يحلو لجزء كبير من المغاربة، في معرض تحليلهم لواقع الازمة الحاضر الذي يئن تحت وطأته الشعب منذ عقود، أن يرموا بكرة المسؤولية بعيدا عن مربع العمليات الحقيقي، إما في محاولة منهم لتبرير العجز عن الحديث بشجاعة، أو لمجرد الرغبة في القيام بالتدبير المفوض لخطاب الدولة الرسمي الذي طالما استهدف تضليل الراي العام وجعله حبيس القدر المكتوب. والحقيقة الضائعة في تفاصيل الامور أن من أهم الاسباب المباشرة لهذا الوضع الكارثي الذي نعيشه اليوم، تعود إلى ماض غير بعيد ، أي بمجرد تسلل حصان طروادة حزب الاستقلال، عام 1956، الى داخل موقع القرار، في غمرة انتشاء الشعب بقرب تحقيق "الاستقلال".
ولعل الذي انتبه جيدا لما قاله وزير الخارجية الفرنسي، عقب فوز حزب العدالة والتنمية بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، سيدرك، ربما، أن هناك مخاوف حقيقية وخفية، والتي لم ترد على لسان "آلان جوبي"، تختبئ داخل الرسالة التي بعث بها الرجل مضطرا لا بطلا إلى إسلاميي المغرب.
فالخطوط الحمراء التي رسمتها فرنسا كحدود لحماية مصالحها قبل تسليم المغرب هي بالضبط ما يُخشى من تجاوزها. اليوم وهذا ما يريد وزير خارجيتها، بالضبط، أن نفهمه نحن هنا و الآن.
فقبل 56 سنة من الآن، لم تشأ فرنسا أن تغادر المغرب بخفى حنين، ولهذا، وقبل خروجها، كان لابد لها أن تطمئن على مستقبلها، وذلك من خلال تحويل وجود استعماري بائد الى بنود استثمار عائد، عبر استقدام زعماء حزب الاستقلال إلى طاولة المفاوضات في "اكس ليبان" بشرق فرنسا، حيث تم التوقيع عام 1955، و بعيدا عن لعلعة رصاص المقاومة المغربية الاسطورية، على المعاهدة الشهيرة التي حرمت المغرب من تذوق طعم الاستقلال الحقيقي.
هكذا، وعلى حين غفلة من المقاومين، الذي سكنوا الجبال والصحارى تحسبا للانقضاض على فلول المستعمر، كان الدهاء الاستعماري يُعد لمعركة اخرى حاسمة في كواليس المفاوضات، انتهت، فيما بعد، بضربه لعصفورين بحجر واحد، حيث تكفل حزب الاستقلال من جهة بالانتقام لفرنسا من المقاومين، عبر شن حملة اغتيالات واسعة استهدفت المقاومين والتنكيل بالموقوفين منهم في السجون و المعتقلات، و من جهة ثانية تضمين الاتفاقية ببنود تُمكن من تسخير ايادي مغربية في خدمة مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية والثقافية.
ولأن فرنسا تعرف أن دخول الحمام في المغرب ليس كخروجه، فقد خلفت وراءها حصان طروادة الاستقلالي، الذي تسلل منه لاحقا اعداء الوطن الحقيقيين و الذين عمدوا إلى نخره من الداخل ونزع مناعته، والتي بدونها لم يكن ممكنا للمغرب ان يخطو خطواته بحُرية واستقلالية على طريق النمو الطبيعي.
لقد مهد حزب الاستقلال، بموجب هذه الاتفاقية المشؤومة، الارضية تماما لخدمة المشروع الاستعماري الفرنسي عبر زرع بذور اتفاقية "اكس ليبان"، التي وفرت على فرنسا دفع فاتورة فادحة من الخسائر التي تترتب عن وجودها العسكري المُكلف، و سهر، بعد ذلك، على نمو مصالح فرنسا من خلال سقي الثقافة الفرنسية، التي مكنت العائلات الفاسية المحظوظة من التخرج من مدارس البعثة الفرنسية بالمغرب واستكمال دراستهم في فرنسا في افق العودة لاستلام الحقائب الوزارية و احتلال المناصب العليا في الدولة. هذا في الوقت الذي ظل المغاربة يتابعون تعليمهم الذي عَرَبَه محمد الفاسي في سنة 1957 قبل ان يسلم الحقيبة ذاتها لاستقلالي آخر هو عز الدين العراقي، و الذي ارتأى ، ياللصدفة!، أن يتخرج كل ابنائه في مدارس البعثة الفرنسية ب"ليسي ديكارت" بالرباط.
إن اتفاقية "اكس ليبان" لم تكن في الحقيقة توقيعا على هزيمة فرنسا واعترافا باستقلال المغرب بقدر ما شكلت تنازلا صريحا لفريق الاستقلاليين المفاوض على سيادة المغرب الذي خرج بعدها فاقدا لإرادته المستقلة عن النفوذ الفرنسي.
ولان حرص فرنسا على استقرار المغرب على هذا الوضع الايجابي بالنسبة اليها، و الذي يمنح وبسخاء، الصفقات والتعاقدات التجارية للشركات الفرنسية، أهم بكثير من احترام المغرب لحقوق الانسان وباقي الخطوط الحمراء، التي تخللت تصريح وزير خارجيتها، فهي لا تنفك تُسرف في مدح العلاقات المتميزة التي تربطها مع مستعمرتها السابقة والحالية ولا تُفوت فرصة دون التعبير عن دعمها لأي مبادرة سياسية كانت أو اقتصادية مالم تسِر هذه الاخيرة ضد تيار المصالح الفرنسية الذي ينشط طوال الوقت في المياه الاقليمية.
وبالطبع فالاستقلاليون الذين أمنوا عبور هذا التيار القوي عبر قناة "اكس ليبان" لم يخرجوا خاويي الوفاض، فمقابل الخدمة المقدمة لأصدقائهم الفرنسيين، حصلوا على رخص استثنائية حولتهم ، و في زمن قياسي، إلى مليارديرات يجنون الارباح الخيالية على حساب المستضعفين في الارض، فيما نفوذهم السياسي تعزز عبر احتكار حزب الاستقلال للمناصب والوزارات والمؤسسات العمومية التي يستحيل ان تخلو من ذكر لأسماء العائلات الفاسية المعروفة والمؤثرة.
ولهذا، فيجب ان يعرف الجميع ان النتائج المهمة والمتقدمة التي حققها حزب الاستقلال في الانتخابات السابقة ، بالرغم من تدبيره الكارثي على رأس الحكومات، لا تعكس بالضرورة الحجم الحقيقي للحزب في قلوب المغاربة، بقدر ما هي حصيلة اشتغال "لآلة الاستغلال" التي يحتكرها الاستقلاليون و يسخرونها لصالح الحزب في المحطات الانتخابية.
إن الإصلاح الحقيقي والعاجل الذي يجب ان يعرف طريقه الصحيح في ضوء "المصباح" الاسلامي هو ان تعمد الجهات المسؤولة، اليوم، من داخل الدولة على تفكيك آليات حزب الاستقلال غير المشروعة و تفتيت "ذراعه الاقتصادية" التي توفر الدعم اللامحدود "لتمثيليته" المكشوفة.
فهل، يا ترى، سينجح اسلاميو العدالة والتنمية في قيادة سليمة لحكومة تسلل اليها ، ومن جديد، حصان طروادة الاستقلالي، أم أن إخوان بنكيران سيُجبرون على ترويضه قبل امتطائه نحو غزوات الاصلاح المنتظرة؟
التعليقات (0)