقه، إنه قانون تحريم السرقة وتجريم فاعلها، بغض النظر عن تفاوت العقوبات المفروضة على مرتكب هذه الجريمة. فإذا ما تناولنا هذا القانون من زاويته العقائدية أي من خلال البحث في العلاقة بين شكله النصي وعمقه الفلسفي نجد أن إرادة العدالة الكامنة خلف النص القانوني هي احترام ما يبذله الإنسان من جهد؛ أياً كان هذا الجهد فهو جزء من شخصية الإنسان التي تفرض إرادة العدالة احترامها، فأموال الإنسان وممتلكاته هي ثمرة جهده، فهي إذاً جزء لا يتجزء منه تم تحويله من طاقة جسدية أو عقلية كامنة إلى صيغة مادية متجسدة في المال والممتلكات، والاحترام الكامل لهذا الجهد يتطلب نوعاً من التكافؤ بينه وبين مردوداته المادية، وذلك الشكل من التوازن بين الجهد والمردود هو الغاية العقائدية التي تنشدها إرادة العدالة، والتي يعتبر قانون تجريم السرقة هو احد أشكال التعبير عن هذه الإرادة، ولكن هل السرقة هي الوسيلة الوحيدة للإخلال بهذا التوازن؟
إن ما يحدث في مجتمع الحاضرة من أنماط الإخلال بهذا التوازن والتي تباركها القوانين بل وتحميها أيضاً لتفوق السرقة في هضمها للحقوق وبخسها للجهود وسلبها للأموال والممتلكات بغير وجه حق، فما نشاهده من أنواع الخداع والاحتيال اللفظي والبصري والنفسي والعاطفي التي يمارسها المسوّقون والدلالون والبائعون ومندوبو المبيعات والمروجون وعارضات الأزياء وغيرهم ممن لا يخلو منهم ركن من أسواق الحاضرة وشوارعها؛ والتي تصب جميعها في بوتقة سلب أموال الناس بالباطل وسرقة ثمرات جهدهم بأساليب لا تقل في خستها ودناءتها عن السرقة المباشرة التي ينص القانون على تجريمها؛ هي شواهد واضحة على عمق تلك القطيعة بين النص القانوني وبين روحه وجوهره المتمثل في إرادة العدالة.
هنا نرى كيف انفصل النص القانوني عن روحه فتحولت المرجعية التشريعية من اعتمادها على إرادة العدالة في تحقيق التكافؤ بين الجهد والمردود؛ لتنصرف إلى الاعتماد على النص المجرّد كمرجع وحيد للتشريع، فلم تعد تلك الإرادة هي الغاية العليا للتشريع المالي، ولم يعد ميزان التكافؤ هو المرجع الذي تنبثق منه جميع قوانين المبادلات التجارية وإلا لانسحب التحريم والتجريم على كل عملية احتيال وخداع تسويقي يتم بواسطته الاستحواذ على مردود ضخم في مقابل جهد ضئيل لا يتناسب مع قيمته الفعلية المكافئة، بل أصبح النص المتعلق بتحريم السرقة هو مرجع في ذاته، وأصبحت السرقة محرّمة لذاتها وليس لغرض أسمى هو حفظ الحقوق واحترام الشخصية الاعتبارية للإنسان متمثلة في ثمرة جهده، ولم يعد الاعتداء على تلك الثمرة جريمة تستحق العقاب إلا إذا اتخذ هذا الاعتداء لنفسه شكلاً محدداً وهو السرقة المباشرة، فالاعتداء إذاً ليس جريمة في حد ذاته بل الصيغة النصية لهذا الاعتداء هي المرجع القانوني الذي من شأنه أن يحدد فيما إذا كان المعتدي يستحق العقاب أم يستحق المكافئة.
إن المثال الذي أحب الاستشهاد به دائماً لأنه في نظري الأكثر تعبيراً عن هذه القطيعة هو مثال القرية التي كانت حاضرة البحر، وهو مثال رائع في تصويره لمدى كارثية النص القانوني عندما يتحول إلى مرجعية تشريعية مستقلة عن مصدرها الاعتباري، عندما يتحقق الانفصال والقطيعة الكاملة بين النص وروحه يتحول ذلك النص إلى مجرّد رسم بهيم لا يعبّر عن أي معنى من معاني العدالة.
لم يغضب الله على أهل القرية لأنهم خالفوا النص، فهم لم يخالفوه بتاتاً بل التزموا بحرفيته واتبعوه اتباعاً أعمى، برغم ذلك عاقبهم الله تعالى ذلك العقاب البالغ القسوة، لماذا؟
إن هذا المثال يضعنا أمام قاعدة فقهية في غاية الخطورة وهي أن شريعة الله لا يقيدها النص بل تقيده هي بما ترمي إليه من غاية عظمى هي احترام جوهر العدالة الإلهية الكامنة وراء النص، فالله هو العدل سبحانه، والعدالة صفة من صفاته العلى، فهي جزء لا يتجزء من ذاته المقدسة، وأي اعتداء على العدالة هو اعتداء مباشر على الذات الإلهية، والنص ما هو سوى شكل من أشكال التعبير عن إرادة العدالة، فهو إذاً خادم للعدالة وليس العكس. تلك قاعدة فقهية تم إسقاطها عمداً من كتب الأصول، فكانت النتيجة كل تلك الكوارث التشريعية التي نعاني منها اليوم.
لم يكافئ الله أهل القرية على احترامهم لحرفية النص وتقديسهم لرسمه، ولكنه على العكس من ذلك أنزل بهم أبشع أنواع اللعنات لأنهم حاولوا استخدام النص كأداة للاعتداء على الذات الإلهية وإهانتها والاستهزاء والاستهتار بإرادتها الكامنة خلف النص، حاولوا التذاكي والاستهبال على الله ومخادعة جوهر إرادته، فلم ينفعهم التزامهم الحرفي بالنص ولم تشفع لهم تلاوتهم لكلماته ومقاطعه أو تقبيلهم لحبره وورقه.
يظهر لنا هذا المثال كم هي مقدسة إرادة العدالة الإلهية، وكم هو هامشي بل ووضيع وتافه ذلك النص الذي يفقد ارتباطه بجوهر تلك الإرادة، فبينما كانت الإرادة الإلهية تقتضي تقديس يوم السبت؛ كان النص بتحريم العمل فيه مجرّد شكل من أشكال هذا التقديس. فلم يحرّم الله العمل لذاته بل لكونه يشكل اعتداءً على هذه القدسية، فالنص لم يحوِ في ذاته أي معنىً مقدّس، وإنما استمدّ قدسيته من احترامه لتلك الإرادة وارتباطه بجوهرها حتى إذا ما انفك هذا الارتباط سقطت جميع تبعاته.
هنا نعود لمثال اللجام لنرى كيف تحول هذا اللجام من أداة للضبط والتوجيه عندما كان الفارس ممسكاً بطرفه الآخر، إلى مجرّد حبل تافه لا قيمة له ولا معنىً بعد أن تركه الفارس ألعوبة في فك الفرس، فأصبحت الفرس تطوّح به يميناً وشمالاً كيفما أرادت وأينما اتجه بها مزاجها وقادتها رغبتها، فاللجام أداة مرنة مطاطية، يمكن تطويعها وتوجيهها في جميع الاتجاهات، والعبرة ليست في اللجام بل في الجهة التي تمسك بطرفه وتطوّعه رهن إرادتها، سواءً كانت يد الفارس أم فكّ الفرس. عندما سقط طرفه الأعلى من يد الفارس أصبحت الفرس توجه اللجام حسب إرادتها وليس العكس. عندما فقد اللجام ارتباطه بالفارس سقطت عنه صفة الضبط والتوجيه.
إن تلك البدعة التي انتشرت في مجتمعنا ونسأل الله لمبتدعها الرحمة والمغفرة وأن يجزيه على اجتهاده الخاطئ أجراً واحداً فقط، إنها بدعة البيع بالأجل، تلك البدعة التي عملنا من خلالها على مخادعة روح العدالة الإلهية الكامنة خلف نصّ تحريم الربا، فمحق الله من أموالنا البركة، وحوّل ثراءنا إلى فقر وفاقة، ومدّخراتنا إلى ديون ومطالبات، وهي عقوبة رحمنا الله بها أي رحمة، حيث لم يسخطنا إلى قردة وخنازير كما فعل بالذين من قبلنا.
إلا أن هنالك جريمة تشريعية مازلنا نصر على ارتكابها حتى اليوم هي أعظم دناءة وحقارة وكفراً ومخادعة لله واستهبالاً عليه ومجاهرة بتحدي روح عدالته وجوهر إرادته بأسلوب لم يصل بنو إسرائيل لمعشاره، جريمة لو قارنّاها بما فعله أهل القرية لاعتبرنا أهل القرية قديسين أبراراً، إنها جريمة مخادعة عدالة الله والاحتيال على إرادته في تحريمها للاحتيال والمخادعة، وأعني تحديداً في نص لعن النامصة.
إن الكارثة هي إدراكنا الكامل بأن تحريم النمص لا يصب إلا داخل إطار الإرادة الإلهية العليا بتقديس الصدق والوضوح والشفافية والمصارحة المطلقة عن طريق تحريم وتجريم ولعن جميع أنواع الاعتداء على قدسية الحقيقة والصراحة والصدق والمكاشفة الكاملة في شتى ضروب المعاملات بل وفي جميع أنواع العلاقات المدنية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، وأن النمص والوصل والتزوير والغش وكافة أنواع تحريف الحقائق ومواربتها لا يجمعها سوى عامل واحد هو الاعتداء على قدسية الحقيقة، وبرغم إدراكنا هذا تجدنا نمارس أبشع أشكال التغابي والاستهبال على إرادة العدالة، فنستعيض عن النمص بالتشقير أو الصبغ الذي يخفي ما نريد إخفاءه وتزويره وتغييره من خلق الله ويؤدي إلى نفس النتيجة ويحقق نفس الغاية والغرض الذي يحصل بالنمص أو الوصل أو أي شكل من أشكال التزوير الأخرى.
لم يكن يلزمهم سوى فصل النص عن إرادته كي يتسنى لهم إعادة صياغة النص وتفسيره وتأويله حسب ما تمليه عليهم إراداتهم وشهواتهم وأهواءهم، عندما أصبح الحصان رباً للجامه، والناقة ربة لعقالها، والحمار رباً لبردعته، والكلب رباً لطوقه وحبله، أصبحت البهيمة هي المرجع الأعلى في تفسير النص القانوني وتأويله وشدّه ورخيه وعجنه وفرده وطحنه وخبزه وتقديمه للزبائن.

إن القوانين الوضعية التي أفرزتها ثقافة الحاضرة لم تتمكن يوماً من تحقيق العدالة، فهي لم تنبثق أصلاً من روح العدالة بل خرجت من رحم الصراع الاجتماعي، صراع الجبناء ذوي المصالح المتضاربة والمتعارضة الذين أجبرهم المكان على التعايش القسري المزيف داخل إطاره الجغرافي محدود الموارد والفرص، فخرجت تشريعاتهم لا تعبر سوى عن مخرجات هذا الصراع كالأنانية والانتهازية والمادية والبراجماتية وغيرها من الأنماط السلوكية التي لا علاقة لها بالعدالة ولا مكان للعدالة في وسطها.
إن روح الحاضرة وإرادتها العليا تتمثل في مصطلحين رئيسين: المصلحة والأمن، تلك هي المرجعية الأم ليس فقط للقانون الحضري بل لكافة الأنماط السلوكية في مجتمع الحاضرة. فالمصلحة المادية البحتة التي جمعت ذلك اللفيف الديموغرافي المتباين تحت سقف مكان واحد هي وحدها التي تقف خلف صياغة جميع أشكال العلاقات الاجتماعية تحت ذلك السقف، هي التي تقف خلف مصاهراتهم وتحالفاتهم ومؤامراتهم وتحزباتهم ومصالحاتهم وعداواتهم ونزاعاتهم وتفاعلاتهم المختلفة، وهي التي تصنع مفاهيمهم وقناعاتهم وتصوغ عاداتهم وتقاليدهم وترسم سلوكياتهم وأخلاقهم، وهي التي تحدد خطوطهم الحمراء التي يعرفون بها حلالهم من حرامهم، بل وعلى ضوء تلك المصالح المادية وحدها تتحدد لديهم مفاهيم الحق والباطل والشرف والوضاعة والكرامة والخسة والرفعة والدناءة والسيادة والعبودية، ومن خلالها فقط ترسم حدود الطبقية وتتحدد هيكلية المنازل والمقامات الاجتماعية ويعرف أعيان المجتمع من سفهائه وسادته من عبيده.
لم تكن تلك المصالح لتترك مجالاً للحس الإنساني السامي أن يترعرع في وسطها، لم تكن لتترك مكاناً شاغراً لمعاني التعاطف والتراحم والألفة والمودة كي تعمل عملها في صياغة السلوكيات وتهذيب المفاهيم الأخلاقية أو حتى –على أقل تقدير- صياغة مفهوم واضح للعدالة لدى أفراد المجتمع الحضري، فباتت أكثر المفاهيم ضبابية في هذا المجتمع هي مفاهيم الصواب والخطأ والحق والباطل، وأصبحت تتغير مدلولات هذه المفاهيم دورياً مع تغير موازين المصالح وحسب ما تدره إلى جيوب أصحابها من مردود مادي، فصواب اليوم سرعان ما يتحول إلى خطأ في الغد، والجريمة التي تستحق العقاب سرعان ما تصبح فضيلة يستحق مرتكبها التكريم إذا ما تمخضت عن جلب مصلحة مادية لفئة نافذة داخل المجتمع.
بطبيعة الحال انعكست تلك العقيدة النفعية على السلوكيات العامة لتؤسس نمطاً سلوكياً انتهازياً أصبح مع مرور الوقت قاعدة تستند إليها جميع أنواع التعاملات، وبات الفرد الحضري لا يرى الأمور ويقيمها إلا من منظور الأنانية وإيثار الذات، وهو منظور عملي أثبت فاعليته في جلب المنفعة الآنية للفرد على حساب الآخرين، إلا أنه قلّص من مدى نظرة الحضري للأشياء وضيّق من أفق تفكيره فلا تجده يرى من عواقب الأمور ما يتعدى كثيراً موضع قدميه. ففي ظل الصراع المحتدم حول مصدر محدود ومتناه للرزق يحرص كل طرف من أطراف هذا الصراع على انتزاع أكبر قدر من هذا الرزق لنفسه بصرف النظر عمّا يصيب بقية الأطراف من ضرر وهضم وانتقاص من حصصهم المفترضة منه، وتلعب النفسية الرعديدة والكسولة للحضري دوراً قيادياً في تغذية سلوكه الأناني، فعلى قدر خوفه من الجوع وحرصه على طلب الراحة والكسل واستماتته في تحقيق قدر من الأمن الغذائي من شأنه أن يطرد شبح المستقبل المرعب من مخيلته نجده يزداد نهماً في جمعه لذلك الرزق وانكفاءً هستيرياً على طلبه وتحصيله بل وتخزينه وادخار أكبر قدر منه لنفسه دون الالتفات بعين الرحمة والإنسانية لأولئك الذين يتضورون جوعاً حوله ممن انتزع ما بأيديهم من رزق لنفسه.
من أكثر الأمور إثارة للسخرية في مجتمع الحاضرة أنه كلما ازدادت أعداد البشر الذين يتزاحمون في بقعة ضيقة من المكان زاد الشعور بالغربة والوحشة في نفسية كل فرد منهم، وبرغم ما يظهرونه من ودّ كاذب وتآلف مزيف وتفاهم وهمي إلا أنّ أحدهم لا يستطيع وضع ثقته في الآخر، فكلما تزايد عددهم وتضاءلت فرص الكسب أمامهم تضخّم الحقد في قلوبهم على بعضهم البعض، وتحوّل كل منهم إلى ثعبان يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على صاحبه وانتزاع ما في يده أو إزاحته عن مكانه حول المائدة للاستئثار بحصته في الطعام علّها تحقق له مزيداً من الأمن الغذائي المستقبلي.
في مجتمع الحاضرة يدرك الفرد أنه لو لم يزاحم أولئك المنكفئين حول المائدة ويحتل لنفسه مكاناً بينهم فسيبقى خارجها يحتضر حتى الموت جوعاً دون أن ينظر إليه أحد منهم بعين من الرأفة أو حتى يلقي إليه بقطعة من فضلات الطعام من شأنها أن تؤجل موعد وفاته، فالكل مشغولٌ بنفسه، قد أسكرته شراهته وذهب الخوف من الجوع بلبه فلم يعد يرى سوى تلك القطع المحدودة من اللحم يتجاذبها ويتقاتل عليها الجالسون حول المائدة بمنتهى الشراسة والوحشية، لا يستطيع أحدهم التوقف برهة لالتقاط أنفاسه وإلا فاته شيء من الطعام إلى صاحبه الذي كان يتحين غفلته تلك منذ زمن لينتزع ما تبقى في طبقه من قطع اللحم.
لقد شق هذا السلوك الاستنذالي لنفسه طريقاً سريعاً داخل العمق العقائدي للثقافة الحضرية، فلم تكن الأنانية والانتهازية والنذالة لتبقى محصورة داخل إطارها السلوكي، بل تحوّلت مع الزمن إلى فلسفة أخلاقية سامية تمكن الحضري من خلالها تبرير ذلك السلوك الانتهازي وتقديم النذالة في لباس من الشرعية والقدسية لتصبح النذالة بعد ذلك مقياساًً أخلاقياً رئيساً للعدالة الاجتماعية.
فعبارة "شاطر" التي تعني "لص ذكي أو قاطع طريق نذل" أصبحت عبارة مديح وثناء يطلقها المدرسون على الطلبة الأذكياء لتشجيعهم على مواصلة التفوق وتحفيز غيرهم على تقليدهم والاقتداء بهم، فـ "الشاطر" الذي كان "نذلاً" في السابق أصبح الآن رمزاً أخلاقياً مقدساً ومعياراً سلوكياً يتجسد من خلاله النموذج الأكثر تبريراً للحصول على المال، والأكثر تعبيراً عن العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات داخل مجتمع الحاضرة. وقس على ذلك عبارات مثل "الفهلوي" "الحذق" وغير ذلك.
في المقابل نجد ذلك الذي يتنازل عن بعض حقوقه أو مكتسباته المادية للآخرين دون مقابل، ويضحي بشيء من رزقه أو وقته أو جهده في سبيل نفع غيره نفعاً لا يدرّ عليه مردوداً مادياً، نجده لا يحظى بذلك القدر من الاحترام داخل مجتمع الحاضرة، بل على العكس من ذلك، فنجدهم ينعتونه بـ "الساذج" و "الدرويش" وربما "الغبي" و "الأهبل" و "المغفل" وغير ذلك من عبارات التحقير والامتهان التي تخرجه تماماً من دائرة القدوة وتقدّمه للنشء كنموذج سلوكي ينبغي النفور منه واجتنابه وعدم الاقدام على مجرّد التفكير في تقليده، فهو نموذج لمن يريد أن يضرّ نفسه ويدمّرها ويموت وحده جوعاً في ذلك الركن الأقصى من غرفة الطعام بعيداً عن طاولة الوليمة.
لثقافة الاستنذال هذه يرجع الفضل في تردي الشعور الإنساني داخل المجتمع الحضري، الأمر الذي تعكسه حالة الانعزالية النفسية التي حوّلت مظاهر الألفة والمودة ومناسبات التهاني والتعازي والتزاور والتواسي واجتماعات الأهالي والجيران ولقاءات الأصدقاء والأقارب إلى مجرّد شكليات جوفاء تخلو من مشاعر الود الحقيقي، فطابع النفاق الاجتماعي هو الأكثر وضوحاً في تلك المظاهر الاستعراضية التي تعبر عن مدى التناقض بين الجوهر والمظهر، ذلك التناقض الذي يرخي سدوله على جميع تفاصيل الحياة في الحاضرة ليبدو كل شيء على خلاف حقيقته مما يرسخ حالة عدم الثقة وفقدان المصداقية حتى بين الأصدقاء والأقارب والجيران، بل حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على الترابط الأسري، مما حدا بالفرد للنزوع إلى الانعزالية النفسية والفردية والتمحور حول الذات، وجعل من الأنانية سلوكاً مبرراً كما سبق وذكرت، فالفرد في مجتمع الحاضرة يدرك تماماً أن مشاعر الود والتعاطف والرحمة والصداقة والأخوة التي يبديها تجاهه من يحيطون به ليست سوى مشاعر سطحية مزيفة لا تعدو حدود المجاملات اللفظية التي ما تلبث أن تكشف عن زيفها مع أوّل أزمة حقيقية تحلّ به، خصوصاً إذا لم يعد أولئك المنافقون يجدون لديه ما يبرر استمرارهم في مجاملته، كأن يفقد ثروته التي كانوا يطمعون فيها أو منصبه الذي كانوا يهابونه لأجله.
بطبيعة الحال لم يكن للتكافل الاجتماعي عظيم شأن في مجتمع الحاضرة، فمن أهم منتجات عقيدة الأنانية هو ذلك الشعور الشامل باللامبالاة الاجتماعية والذي يعبرون عنه بعبارة "نفسي نفسي"، وهي العبارة التي من شأنها تدمير المنظومة الاجتماعية على المدى البعيد عندما تعمل على ترسيخ شعور الفرد باللامسئولية تجاه بقية أفراد المجتمع، فلا نجد كفالة الأيتام ورعاية الأرامل وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج من الصفات الشائعة في المجتمع الحضري، بل ولا نجد لروح التعاون والتعاطف والتراحم والنجدة أثراً حقيقياً في السلوك الاجتماعي العام. في مقابل ذلك نجد "نفسي نفسي" وقد عملت عملها في صياغة نفسية الحضري على الطمع والبخل والجشع وأثرة الذات والعدائية المتحفزة تجاه الغير وعدم الإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع بشكل عام، الأمر الذي من شأنه الانحدار بالمجتمع إلى حالة من الفوضى العارمة؛ ووضعية من التطاحن الاستنذالي لا تحكمها القيم ولا تضبطها المباديء، هنا يصبح القانون مطلباً ضرورياً ليس لتحقيق العدالة بل للحيلولة دون الانهيار.
فالأنانية سلوك ذو أبعاد، تتجلى نتائجه التراكمية في سيادة حالة من الفوضى الشاملة وفقدان الضوابط والوصول بالمجتمع إلى حافة الهاوية بعد أن يفقد قدرته على تحقيق الحد الأدنى من التناغم بين مطامع أفراده. ففي ظل تلك الأجواء المكفهرّة من العداء المبطن والكراهية المتحفزة والأحقاد الكامنة في القلوب والمتأهبة للتحول إلى طاقة حركية كلما حانت لها الفرصة؛ يصبح ضبط الأمن أهمّ من تحقيق العدالة.
إن الفقير والضعيف والجائع والغبي واليتيم والمظلوم والغارم والموتور الذين لا يتوقعون أي نظرة من العطف أو الرحمة من المجتمع سيتحولون لا محالة إلى أدوات لنسف هذا المجتمع وإشعال فتيل الفوضى الأمنية في أركانه، فالذي تخلى المجتمع عن مسئوليته تجاهه ولم يترك له أي خيار للعيش سوى الجريمة فإنه لن يتورّع عن ارتكابها ولن يشعر بأي وخز من الضمير عند قيامه بذلك. ولكن هل يمكن للأنانية والانتهازية والنذالة أن تترك فرصة لأحد أن يكسب رزقه ويحصل على قدر من الثروة والسلطة دون أن يترك خلفه أعداداً من الضحايا والمظلومين والموتورين والجائعين وربما الأرامل والأيتام؟ خصوصاً لو كانت تلك النذالة تستند إلى عقيدة مقدّسة، عقيدة الشطارة والفهلوة والحذاقة واللعب بالبيضة والحجر؟!
ذلك هو المفهوم الأول الذي استند إليه المشرع الحضري في صياغته للنص القانوني، مفهوم الحد الأدنى من الأمن الذي يحول دون انهيار المجتمع وتوقف عجلة الحياة فيه، ولكن من الذي تهمه مصلحة ذلك المجتمع؟ من الذي يعنيه استمرار عجلة الحياة فيه؟ فالحضري –بصرف النظر عن موقعه ووضعه الاجتماعي- لا يشعر بتلك المسئولية الاجتماعية التي من شأنها أن تحفّزه للاهتمام بمصير المجتمع ووجوده واستمراريته إلا بالقدر الذي يعود عليه بمنفعة شخصية، قد سيطرت الأنانية على سجيته وضيقت من حدود اهتماماته الاجتماعية فلم يعد بإمكانه الإحساس بأدنى تعاطف مع المصلحة العامة للمجتمع إلا بالقدر الذي يرتبط مباشرة مع مصلحته الخاصة، ولم تترك "نفسي نفسي" في مخيلته قدرة على الرؤية المستقبلية لمصير المجتمع ككل إلا إذا استشفّ نوعاً من الارتباط الوثيق بين استقرار ذلك المجتمع واستمراريته وبقائه وبين مستقبل مصالحه الشخصية فيه، هنا نأتي للمفهوم الآخر الذي تكتمل به منظومة المرجعية التشريعية للقانون الحضري، وهو مفهوم المصلحة الخاصة للفئة التي تمثلها الجهة التشريعية بصرف النظر عن تناغمها مع إرادة العدالة من عدمه.
هنا أعود لمثال السرقة كي أطبّق عليه هذه النظرية، حيث يظهر كيف جاء النص القانوني في آخر لحظة ليحول دون تطور عمليات السطو على ممتلكات الغير تطوراً يخرجها عن حدود السيطرة الأمنية، بمعنى أن القانون لم يكن له ليتدخل ما لم تؤد عمليات السطو هذه إلى نوع من الاضطراب الأمني الشديد الذي من شأنه تعطيل حركة الحياة الاقتصادية بشكل ينعكس سلباً على مصالح أرباب العمل، بل والأكثر من ذلك أن القانون نفسه كان يحمي تلك العمليات عندما كانت تصب في مصالح أرباب العمل هؤلاء، وذلك كأساليب الدلالة والتسويق والترويج الإعلاني التي تستخدم فيها أنواع الخداع والاحتيال اللفظي والبصري والنفسي وغيرها مما ذكرتها سابقاً.
إن ذلك الانحياز القانوني نحو تحقيق المصلحة الخاصة لأرباب العمل يأتي في سياق ما ذكرته سابقاً من طبيعة البنية التراكيبية للمجتمع الحضري والتي تقوم على أساس الطبقية الاقتصادية، فالحاضرة ليست سوى منشأة اقتصادية ينقسم أفرادها إلى فئتين لا ثالث لهما: عمال وأرباب عمل، وأمن المنشأة ضروري لاستمرار سير العمل بها، فهو مسالة تتعلق مباشرة بالمصلحة الخاصة لكل فرد من منسوبي المنشأة سواءً كان عاملاً أو رب عمل، ولكن شعور الفرد بالمسئولية الأمنية تجاه المنشأة يختلف حسب نوعية العلاقة بين مصلحته الخاصة وبين الحالة الأمنية العامة للمنشأة.
فالتزام الفرد بالنص القانوني لا ينبع من قناعته بعدالة هذا النص أو من إيمانه بما يقبع خلفه من روح الفضيلة، بل على العكس من ذلك، فروح الفضيلة والعدالة لا تراعي بتاتاً المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامّة، فهي روح تضحوية بالدرجة الأولى، لذلك لا نجدها تتناغم مع القانون الحضري بشكل من الأشكال. هنا نجد دافعاً آخر يقف خلف هذا الالتزام، إنها عقيدة الأنانية والانتهازية، عقيدة الشاطر حسن.
عندما يطالب الحضري في حماسة شديدة باحترام القانون والتشديد في تطبيق نصوصه على الجميع فإنه لا يفعل ذلك بدافع من عشقه لهذا القانون وهيامه بنصوصه؛ ولكن لرغبته في تطويع تلك النصوص لخدمة مصالحه الخاصة، فبينما نجده يعمل بكد على تكبيل من حوله بقيود القانون وأغلاله؛ نجده في ذات الوقت يحاول التملص من الخضوع لتلك القيود والتهرب من إلزام نفسه بها، فهو لا يجد حرجاً من الالتفاف حول تلك النصوص وتجاوزها قدر المستطاع ما دام هذا التجاوز يتم في صورة من المخادعة والاحتيال بحيث يمكن تمريره على الآخرين دون إحداث خسائر أمنية كبيرة. فالنص القانوني هنا لا يعدو كونه أداة من أدوات الصراع المستتر ووسيلة سلمية من وسائل السرقة وسلب الحقوق، سلمية لكونها تحقق للشاطر حسن نفس المكاسب ولكن دون سفك دماء.
إن المحامي أو الدعوجي الذي يستخدم النص القانوني لتحويل القاتل إلى بريء والبريء إلى قاتل؛ هو في الحقيقة لا يراهن إلا على إيمان المجتمع الحضري بشرعية الخداع والمراوغة والشطارة والفهلوة كنماذج سلوكية راقية، هو يراهن على القناعة المطلقة لدى الإنسان الزراعي بطريقة الشاطر حسن كأسلوب مقدّس للحصول على الشيء.
لقد أنتجت تلك النفسية الرعديدة حالة من التوافق لدى سكان الحاضرة على التحاكم إلى النص القانوني كبديل عن المواجهة المسلحة، ليس ثقة في عدالة النص ولكن حرصاً على التمتع بالأمان الشخصي حتى لو على حساب الكرامة، فنجد ذلك الدعوجي الذي تمكن بمكره وباحترافه للخداع والمراوغة أن يحتال على النص ليسلب حقاً أو يغير حقيقة أو يكرس ظلماً واضحاً نجده يحظى بعد كسبه للقضية بتصفيق واحترام من المجتمع بالرغم من إدراكهم الكامل بعدم عدالة قضيته، في المقابل نجد خصمه الذي خرج مظلوماً مهضوم الحق وهو يقبل هذا الظلم دون مقاومة، ليس لقناعته بعدالة القانون ولكن لتسليمه بشرعية أسلوب الدعوجي في انتزاعه لذلك الحق كأسلوب سلمي بديل عن أسلوب الاغتصاب المسلّح بما يتبعه من إراقة للدماء، أو لاستسلامه إلى القوة القمعية للقانون الذي يقف خلف تلك الشرعية ويحميها، وبطبيعة الحال فإن استسلاماً من هذا النوع لن يكون خياراً وحيداً إلا لأصحاب النفسية الرعديدة التي تخشى التبعات الدموية لمقاومة الظلم ورفض الرضوخ له، فالحضري لا يطيق منظر الدماء بالرغم من كونه يطيق كل شيء آخر.
من ذلك نجد أن انحياز المشرّع الحضري لفئة أرباب العمل ليس شراً كله، بل إن الفضل يرجع لهذا الانحياز في تحقيق القدر الحرج من تماسك البنية الاجتماعية واستمرارية دوران عجلة الحياة والحيلولة دون تجاوز الحد الأمني الفاصل بين بقاء المجتمع وانقراضه. فرب العمل –بدافع من مصلحته الخاصة- يمتلك قدرة نوعية على رسم إطار من الخطوط الأمنية الحمراء لمجتمع المنشأة بشكل عام، بحيث يمكن السيطرة على التداعيات الأمنية للصراع والتطاحن الاستنذالي بين العمال طالما بقيت محصورة داخل هذا الإطار، فمصلحته الخاصة تلزمه بالعمل على الحيلولة دون خروج المجتمع العمالي عن حدود السيطرة الأمنية حتى لا تتوقف عجلة الإنتاج التي تصب مكاسبها في نهاية المطاف داخل جيبه.
فالمشرّع الحضري إذاً لا تعنيه أعداد الضحايا والمظلومين وكميات الخسائر الفردية التي تتمخض عن هذا الصراع وما يصحبها من تدهورات وانهيارات أمنية هنا وهناك على المستوى الفردي للعمال والعبيد والخدم والموظفين بعقد السخرة ما لم تبلغ النتائج التراكمية لتلك الخسائر والتدهورات حداً يؤثر على الإنتاجية العامة تأثيراً نوعياً تتراجع معه الأرباح الفصلية للمنشأة ويتقلص مقدار الربح الصافي لمالكها أو مُلاّكها.
هنا نضع أيدينا على ذلك الارتباط الوثيق بين نشوء القانون الحضري ونشوء نظام الملكية (بكسر الميم)، فكلا النظامين نشأ من ذات الدوافع النفسية: الجبن والكسل، ولكن ترى أيهما ظهر أولاً؟




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات