عندما أيقن البوعزيزي أن كل السبل أصبحت مسدودة أمامه، اختار أن يحول جسده إلى كتلة من اللهب، لتتحول آخر لحظات حياته إلى ألم يختزل كل الآلام التي كابدها من أجل لقمة العيش. وطبعا لم يكن هذا الشاب التونسي أول من أحرق نفسه احتجاجا، لكن ما فعله في ذلك اليوم الذي تحول إلى عنوان لثورة شعوب بأكملها، يدل على حجم الغضب الذي يكتنف النفوس جراء الظلم وضيق الأفق... لذلك كان من الطبيعي أن تتكرر حالة البوعزيزي في أكثر من مكان. فقد أصبح هذا السلوك أكثر الطرق إثارة للتعبير عن الإحتجاج و لفت الأنظار... وفي هذا السياق يأتي مشهد النيران التي نشبت في أجساد ثلاثة من المعطلين المعتصمين في ملحقة وزارة التربية الوطنية بالرباط يوم الأربعاء الماضي، ليفرض وقفة جدية للنظر في مشكل تشغيل حاملي الشهادات العليا في بلادنا.
واضح أن ملف " المعطلين" هو واحد من أخطر القضايا والتحديات التي تواجه العمل الحكومي في المرحلة المقبلة. فقد تراكمت الإنتظارات، وكبرت كرة الثلج كثيرا بالرغم من أساليب الترقيع التي عمدت إليها الحكومات السابقة كلما اشتد عليها خناق احتجاج المعطلين. ولأن السياسات التعليمية المتعاقبة قد أوصلت المدرسة المغربية إلى حافة الإفلاس وحولت الجامعة إلى مصنع لإنتاج اليأس والعطالة، فقد آن الأوان للتفكير الجدي والمسؤول في هذه المعضلة التي باتت تهدد الإستقرار الإجتماعي في المغرب. وبالرغم من أن الشارع المغربي يحتفظ على قدر كبير من الهدوء ويتعامل بإيجابية بالغة مع الحراك السياسي الذي أفرزه الإستفتاء الدستوري، فإن مشكل البطالة بشكل عام و خصوصا ما يتعلق بملف الأطر العليا المعطلة على وجه التحديد، يمكن أن يتحول في أية لحظة إلى وقود لمزيد من الإحتقان الإجتماعي. فنحن مازلنا حتى الآن نشهد أشكالا احتجاجية للمطالبة بالحق في الشغل لا تخرج عن النص في أغلب الحالات. لكن استمرار الأوضاع على ماهي عليه واكتفاء المسؤولين بإطلاق الوعود الكاذبة بدون إجراءات عملية وملموسة وغياب الوضوح اللازم لدى الإدارة بشأن التعاطي مع هذا الملف، يمكن أن يؤدي إلى انفلاتات تشبه ما شهدته مدينة تازة قبل أسبوعين، خصوصا وأن جمعيات حاملي الشهادات المطالبين بفرص العمل توجد في كل المدن والقرى المغربية، وهي تعرف حراكا احتجاجيا متناميا.
لقد جربت هذه الجمعيات كل الأشكال النضالية من أجل الحصول على حق أعضائها في الشغل. لذلك تكون انطباع سلبي لدى فئات عريضة من هؤلاء الذين لا يجدون من محاوريهم سوى الصد أو الوعود الفارغة في أحسن الأحوال، بالإضافة إلى التعاطي الأمني الذي أصبح مألوفا في كثير من الحالات، والذي يصب مزيدا من الزيت على النار. و بهذا الإعتبار أصبح " المعطلون" مستعدين لكل المخاطر في سبيل تحقيق مطالبهم. ومن تم فإن التهديد بإحراق الذات أو تنفيذ هذا التهديد فعليا هو تعبير عن درجة اليأس والإحباط التي بلغها كل من يبادر إلى هذا التصرف. وهذا في واقع الحال مؤشر خطيرعلى طبيعة الغليان الذي يعرفه هذا الملف. وهو ما يفرض ضرورة التسريع بإيجاد الحلول اللازمة لهذه المعضلة الإجتماعية الخانقة. لكن الأمر لا يتعلق بعدد محدود من الأطر الذين يمكن استيعابهم في مختلف الإدارات العمومية. فنحن أمام جيش جرار من حاملي الشهادات المعطلين والذين يزدادون سنة بعد أخرى إلى درجة أصبحت معه كل البيوت المغربية تختزل نفس المعاناة. لذلك فإن حل مشكل عطالة الأطر العليا ينبغي أن يتأسس على مقاربة شمولية تتجاوز الحلول الترقيعية التي دأبت الحكومات المتعاقبة على اللجوء إليها في إطار مهمة الإطفائي الإجتماعي التي قد لا تكون مجدية في المستقبل.
إن مشكل تشغيل حاملي الشهادات ليس ملفا طارئا وظرفيا، فهو غول ضخم يعيش داخل بيت كل واحد منا. لذلك فإن حل هذا الملف يتطلب وقتا طويلا، لكنه ينبغي أن يتأسس على استراتيجية واضحة المعالم. فالمشكل يرتبط في العمق بنظامنا التعليمي الذي لا يلائم سوق الشغل، بالإضافة طبعا إلى غياب شروط الحكامة و العدالة الإجتماعية. لذلك بات من الضروري أن يعاد النظر في هذا الأمر بالشكل الذي يعيد للمدرسة دورها الريادي في المجتمع، ويؤهلها لإنتاج نخب تتمتع بالخبرة والكفاءة في كل الميادين، وتجد أمامها آفاقا واسعة للإنخراط في الشغل بما يتناسب مع طبيعة تخصصاتها. أما إذا ظل النظام التعليمي على حاله، وتواصلت عمليات الإطفاء هنا وهناك، فإن المستقبل لن يأتي إلا بمزيد من الحرقة والحروق. محمد مغوتي.20/01/2012.
التعليقات (0)