مواضيع اليوم

حصارٌ لجماعة المسجد

شيرين سباهي الطائي

2010-01-23 20:38:42

0

منذُ أن تنوّعَتْ دورُ العبادة الربانية لله تعالى في الديانات السماوية الثلاث الشهيرة الإسلام والمسيحية واليهوديّة وذكر النص القرآني أنّها "صوامعُ وبِيَعُ ومَسَاجد" والإشعاعُ الروحاني يأتي من هذه الأماكن لمن اعتنَقَ الدّينَ ولجأَ للتشريع،ويصِلُ النور المُشِعُّ بِجُهدِ الدّعاة لدينهم والمُبشّرين بديانتهم والمستمسكينَ بكُتِبِهم إلى من حولَهم من القرى صِدْقاً أو تزييناً ..

ومِنْ داخل هذه الأماكن انطلَقَت الثقافة الخاصة بكلّ منهج وبدأ الحُكمُ على كلّ مخالفٍ وانتشرت فلسفة التعامل مع الغير حسبَ وجهة نظر كلّ فريق وطريقة تفكير كلّ متديّنيه،ومن باطن هذه الأماكن التحَمَت نفوسٌ وأجسادٌ واعتقادات وكوّنَتْ مجموعات عملٍ في خارجه تُنافِحُ عن أصلِ الفكرة وتنشُدُ التوسّع في السيطرة الفكرية والمنهجيّة،ومن خلال الأعمال والأفعال والعبادات التي يُمارِسُها المريدون للكنائس والمعابد والمساجد تستكينُ الإرادات إلى ما يدعو لهُ الدستور المُعتدّ به عندَ كلّ طريق وما يُخطّطُ له الفكر المستقبلي في أيٍّ من هذه الديانات ..

فسمَحَت الكنيسةُ لنفسها بشهادة التاريخ أن تقودَ المسيحيّين بل والشعوب القاطنة تحتَ أكنافهم بتعليمات وتوجيهات قويّة وصارمة ردحاً من الزمن،وانتشر في عهدٍ ماض يعلمهُ كلّ من قرأ في التاريخ الأوربي والغربي عصرٌ من إحكامِ الوَطأةِ على الإمبراطوريات بأحزمة أحبار الكنائس الناعمة في شكلها والمحيطة بالصغير والكبير في شُغلِها وعملها،ولم يثُرْ الشعبُ المسيحيّ على كنائسه وأعمدتها بتحريضٍ من ديانة أخرى أو إسلامٍ ـ إرهابيّ ـ وفقَ التسمية الحديثة الظالمة،بل ثارَ من تلقاءِ ما ينالُه من نَيرٍ واستبداد ..

ومَعَ ذلك كلّه اتّجَه النشاطُ الكنائسي "لعَوْلَمَةِ" الدعوة النصرانيّة واستنفَذَ وُسعَهُ وجُهدَهُ في ابتكارِ آلاف الأساليب والطّرق لكي يكونَ "التبشيرُ" مخلوطاً باللحم والعظم وممزوجاً بالدّهن والعَسل ومُغلّفاً بالياسمين والأُقحوان،وخَرَجت تعاليمُ علمائهم ورهبانهم وقساوستهم في رحلات ابتعاثٍ خارجيّ تمُدَّ يدَ العون لليتامى وتضعُ في أفواه الجياع لُقمةً من خبزٍ فرنسي فاخر وتُعلّمُ الصبيان أحرفَ اللاتينيّة الحديثة ..

لم يمنعْ أحدٌ الإطارَ الدّيني الذي سلَكَتْهُ هيئاتُ الإغاثة باسمِ الصليب،ولم يتعرّض ناقدٌ محايدٌ أو علمانيّ أو يصفُ نفسه بالمستقل لمجهودات الجمعيات المنتشرة في العالم بأسره بداعي إعانة المنكوبين وإغاثة الملهوفين وعلاج المرضى وانتشال المصابين والموتى وفقَ شعارات "كنائسيّة" واضحة مُشهَرَة بيّنة،ولم يكُنْ من الناجع ولا الناجح حِراكٌ مسلمٌ خجول هنا أو هناك غلبَهُ النظام وخذَلتْهُ الحكومات ..

أمّا الجهة المقابلة البعيدةُ من طريقة "التبشير" المخمليّة فهي استعمارُ البلد المقدّس لكلّ الديانات الثلاث من قبل "اليهوديّة" باسم دينهم ومعتقداتهم التي لا مجالَ هنا لنقدها أو انتقادها،فالواضح للعامّي قبلَ المتعلّم بأنّ "وعدَ بلفور" وتكفير "ألمانيا" عن نازيّة "هتلر" المزعومة ضدّ اليهود وبُكاءَ عُتاةِ القادة الإسرائيليّين عندَ حائط الدموع وهم قد فعلوا ما فعلوه كلُّ ذلك يؤكّدُ النّهجَ الدّيني الذي انطلَقَ من "البِيَع" و "الأديرة" اليهوديّة كوسيلة حياةٍ يعتقدونها واجبَةً عليهم بحكمِ أنهم شعبُ الله المختار ..

وفي الإشكاليات المتواصلة بين العرب وإسرائيل في الشرق الأوسط تجذُبُ الفرقةُ المتديّنة في إسرائيل سياسة حكوماتها المتعاقبة نحوَ إصباغِ الخلاف والقتال والاعتداءات بصبغة دينيّة بحتة يردّونَها ـ حسبَ زعمهم ـ للتوراة أو التلمود والعهد القديم،وتجدُ في جيوب قتلاهم وأسراهم لدى الفلسطينيين تعاويذُ أيدلوجيّة وكتباً دينيّة يقرءونها وأغطيةَ رأسٍ تميّزوا بها يلبسونها عندَ الاتجاه لطقوسهم العباديّة ..

سُمِحَ للكنيسة أن تغزوَ العالم باسم دينها،وغُضَّ الطرفُ عن "الدّير" وهو يُديرُ معاركَ القتل والذبح ضدّ العزّلِ من الناس باسم دينه،وكتبَتْ "أمريكا" من عبارات إنجيليّة الكثير على أسلحتها الخفيفة والثقيلة ما بانَ للجميع بأنّهم لا غنى لهم عن هذا التمسّح ولو من بعيد بديانتهم،وعزَتْ إسرائيلُ كلَّ ما تقومُ به ووجودها أصلاً في هذه البقعة من العالم بأنّ الله أمرَها بذلك،والقانون الدولي يحمي ويُشجّع ..

أمّا "المسجدُ" الذي مثّلَ بمنارته إكسيرَ السلام للعالم أجمع بشهادة أعدائه قبلَ روّاده فهوَ الوحيدُ الذي ما زالتْ جميعُ القوى الدينيّة في العالم بسماويّتها ووثنيّتها وعلمانيّتها تخشاهُ وتحاصرهُ وتتمنّى زوالَه،وهم يعلمونَ أكثرَ من المسلمين بأنّ فلسفةَ المسجد قائمة بمنهجٍ من عندِ الله متكاملِ البنيان وواضح التطبيق يبدأ بالصلاة وينتهي بالحكمِ والسياسة فهوَ الإمدادُ الذي لا ينقطعُ معينه لمن اعتنقَ الإسلامَ ديناً ورضيَهُ منهج حياة ..

في "المسجد" زكَتْ النفوس وتطهّرَت الأبدان وانتشر العلم وتسامحَ المتخاصمون وقُضِيَت الخصومات وجُهّزِتْ القوى وتأدّبَ الأطفال ونُصِحَ النساء والرّجال وبدأت ثقافة الخدمة الاجتماعية والعملَ التعاوني المشترك وصُحِّحَتْ في رحابه المفاهيم وجُمِعَت في أروقته الأموال ولجأ إلى باحاته الخائفون والتزمَ في أركانه الراغبون في الخير ولم يدعُ المسجدُ إلا للسلام والخير ولكنّه ينتفضُ عندَ الكريهة ..

حاصرَ المسلمون جماعة المسجد قبلَ أن تفرِضَ عليهم سياساتُ مكافحة الإرهاب إجراءاتٍ تعسّفية وجدَتْ في العذر أوسعَ الأبواب للحرب،وانتقصَ المسلمون قبلَ غيرهم ممّن يكرههم قدرَ مساجدهم وهجروها قبل مراقبة خصومهم لها وعطّلوا دورها قبلَ أن يحلَّ بهم ما حلّ،وها هي الشواهدُ تثبتُ بأن انحسار دور المساجد في إرضاءِ نهم النفوس المسلمة سببُه العذرُ القادمُ من الغرب ..

لو أنّ جماعةَ مسجدٍ صغيرٍ في "كازاخستان" اجتمعت لتذهبَ في قافلةٍ سلميّة مناصرة لغزّة كما يفعلُ البرلمان الأوربي خيلاءً ورياءً لقُطِعَتْ رءوسهم قبلَ أن يصلوا إلى حدود بلادهم،ولو أنّ جماعةَ مسجدٍ في خليجنا العربي تآلفَتْ لتخدمَ العجزة والمقطوعين في أوطانهم لراقبَتْ تحرّكاتها أقمارٌ صناعيّة غربية لتجعلَها خليّةً نائمةً للإرهاب وهم من اكتشَفَ انتفاضتها،ولو أنّ جماعةَ مسجدٍ في ولاية "كولورادو" تقدّمَت بطلبٍ للحكومة الفيدرالية أن تكوّنَ اتحاداً ضدّ العنف هناك لسُمِحَ لها بحجّة الحريّة تزويراً للحقائق ..

أَفهمونا حديثاً بأنّ "المسجد" للصلاة والعبادة فقط،وهو أيضاً للصلاة وقتَ دخولها وتنتهي مدّة الفَسحِ بعدَ انقضاء الصلاة وعلى الجميع مُغادرة المكان مسرعاً في ركعتي السنّة لأنّ إغلاقَ المساجد بعد انقضاء الصلوات احتياطٌ واجبٌ ونافعٌ ومفيدٌ في ـ مكافحة الإرهاب ـ الذي يزعمون،وفرّغوا من عقولِ ناشئتنا أيّ دورٍ للمسجد سوى أّذانٍ يُرفع وإقامةٍ لا تُسمع وصلاةٍ لولا أنها واجبة لكان دخولُ المسجد يحتاجُ لتصريح قبلها بأسبوع،وعوّدونا على أنّ المسجدَ لا يصلحُ أن يكونَ مُحاصراً ..

إذاً لماذا لا يبحثُ المسلمون بحُكمِ أن "المسجدَ" هو عنوانُ ديانتهم وقبلةُ مُصلاهم عن طريقة يرتدّونَ بها للوراء مناورةً ويعودون بأدوارٍ أخرى "للمسجد" تفي بالغرض الذي من أجله جُعِلَ شعاراً والحكمة التي لها دعا الله تعالى؟ولماذا لا يستخدمُ المسلمونَ مساجدهم ودورَ عبادتهم لعبادةٍ مطلوبة من ربّهم فوقَ الصلاة المكتوبة والمكوث فيه بالسّعي نحو جمع الشمل وإشاعة روح التعاون بين الناس وجَعْلِ "المسجد" أساساً للحرّيات المستحقّة لكل إنسان وليس مكاناً يصلّي فيه المسلم وهو مُحاصرٌ فكراً ومصيراً ..
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات