منذ أيام قرأت ان وزير الاقتصاد المصرى أرسل إلى الأزهر يستفتيه فى رأى الدين فى أحد الأنشطة الاقتصادية الجديد’ التى تعتزم الوزارة اعتمادها لأن الدراسات أثبتت أن لها مردودا اقتصاديا جيداعلى الدخل القومى , ومنذ أكثر من عام قرأت أن بعض دكاترة صنع الأدوية اكتشفوا وجود مادة فى نبات الحشيش لها تأثير ممتاز فى علاج بعض الأمراض وأنهم أرسلوا تقريرا بذلك إلى الأزهر ليفتى ما إذا كانت إضافة مادة الحشيش لبعض الأدوية يدخل فى بند الحلال أم الحرام مع أن الجميع يستخدم المواد المخدرة الأشد من الحشيش لتخدير المرضى منذ حوالى قرنين من الزمان . وأخيرا حدثت هذه العاصفة التى لا يزال غبارها ثا ئرا فى الأجواء عن رفض الأزهر لتكفير تنظيم داعش الإرهابى والذى استقبله الكثير من المثقفين بلطم الخدود وشق الجيوب
هنا أريد أن اطرح هذا السؤال : من الذى يصوغ فكر المجتمع ويحدد سلوكياته ومقدار ما يتمتع به من حرية البحث العلمى أو حرية الرأى أو الفنون : رجال السياسة ام رجال الدين ؟ أنا أعتقد أن رجال السياسة وتوجهات رأس الدولة وأركان نظامه هم من يصوغ فكر وسلوك المجتمع وليس رجال الدين , وأنه فى الحقب التاريخية التى يعلو فيها صوت رجال الدين فإنما يكون ذلك بمعرفة وعلم وتخطيط رجال السياسة حينما يشعرون بأنهم فى حاجة إلى استرضاء الجماهير لترضى بسوء حالتها المعيشية وتدهور مستواها الاجتماعى , ودليلى على ذلك أستقيه من واقع عشته لا من كتب قرأتها أونظريات اطلعت عليها . أقول ذلك لأننى أزهرى الدراسة وأذكر جيدا أننا كنا ندرس المواد الشرعية فى علم الفقه أو الحديث أو التفسير او التوحيد بكل ما تحمله من تعاليم التطرف والتكفير ووجوب قتال من لا يدينون بالإسلام , وقتل المسلم تارك الصلاة إذا تمت استتابته لمدة ثلاثة أيام ولم ينطق بالتوبة , ودرسنا حكم الرق وكان له باب خاص فى منهج الفقه كما درسنا الكثير من الأحاديث التى تعتبر أن العين تزنى وأن صوت المرأة عورة واختلاطها بالرجال حرام لأن الشيطان ثالثهما , وكنا نرتدى الزى الأزهرى . ولكن السؤال الكاشف هو كيف كنا نعيش حياتنا فى هذا الزمن ؟ . أقول صادقا إننا بمجرد خروجنا من المعهد كنا نلقى الزى الأزهرى وكأننا تخلصنا من حمل ثقيل . , كنا نتواصل مع البنات ونكتب الرسائل الغرامية , كنا ندخل السينما كل أسبوع ونسمع أغانى شادية وصباح وغيرهما من أهل الطرب والغناء , كنا نقرأ إحسان عبد القدوس ويوسف السباعى وروايات الكسندر ديماس المترجمة وغيرهم كنا نتبسط مع الشباب من شيوخنا ونتحدث معهم فيما نشاهد من أفلام أو نسمع من أغنيات , أذكر أننى استعرت من مكتبة المعهد الدينى هذه القصص الحب العذرى لتوفيق الحكيم . هكذا خُلقت لمحمد حسين هيكل لقيطة لمحمد عبد الحليم عبد الله وأذكر أننى ناقشت شيخى الذى كان شاعرا وأديبا فى بعض هذه الروايات . الاهم من كل ذلك أن أساتذتنا كانوا يضعون فى إصبعهم (دبلة) الزواج الذهبية وأن بناتهم وزوجاتهم لم يرتدين الحجاب بل كُن سافرات مكشوفات الشعر والزراعين حسب الموده السائدة وفى نفس الوقت كنَّ فضليات على أعلى درجة من العفة ومكارم الأخلاق . هنا أنا أرد على الذين يقولون إن المواد الشرعية التى يدرسها طلاب الأزهر هى سبب نشر التطرف بين صفوفهم وأقول إننا درسنا مناهج أشد تطرفا ولكننا لم نتطرف وكان الزملاء الذين يواظبون على الصلاة نسبة قليلة منا وكان الزميل الذى يسكن معنا ويواظب على تأدية الصلاة محل دعابة منا قائلين له : خُدنا فى بركاتك يا شيخ طه . . . يظل السؤال معلقا : لماذا لم نتطرف ؟ لماذا كان مولد سيدى إبراهيم الدسوقى مناسبة لامتلاء ساحته بالمسارح التى يكون الرقص الشرقى أبرز فقراتها ونكون نحن الأزهريين فى مقدمة مرتاديها فى تمازج مصرى فريد بين روحانية الدين وعذوبة الفن الخلاصة التى أريد الذهاب إليها أن نظام الحكم كان علمانيا وثقافته كانت مدنية وفكره فكر معاصر مستنير : فكر سمح بنشر كتاب بعنوان : لماذا أنا ملحد؟ للكاتب إسماعيل مظهر ورد عليه أحد الشيوخ بكتاب : لماذا أنا مسلم ولم يرد عليه أحد بفتوى الردة التى تهدر دمه أو يتم التفريق بينه وبين زوجته بحكم قضائى , كما حدث مع فرج فوده ونجيب محفوظ ونصر أبو زيد ., هذا لأن النظام العلمانى لم يسمح للمؤسسات الدينية أن تتخطى دورها فى التعليم والارشاد . وكنا نحن الشباب جزءا من عقل وفكرهذا المجتمع فاعتبرنا أن ما نتلقاه من دروس شرعية هى تاريخ دينى وأنه ليس مطلوبا منا إلا النجاح فيها آخر العام دون أن نكون مطَالَبين بالخروج عن فكر وثقافة المجتمع باعتبارنا أزهريين . هنا تصرخ الحقيقة وهى أن اهل السياسة فى الأربعين عاما الأخيرة وخاصة أثناء حكم الفساد فى عصر مبارك , هؤلاء أرادوا أن يحيطوا أنفسهم بقداسة الدين ليكسبوا رضا الشعب وصمته على فسادهم , فكان أن سمحوا للأزهر أن يقوم بدور ليس دوره وكان أن استعانوا بشيوخ السلفية ليكونوا نجوم المجتمع فى الفضائيات فكان أن تغير فكر المجتمع بل تغيرت أولوياته وتغير شكله ومظهر نسائه ليس بسبب قوة رجال الدين ولا بسبب المناهج الأزهرية ولكن بسبب ضعف وانتهازية واستبدا د وفساد رجال السياسة فى العقود الأخيرة !.
التعليقات (0)