الشاعر المبدع محمد بن خليفة العطية
من |
بقلم: حسن توفيق
بأجنحتها الدقيقة والرقيقة، تطير الفراشات.. تتنقل من غصن إلى غصن، ومن حديقة إلى سواها.. تنعش أرواحنا حين نراها بألوانها المتناغمة التي تشع موسيقى خفية وبهية.. لكن الحركة لم تكن هي البداية الأولى لكل فراشة، فقبل الحركة كان هناك كمون وتقوقع داخل الشرنقة، تمهيدا للإنطلاق حين يحين الأوان. ما ينطبق على الفراشة من تقوقع متمهل إلى انطلاق هادىء جميل هو نفسه الذي ينطبق على المسيرة الشعرية التي قطعها وما يزال يقطعها الشاعر المبدع القدير محمد بن خليفة العطية، فهو لم يخرج إلى رحابة الآفاق الإنسانية، إلا بعد طول تأمل في ذاته المتفردة، حتى يتسنى لفراشات قصائده أن تكون متميزة، وهي تواجه ما يحيط بها من فضاء.
يحتار الإنسان، لوقت قد يطول أو يقصر، حين يحاول تحديد ما يريد في بداياته المبكرة. فيما يتعلق بمحمد بن خليفة العطية، كان هناك صراع بين فنين في أعماقه، أحدهما هو الشعر والثاني هو الرسم، لكن الصراع بين الكلمة المموسقة الجميلة والفرشاة والألوان لم يستمر طويلا، فقد تم حسم الأمر لصالح الشعر، لكن الشعر ذاته لم يكن عربيا فصيحا خلال تلك المرحلة المبكرة - مرحلة الدراسة الثانوية، وإنما كان في شكل قصائد »نبطية« يقدمها لمحيطه الصغير في دائرة عدد محدود من الأقارب ومن أصدقاء مقتبل الشباب.
مرة ثانية، كان هناك قرار حاسم آخر، يتمثل في ضرورة التعرف المنظم على أسرار وجماليات لغتنا العربية العريقة، بعد أن أدرك محمد بن خليفة العطية أن القصيدة »النبطية« لا تحقق له طموحه المنشود في الخروج من أسر الدائرة الصغيرة إلى ما هو أكبر وأشمل، وهذا بالطبع ما دفعه متحمسا ومتشوقا إلى اختيار »قسم اللغة العربية والصحافة« بكلية الإنسانيات في جامعة قطر، ليكون مرتكزا لدراسته الجامعية التي اختتمت بالتخرج بعد الحصول على بكالوريوس في اللغة العربية والصحافة سنة 1987.
عرفت محمد بن خليفة العطية باعتباره شاعراً، منذ أن بدأت أتلقى مجموعة صغيرة من قصائده »النبطية« التي هجرها إلى الفصحى، منذ أن كان في المرحلة الثانوية، ولكني لم أتعرف على محمد بن خليفة العطية باعتباره إنسانا، إلا قبل سنة من اختتام دراسته الجامعية، وهذا ما دفعني إلى القول - في مقدمة كتاب »محمد بن خليفة العطية - شاعراً وإنساناً -« إن قصائده الرومانسية الجميلة هي التي دفعتني لأن أعلن له الحب، من قبل أن ألتقي معه أو أعرفه عن قرب.
بعد سنتين من تخرجه في الجامعة، كان محمد بن خليفة العطية قد نشر عشرات من قصائده على صفحات جريدة »الراية« القطرية، وقد لفتت هذه القصائد الأنظار إليه، وأصبح كثيرون من متذوقي الشعر العربي يقبلون على قراءتها بتقدير وإعجاب، وهذا ما دفعه إلى إصدار ديوانه الأول »مرآة الروح« سنة ،1989 وهو الديوان الذي استقبل بحفاوة وحب من جانب الكاتب الناقد الكبير الدكتور ماهر حسن فهمي، وكان - وقتها - عميدا لكلية الإنسانيات، التي كان الشاعر طالبا جامعيا فيها، أما الكاتب الناقد المستنير الدكتور محمد عبدالرحيم كافود، فإنه خصص بحثا مطولا متأنيا لدراسة ما يتعلق بهذا الديوان الأول من قضايا فنية وفكرية، وهو بحث بعنوان »مرآة الروح بين النزعة الرومانسية والاستجابة الواقعية« وقد نُشر هذا البحث أولا في »حولية كلية الإنسانيات« سنة 1980 ثم أصبح أحد فصول كتاب »دراسات في الشعر العربي المعاصر في الخليج«.
في بيروت، سنة ،2002 أصدر محمد بن خليفة العطية ديوانه الثاني الذي أسماه »ذاكرة بلا أبواب« وفي نفس السنة، صدرت الطبعة الثانية من الديوان الأول »مرآة الروح«. ولمن يحبون عقد المقارنات، أقول إن الفارق بين الطبعتين الأولى والثانية، يتمثل في أن الشاعر لم يقسم ديوانه إلى قسمين، أحدهما يتضمن قصائد الهموم الذاتية وثانيهما يشتمل على قصائده الوطنية والقومية والإسلامية، بل ترك القصائد تتجاور بعيدا عن هذا التقسيم في الطبعة الثانية، فضلا عن إضافة قصائد عديدة كان قد كتبها ونشرها في »الراية« وقيامه ببعض التعديلات والتنقيحات على ضوء ما اقتنع به من نقد أو ملاحظات عندما صدرت الطبعة الأولى. أما الفارق بين »مرآة الروح« و»ذاكرة بلا أبواب« من الناحية الفنية، فيتمثل في أن الشاعر كان يبدو منحازا تماما لشكل القصيدة العمودية في الديوان الأول، بينما تتجاور قصائد الشعر الحر مع القصائد العمودية في الديوان الثاني الذي تتصدره قصيدة رائعة، أحببتها منذ أن قرأتها أول مرة، وقد نشرت هذه القصيدة وهي بعنوان »طارق الشعر« عدة مرات، قبل أن يتاح لها أن تتصدر الديوان.
يتعذب الشاعر المبدع حين يشعر أن القصيدة قد هجرته وتركته يعاني ألم الفقد الروحي، ويظل هذا الشعور طاغيا إلى أن تهبط القصيدة فجأة، وتنتشل الشاعر من تأملاته الحزينة، فيبتهج بها ومعها، وهذا ما تصوره قصيدة »طارق الشعر« ببراعة ساحرة:
مِن دُجى النسيان.. من حُجْبِ الضبابِ
جئتَ بابي
تكسر القفلَ الذي قد صدأَ
تخمش الجرحَ الذي قد بَرَأَ
في متاهات اغترابي
وتنادي خلف بابي كلَّ أحلامي السجينة
... وتدقُّ الآن بابي
بعدما شاب بمصباحي الضياء
وذوى حسُّك في أوتارِ صوتي
وبدا الصمتُ خواء
حيث آثارك وشمٌ غائرٌ في شفتيّْ
ظلَّ يمحى بيديّْ..
إذا كان محمد بن خليفة العطية قد هجر الفرشاة والألوان منذ سنوات طويلة، فإن »الرسم بالكلمات« - كما يقول نزار قباني - ظل مقترنا به وبقصائده التي تظهره لنا رساما ماهراً وشاعراً مبدعا في آن واحد، ويتجلى »الرسم بالكلمات« في قصائد عديدة، من بينها قصيدة »الغد المجهول« حيث الجراح التي تنزف الليل وجداً والتي بلغت الصبح في أكفان ليل، بينما يرى الشاعر كيف كان الصبح لحداً وكيف تمرق الظنون العابسات لترهق الروح وتجدد المعاناة:
وحسبُكَ من جراحٍ نائماتٍ
على وَلَهٍ.. نزفنَ الليلَ وَجْدَا
بلغنَ الصبح في أكفانِ ليلي
وكان الصبحُ في عينيَّ لحدَا
فقد أطوي الزمانَ بغير علمٍ
على أمل أذاب القلب جهدَا
وبين مناي تمرقُ عابساتٍ
ظنوني إذ تهد الفكر هدَّا
بأي مُنى ستحلم يا فؤادي
ودربُ الحلمِ بالأوهام سُدَّا
الصورة ليست وحدها التي تحتل مكانة مرموقة في قصائد محمد بن خليفة العطية، فالموسيقى لها كذلك نفس المكانة، بل إن الإحساس بمتعتها هو الذي يجعل الشاعر المبدع منحازا للقصيدة العمودية وحدها، كما أشرتُ من قبل. وقد تتدفق الموسيقى كالشلال العارم المضطرم، كما أنها قد تترقرق كالنبع الصافي، وقد يلجأ الشاعر إلى البحور المركبة مثل »الطويل« و»البسيط«، كما قد يميل إلى البحور الصافية مثل »الرمل« و»المتقارب«.. لكن هذا التنويع الموسيقي لا يجيء متعسفا أو متكلفا، لأن الشاعر يترك للموسيقى ذاتها حرية اختيار الشكل الذي تتجلى به - تدفقا أو ترقرقاً وبحوراً مركبة أو صافية - وفقا لطبيعة التجربة أو الموقف، أثناء تشكلها واختمارها في الروح، وقبل أن تولد على الورق.
في الكتاب الذي قدمتُه »محمد بن خليفة العطية - شاعراً وإنساناً« يكاد يكون هناك إجماع على أصالة المسيرة الشعرية التي قطعها الشاعر، والتي تتميز بالصدق مع النفس ومع الآخرين، وبالانتماء العميق لأرض أمتنا العربية، وهو انتماء يحمل الشاعر كثيراً من المعاناة حين يرى الواقع من حوله مترديا، نتيجة عوامل داخلية وخارجية على حد سواء. وقد شارك في هذا الكتاب ثمانية كتاب وشعراء عرب، ينتمون لعدة أقطار عربية، ومنهم من يعرفون الشاعر معرفة شخصية، ومنهم من لم يلتقوا معه ولو مرة واحدة، وهؤلاء هم: د. ماهر حسن فهمي - من مصر، ود. محمد عبدالرحيم كافود - من قطر، ود. سليم سعيد - من فلسطين، وخليل إبراهيم الفزيع - من السعودية، وزهير غانم - من سوريا، وعزة رشاد - من مصر، وشعبان يوسف - من مصر، وقاسم سعودي - من العراق.
أتيح لمحمد بن خليفة العطية أن يتواصل ويتفاعل بشكل مباشر وحميم مع كثيرين من الشعراء العرب، من خلال ملتقيات ومهرجانات أدبية وشعرية، ومن بينها مشاركته الفعالة في إحدى الأمسيات الشعرية التي نظمها معرض الكويت الدولي للكتاب - ديسمبر سنة ،2004 أما قبلها فإنه شارك في الكثير.. شارك في دورات مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري.. وشارك في ملتقى الشارقة الثالث للشعر العربي. هذا إلى جانب مشاركاته في أمسيات وملتقيات أدبية في الدوحة التي شهدت تفتح عينيه للنور لأول مرة سنة 1962.
كما خرج الشاعر من شرنقة الذات إلى رحابة الآفاق منذ سنوات طويلة، فإن قصائده لم تعد محصورة على صفحات جريدة »الراية« القطرية وحدها، بل أصبحت تلقى حفاوة آسرة على صفحات زميلتيها »الوطن« و»الشرق« وكذلك على صفحات العديد من الجرائد والمجلات التي تصدر في عواصم عربية عديدة.
بقدر الإخلاص في العشق، نجني ما نتوق إليه من ثمرات، فهل - يا ترى - سيقنع محمد بن خليفة العطية بما قدمه من عطاء شعري جميل في »مرآة الروح« و»ذاكرة بلا أبواب« أم أنه سيظل متحمسا لمواصلة مسيرته مع الفن الذي يعشقه، مهما تكن شواغله مع الحياة اليومية بكل أعبائها المختلفة؟
من ناحيتي، فإني أتمنى أن يظل الشاعر الذي أحبه كما يحبه كثيرون سواي في قطر وخارجها متحمسا لأن يصور لنا ما قد يعجز غير الشعراء عن تصويره، فكيف إذا كان هذا الشاعر هو محمد بن خليفة العطية بصدقه وبعمق انتمائه لقضايانا التي تشغلنا وتؤرقنا؟!.
التعليقات (0)