بقلم/ مـمدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
شهدت ألمانيا في الأسبوع الأول من إبريل الجاري واقعة ربما لم يكن أحد ليتخيل أن تحدث في واحدة من أهم الديموقراطيات الغربية، فقد تم تصوير فيلم سينمائي تحت ستار كثيف من السرية والتمويه، والفيلم ليس عملا سياسيا تنجزه جماعة معارضة تحت حكم استبدادي، بل فيلم عن طائفة دينية جرى تصويره في قلب الديموقراطية الكبيرة، والسرية والتخفي هنا يثيران الفضول ويعنيان الكثير!
الفيلم تناول كنيسة الساينتولوجي (العلمولوجيا) المثيرة للجدل وساهمت فيه بشكل فعال أورسولا كابيرتا المتخصصة بمتابعة نشاطات "الفرق المشبوهة ذات الطابع الديني" وساهمت في إعداده كمستشارة في شؤون "الساينتولوجي". وهو أول فيلم يتعرض للمنظمة بـ "الاسم"، والأهم أنه تم تصويره بسرية تامة، بعيدا عن الأنظار وتحت غطاء تصوير حلقة من مسلسل شهير يعرض أسبوعيا اسمه "مسرح الجريمة" وخضع الممثلون أثناء التصوير لنظام صارم، كما عقد أول مؤتمر صحفي أعلن فيه عن إنجاز الفيلم مع صحفيين وجهت لهم دعوات خاصة بعد اختيارهم بعناية.
وفي أجواء تشبه أفلام الرعب الهوليودية نقرأ أن بعض المعلومات تسربت عن الفيلم قبل أيام من عرضه للمرة الأولى نهاية مارس 2010، فتلقى عاملون بالفيلم تهديدات.
الفيلم تدور أحداثه حول عائلة فرانك الذي يقع في شرك المنظمة ويشارك باختبارات سيكولوجية وجلسات استماع تقيمها المنظمة وبعد أن ينال ثقتها تمارس عليه ضغوط ليعرفهم بزوجته التي سرعان ما تصبح أكثر تحمسا لأهداف المنظمة منه، وتدفع مبالغ طائلة من إرثها للمشاركة بدورات مختلفة تقيمها المنظمة حتى تصل لدرجة قيادية. في الوقت نفسه يشك فرانك بأهداف المنظمة، وفي النهاية يلجأ للقانون لإنقاذ زوجته. ومن الأسباب الرئيسة للجدل حول الفيلم أنه مبني على وقائع "حدثت بالفعل".
والجدل حول كنيسة الساينتولوجي (العلمولوجيا) في الغرب وبخاصة في ألمانيا عمره سنوات حيث تخضع الكنسية لمراقبة أجهزة الأمن الألمانية ويعتبرها البعض ضمن المنظمات "المعادية للدستور" وبناءا على ما هو منشوراتها وممارساتها. وتكونت الساينتولوجي في بدايات الخمسينات بأمريكا وما زالت تمتلك تأثيرا كبيرا هناك وبخاصة في هوليوود، فمن أشهر أتباعها النجمان توم كروز وجون ترافولتا. والمثير أنها معروفة باتباع أساليب قاسية جدا في ملاحقة أعدائها قانونيا وعمليا.
وشهد العام 2008 معركة خاضها نشطاء إنترنت دعوا لاعتصام أمام كل كنيسة تابعة للكنيسة لجذب الانتباه لطبيعتها العدائية ومضايقتها لمعارضيها. وكانت البداية قام نشطاء بوضع لقطة فيلم على يوتيوب عنوانها: "العلملوجيا ضد الإنترنت"، ويظهر فيها توم كروز يحذر أعضاء الكنيسة من الإنترنت. وبدأ صراع طويل دشنته كنيسة الساينتولوجي طالبة وقف بث الفيلم القصير بحجة حقوق المؤلف، فقام مجموعة قراصنة بشرح أهداف حربهم ضد الكنيسة بشريط فيديو عنوانه "رسالة إلى العلملوجيا" وُضع على يوتيوب. وبدأت حرب قرصنة.
وأخذت الحرب منحى مأساويا في مارس 2008 مع رحيل شابة في العشرين ابنة زعيم حزب نرويجي كانت تدرس بجامعة فرنسية واتصلت بكنيسة الساينتولوجي وأجرت "اختبار الشخصية الحرة"، وبسبب نتائج الاختبار انتحرت.
وتثير الكنيسة الكثير من الجدل منذ سنوات – وبخاصة في ألمانيا – حيث ظلت لسنوات تحت رقابة مخابراتية بسبب طبيعة ممارستها، وما زالت تتهم بأنها ضد الديموقراطية وأنها تفقد أتباعها إرادتهم. وفي الحقيقة فإن انتشار الساينتولوجي وأشباهها مثل الكابالاه اليهودية يمثل ظاهرة غربية بامتياز هي ظاهرة البحث عن "ميتافيزيقا بلا إلزام أخلاقي"، حيث يتحول الدين من رؤية للكون والحياة إلى نوع من "المخدر" يتسم بالغموض ويمنح معتنقيه إحساسا بالرضا عن الذات لا يستند إلى تكاليف ولا يفرض عليهم محرمات. وهذا النزوع "الجواني" الذي يقضي على كل دور للدين خارج حدود العلاقة الثنائية بين العابد والقوة الخفية التي يعتقد أنها فوق الطبيعة، ولا شيء آخر.
ورغم أن الساينتولوجي بصفة خاصة يحيط كثير من الشبهات السياسية والأخلاقية فإنها ما زالت تكتسب أنصارا وبخاصة بين الطبقات المرفهة والثرية.
وانتشار الساينتولوجي وجه من وجوه أزمة الكنيسة في الغرب، وبخاصة الكنيسة الكاثوليكية. وتشهد الكاثوليكية في الغرب ازديادا ملموسا في معدل الخروج منها، ومعظمه يرجع إلى الرغبة في مزيد من الحرية الشخصية بمعناها الواسع، وهذا الخروج يتوجه إلى مذاهب بروتستانتية ومذاهب جديدة كالعلمولوجيا والكابلاه، والأخيرة تحولت من ظاهرة صوفية ذات جذور يهودية إلى مذهب ديني جديد يقوم على التبشير على خلاف اليهودية الأرثوذكسية التي لا تقبل تبشير غير اليهود وتعتبر اليهودي هو من ولد لأم يهودية وحسب.
كما أن الكابالاه تنتشر بشكل أساسي بين الفئات نفسها التي تنتشر بينها الساينتولوجي، ومن الأمور التي تستلفت النظر أن بعض معتنقي الكابالاه انتقلوا إليها من البوذية، ما يؤكد أن شرائح من النخبة الغربية هي في حالة بحث مستمر عن "ميافيزيقا بلا إلزام أخلاقي"، وفي البدائل في هذه الرحلة متشابهة وإن اختلفت أسماؤها. لكن المذهب الساينتولوجي أو العلمولوجي ينفرد بينها جميعا بما يثيره من مخاوف أقلقت أجهزة أمن غربية، وكانت موضوع اتهامات خطيرة بعضها يجعلها أقرب للنشاط الاحتيالي، وفي واقعة الفيلم الذي صور في ألمانيا مؤخرا "سرا" ما يشير إلى أنها تستخدم سلاح الترهيب بحق خصومها وأعضائها السابقين، وهذا تحول مهم في صورة المذاهب الدينية الجديدة في الغرب، وقد بدأ الاهتمام بها ينتقل من أروقة صنع القرار إلى شاشة السينما.
التعليقات (0)