لن تنفع أحدث تكنولوجيا دون تغيير العقلية وتحلي العنصر البشري بالمسؤولية وثقلها كَبُر التكليف أم صَغُر.
إن الداعي إلى هذه التوطئة -التي قد تبدو غريبة بعض الشيء- ماحدث مؤخراً بجامعة ابن طفيل، إذ دون سابق إنذار ودون أدنى تفسير مقنع، وجد عدد كبير من طلبة مختلف كلية القنيطرة محرومون من الجزء الثالث للسنة الجامعية الجارية.
وهاهي القضية:
قرر بريد المغرب أن يمنح مجاناً لكل طالب ممنوح بطاقة بنكية لتمكينه من سحب المنحة من الشبابيك التابعة للبريد دون اضطرارهم للمثول أمام الخزينة العامة كما كان الأمر في بداية هذه السنة، وهذه خطوة محسوبة لبريد المغرب. لذا انتقل موظفون إلى الكليات لتسليم البطاقات المغناطيسية على الطلبة، غلا أن عدداً من الطلبة لم تهيأ لهم بطاقة الإئتمان وقيل لهم يجب الإتصال بالخزينة العامة. وعندما قاموا بذلك، كان الجواب أن إدارة الخزينة قامت بما كان عليها أن تقوم به على أحسن وجه، حيث وجهت لائحة الممنوحين لبريد المغرب مع تحويل المبالغ المالية المعنية، وبالتالي، فإن الأمر مرتبط بهذه الإدارة. وعندما توجه الطلبة إلى البريد المركزي بالقنيطرة، كان جواب أحد موظفي مكتب "المستشار المالي"، أن المشكل لا يمكن حله محلياً وإنما الأمر مرتبط بالمصالح المركزية بالعاصمة لأنها هي تكلفت بإعداد البطائق في إسم الطلبة. هكذا تاه الطلبة المساكين بين الإدارتين، علماً أنهم في فترة الإعداد للإمتحانات وأنهم في أمس الحاجة لتلك الدريهمات التي تسمى منحة.
وبعد البحث والتنقيب، قيل أنه من الممكن أن يكون الخطأ مرتبط بالموظفين الذين تكلفوا بإعداد البطاقات حيث قفزوا على بعض الأسماء دون أن يدرون، "وبلا حشمة بلا حيا" يتم الدفع بهذا التفسير في وقت أن مختلف العمليات على مستوى البريد والخزينة العامة يتم عبر الحاسوب، وفي وقت كثًُر فيه اللغط عن "الحكومة الإلكترونية" ببلادنا.
فهل هو مجرد خطأ بشري فعلاً؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل هو مجر سهو جراء الضغط، أم أن الأمر مرتبط باستمرار سيادة عقلية "ماقبل الحداثة" لذا الكثير من الموظفين وعدم تحليهم بالدرجة اللازمة من اعتبار المسؤولية في إنجاز العمل باعتبارنا قد ولجنا عهد حقوق الإنسان وحقوق المواطن وعدم السماح المساس بها أو عرقلتها بأي وجه من الوجوه، ناهيك عن خطأ في إنجاز المهمة. وإن كان هذا الأمر قد حصل، وجب الإسراع في التصحيح حالاً ودون انتظار إن كان فعلاً حاضراً هم رعاية الحقوق.
فقد كان فعلاً من الممكن أن يقوم أحد المسؤولين ببريد المغرب بالقنيطرة باتصال هاتفي فوري بالمصالح المركزية وإخبارهم بالأمر للقيام بما يلزم حتى يتمكن الطلبة المظلومين من حقهم المسلوب جراء خطأ موظف في إنجاز مهمته. لكن لم يتم ذلك، وإنما قيل للطلبة إعداد لائحة والإتصال بمصلحة الشؤون الطلابية بكلياتهم لكي تقوم بتوجيهها للجهات المختصة وعلى الطلبة الإنتظار، إذن "سير الضيم" كما يُقال. والأدهى والأمر هو أن أحد الموظفين ببريد القنيطرة اكتفى بالتملص من المشكل قائلاً بالفرنسية
“L’erreur est Humaine”
قالها وجهاز الحاسوب قابع أمامه، علماً أن كل العمليات بإدارته تتم معالجتها بواسطة الحاسوب.
إن القضية في واقع الأمر مرتبط بالأساس بعقلية لا تتماشى مع الإحساس القويم بضرورة احترام المواطن والحرص القوي على عدم المس بأي حق من حقوقه.
وهنا يمكن التساؤل، ماذا ستفعل "الحكومة الإلكترونية" إن لم يتم أوّلاً العمل على تغيير العقلية وحرص الموظف المنفذ على حشد كل مقتضيات مسؤوليته لأن عمله مرتبط بحق من حقوق المواطن، وأي إهمال أو خطأ أو سهو أو نسيان غير معتمد من شأنه الحرمان من أحد الحقوق، وهذا أمر لم يعد مقبولاً في مغرب اليوم أراد من أراد وكره من كره.
علماً، أنه حتى قبل التفكير في اعتماد "الحكومة الإلكترونية"، ظلت جملة من المبادئ الضابطة لسير المرفق العمومي قائمة باستمرار ومنها مبدأ المساواة ومبدأ قابلية المرفق العمومي للتغيير والتبديل.
هذا الأخير ينص أنه يجب على المرافق العمومية أن تساير التطورات التي يعرفها المجتمع وتتلاءم معها، أي أنها عرضة لتبديل كلما دعت اعتبارات المصلحة العامة لذلك عن طريق إدخال بعض التطورات العلمية أو غيرها في تدبيرها وكذلك التطورات التي قد تفيد تسيير المرفق العمومي وتضمن استمراريته. اعتماداً على فحوى ومضمون هذا المبدأ الضابط لسير المرفق العمومي التساؤل التالي:
إن مجتمعنا عرف تغييرات، ومنها الإقرار بضرورة الحرص على احترام الحقوق وصيانتها من الضياع، فهل إدارتنا عملت حقاً على تفعيل هذا المبادئ الضابط بهذا الخصوص؟
والحالة هاته، كم من مدة على الطلبة المحرومين من منحهم الإنتظار للتوصل بمستحقاتهم، علماً أن هذا الحرمان هو نتيجة خطأ و "الخطأ بشري" كما قال المسؤول؟ ومتى سيتحرك القائم على أمر بريد المغرب بالقنيطرة للقيام بما يلزم تجاه إدارته المركزية للقيام بتصحيح الخطأ الذي حرم العديد من الطلبة من حقهم ظلماً وعدواناً؟ وقبل هذا وذاك هل ستقوم الجهة المخطئة بتقديم الإعتذار للطلبة الضحايا أم أن الإدارة بالمغرب لا يمكنها أن تقدم على مثل هذا التصرف؟ الأيام القادمة من شأنها أن تدلنا هل العقلية بدأت سيرها نحو التغيير أم أنها مازالت متكلسة؟
التعليقات (0)