عندما كنا طلابا في الكلية في السنة الأولى في جامعة البصرة الفيحاء الشامخة ذهبنا نحن أبناء المرحلة الأولى في سفرة إلى جزيرة السندباد وسط ملتقى نهري دجلة والفرات وتكوين شط العرب, في منظر هو الأحلى و الأروع وما أن تنظر إلى الدلتا الثلاثية حتى يخطر ببالك تاريخ ومهد البشرية التي قامت أولا في هكذا موقع ..
كانت السفرة عبارة عن أهازيج وغناء ونكات وتعارف وموائد للآكلين والشاربين ,
رغم أن الجزيرة كانت أشبه بخرابه إلا إن جمال المكان والزمان أضفى الكثير من الالق عليها ..
احد الزملاء الأعزاء كان يحفظ الكثير من الأغاني والأهازيج الشعبية الرائعة والتي كان يمتعنا بها حقا واذكر منها :
((يرد الروح يا كيك الحساوية ))
وأفرط في الغناء والنكات حتى ان قالت له إحدى الزميلات ساخرة :
(ها مخبل والله مخبل والعباس مشور بيك ))
مرت الكثير من المواقف الممتعة والألعاب المسلية واذكر منها :
((من غير كلام ))
ولعبة أخرى طريفة اذكرها وهي :
انه جلس الجميع في جلسة رائعة ولعبنا لعبة هي نجري قرعة وكل شخص يظهر اسمه يقف في مواجهة الجميع وعليه ان يجيب على جميع الأسئلة والتي يطرحها الإخوة الزملاء مهما كانت محرجة
ظهر اسم أول الزملاء
والسؤال هو : كم مرة ضربت ((بوري ))؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
البوري :هو مصطلح عراقي يعني ,لمن تصده احدهن وترفض حبه او يكون في وهم كبير عندما يشعر ان قربه من إحدى الزميلات وعمق مودتها له انه حب جارف عصب بقلب الفتاة تجاهه لكنه يكتشف لسبب او لأخر إن الأمر لا يعدو مجرد علاقة حميمة بين زملاء دراسة فقط ..او الفتاة مرتبطة لأحد أقاربها ..
وثم تعمم هذا المصطلح لاحقا إلى الحياة العامة ليشمل كل من وقع ضحية نصب ..
المهم
أجاب الزميل ساخرا : بوري( ابو 16 انج )مرتان (وابو 8 انج )مرات ...وضحك هو وضحك الجميع ...
ثم قرعة أخرى وكان اسمي أنا من وقع عليه الاختيار ..
لملمت بقايا شجاعتي ونهضت واقفا أمام الجميع والعيون كلها تنظر إلي
سألتني إحدى الزميلات(اللزكات) : ماهي مواصفات فتاة أحلامك ؟؟
أجبتها بعفوية وبراءة ذلك الزمان :
حلوة شقراء عيونها واسعة خضر او شهلة عمرها 16 سنة مريشة .بس هي لاهلها ...
فصرخت الزميلة السائلة : أذن ظل ((عنس ))...
جاء وقت المساء ورجعت الى بيت جدي وكان العبارة
( يرد الروح يا كيك الحساوية ))
ترن في إذني
توجهت صوب مجلس جدي وسألته عن معنى الحساوية؟؟
فقال المقصود منها مجموعة من الناس تمتهن بيع الخضروات وبعض المواد لكنها كانت مهنة محتقرة في العراق مثل مهنة الحائك ...
وسألته لما الحائك محتقر وأي نوع من الاحتقار هو ؟؟
أجاب : الحائك محتقر لسببين :
الأول : هناك رواية تاريخية تقول ان السيدة مريم العذراء لجا ت اليه بعدما افتضح أمر حملها وكان أن رفض إيوائها ..
إما في الموروث الشعبي : فلان العرب قديما كان يمتهنون الرعي والقليل من الزراعة وكلا الأمرين يحتاج إلى فروسية وشجاعة بسبب الصراع على المرعى والكلاء ومصدر المياه وهو كثير ما تشهد القبائل صراعات ومعارك على المرعى والتزاحم فيه
ويكون الحل أما لمن يغلب الأخر او تغليب رأي الحكماء من الفريقين او الوسطاء.
...........
وكانت العرب تقدر وتمجد الإبطال والفرسان من أبناء القبيلة الذين يثبتون صلابة ورباطة جأشهم في الميدان ويوسعون لهم في المجالس وكانوا يدعون إلى الولائم والمناسبات ليكونوا هم ((ضيوف الشرف ))فيها
كان كل ذلك يحدث وهناك فئة لم تجرب القتال والطعان يوما وهم
الحائك والحساوي ومؤدب الصبية ..وغيرهم ربما
وكانوا يتغافلون عن مؤدب الصبية لابسباب معينة لكنهم لم يسامحوا بنظرتهم التي لاترحم الحساوي والحائك .
وكان الحائك والحساوي أكثرهم احتقارا وكانوا لا يوسع لهم بالمجالس ولا يدعون الى اي مناسبة وهم أشبه بشخص مصاب ((بالجرب )) والعياذ بلله اي معزول في عشيرته وأهله وكان اذا خطب امرأة لا يجاب أبدا.
والشخص الذي يريد نسبا كان أهل العروس مثلا يسالون عن أصله وفصله وإذا كان فيه ما يؤشر انه من عائلة لها احد الإفراد ((حائك او حساوي )) لا يعطى مراده أبدا ويعيش ذليلا الى مماته ..
ويقال أنهم إي الحياك والحساوية وغيرهم كل همهم (الحياك مثلا )) هو كيفية زيادة إنتاجهم وتحسين لون السجاد مثلا وإضفاء الكثير من النقشات عليهم لكن لا يهمهم موقف العشيرة والتحديات التي تواجهها لان الأمر لا يعنيهم مطلقا ..
والحساوية كانوا يعيشون على ضفاف البطائح وقرب الأنهار ويمتهنون بيع الخضروات وغيرها من الحلويات البدائية
...أما المعدان ومعناهم فهم معروفون عند العرب بقصة شهيرة بطلها النعمان ابن المنذر الذي قال
((ان تسمع بالمعيدي خيرا من ان تراه ))
والمعدان هم سكان الاهوار ويمتهنون صيد الأسماك والطيور وتربية الجاموس أي الدواب وغيرها وكانوا ا لا يحلوا لهم أي مسكن اخر بعيد عن الاهوار
لكنهم بخلاف الحساوية والذين يسكنون قربهم في نفس البيئة معا لكن الحساوية يتنقلون كثيرا في المدن والقرى بحثا عن الأسواق
لكن المعدان معروف عنهم هم مقاتلون شرسين وبرعونة قل نظيرها.
لكن كونهم من صيادوا الأسماك فهم أيضا ضمن الأصناف المحتقرة في المجتمع العراقي ..
فضلا عن وجود صفات سلبية في معيشتهم وهي الانحلال الأخلاقي وعدم الوفاء بالعهود وكانوا يتقاتلون بينهم لأتفه الأسباب, والأخ يقتل أخاه لمجرد نكته او تنافس على موقع صيد او رعي !!
وأيضا من مساوىء المعدان أنهم لا يعملون ألا قليلا خصوصا في صيد الأسماك ورعي الجاموس وكان أبناؤهم الصغار فيقومون بهذه المهمة ,
والإباء والشيوخ وحتى الرجال هم لا يعملون أي شيء بل يتركون العمل أكثر على عاتق النساء وهن من تقوم بالعناية بالحيوانات والرعي وإدارة شؤون البيت وكانت تنهض المرأة صباحا الى السوق لبيع الأسماك وأيضا تبيع ما تنتجه بهائمهم وحيواناتهم من بيض مشتقات الحليب ومنتجات صناعية كالسجاد والأدوات المصنوعة من جريد النخل وسعفه ...
وكانت المرأة من تأتي بالمصروف وتضعه في جيب زوجها ((الهيبة )) والذي كان ((يفتل شواربه السميكة زهوا ))
من الجدير الذكر أن الأستاذ الكبير حسن العلوي كان قد وصف نفسه ساخرا مرة في لقاء تلفازي قدمته المذيعة المتألقة ((رنا جعفر )) وقال انه أشبه ((بزوج المعيدية ))
لأنه كثير ما كان يعتمد على زوجاته في كل الأمور حتى في إدارة وطباعة كتاباته ومؤلفاته الكثيرة وهن من يقمن بإدارة أمور البيت والعناية بالصغار وغير ذلك وهو يكتفي بالتأليف والراحة والسفر !!!
الحديث عن المجتمع العراقي والتعقيدات به معقد جدا وطويل ..
ويقول الأستاذ المرحوم علي الوردي في كتابه ((دراسة طبيعة المجتمع العراقي ))
أن المجتمع العراقي عانى عبر عقود من صراع بين البداوة والتحضر أي سكان المدن كان أهل البادية يتميزون عن غيرهم من سكان المدن والأرياف بانهم يحتفرون كل ارباب الحرف مثل ((الحائك , والنَداف , والاسكافي , والخباز , والنجار , والدهان , وغيرها ))
كذلك كانوا يحتقرون مهن مثل صيد السمك ويطلقون عليهم ساخرين لفظة ((بربري )) والتي لا تعني همجي او من سكان البراري بل تعني أن مكان صيد السمك (و العلوة )التي يباع عليها السمك يطلق عليها اسم ((بًربًرة ))
لان الكل يصيح, والكل يبيع ,والكل يحلف ويقسم أغلظ الإيمان,و بدون ضوابط او أصول, و يكثر الضجيج هناك فجاءت كلمة(( برَبًرة ))...
حتى دول الخليج العربي فمن الملاحظ ان نسبة السكان الأعاجم فيها كبيرة جدا ولهم نفوذ في تلك المجتمعات اليوم والسبب يعود إلى ان القبائل العربية التي سكنت منطقة الخليج العرب في مرحلة ما قبل النفط كان أبناؤها يحتقرون مهن البائع والحائك والاسكافي والنًداف وكل الصناعات اليدوية والحرف ... وغيرها
ولكنهم كانوا بحاجة لها في نفس الوقت
وفتح باب الهجرة من الجانب الشرقي للخليج العربي لمن يريد ان يسكن في الجانب الغربي للخليج العربي للعمل في مهن البقالة والحرف اليدوية والعمالة
ثم جاء عصر الذهب الأسود الذي غير الحال غير الحال وأصبح أرباب الحرف اليدوية من أصحاب الشركات العالمية والاستثمارات وغيرها
لذلك تجد اليوم ألقاب في تلك المجتمعات لأناس مثل لقب ((دشتي ) (بلوشي ) ( مير) وغيرها وهي ألفاظ العجمية حملها أسلاف هؤلاء عندما وصوا الى تلك الأراضي اول مرة ...
يقول الأستاذ علي الوردي ان سكان البادية والصحراء في العراق ((العرب ))وخصوصا ممن يرتاد رعاية الإبل لديهم بالشعور بالأنفة والعزة والشموخ والتفاخر على كل أرباب المهن الأخرى
وإنهم من أصول عريقة ويمتازون بحفظ شمائل فريدة ومتوارثة مثل الجود والكرم والإيثار والشجاعة والنخوة والأبوة وحفظ العهد وإيواء الدخيل واللاجئ وعابر السبيل وغيرها
وكانت للمرأة مكانة خاصة لديهم فهي محجبة ومنقبة ومخدرة ولا تغادر مخدع الزوجية الا لما هو ضروري ومهم .. واما الصبايا من الإناث فكان يسمح لهن الذهاب الى الغدير او النهر القريب لجلب الماء وكانت هؤلاء تحت رقابة ذويهم وأهلهم من أعين الغرباء والطائشين من أبناء القبيلة.
ومما تروى من القصص الطريفة انه حدثت معركة بين العرب ((العربان )) سكان البادية وبين ((المعدان )) سكان الاهوار _إي بين قبيلتين من هؤلاء –
المعدان يمتازون بسرعة الجري حفاة ومقاتلون شرسين لكن الرعونة وعدم التفكير والتروي غالبة عليهم ..
وإما سكان البادية فمعروف عنهم الصبر الحنكة وطول البال في هكذا مواقف
كان سكان البادية يمتلكون الأحصنة والخيل كدواب في حربهم مع ((المعدان )) والمعدان لايعرفون شيء عن ركوب الخيل والقتال من فوق ظهورها.
وكانت الغلبة لسكان البادية طبعا لأنهم يرمون النار ببنادق ((البرنو )) من على ظهور الخيل والتي تمتاز بسرعة الجري الفائقة والمناورة.
أما المعدان فكانوا راجلين ويعتمدون على حفر خنادق ((صناجر )) يختبؤن فيها لان الصحراء ليس فيها غابات وبردي وقصب هم تعودوا على الاختباء بها وكانت أسلحتهم عبارة بنادق قليلة, ويحملون الخناجر والفالات والمقاوير أكثر منها لعدم معرفة الكثير منهم في امور ضرب النار ....
ومن الطريف في الأمر كان الجبان من المعدان يحمل مقوار ذو رأس مصنوع من القير الثقيل الوزن والكبير الحجم .ظنا منه ان أعداؤه سيخافون منه لرؤية مكواره الكبير الرأس ..
ومنها أصبحت عبارة ((مكوار خنيث )) تطلق على كل شيء كبير حجم قليل فائدته ....
والمهم في امر هذه الحرب :
كانت ان حصلت مقتله عظيمة في صفوف المعدان
والنصر المؤزر لسكان البادية للفروق الواضحة بين الفريقين من ناحية العدة العتاد وأسلوب القتال ..
ومما يروى انه بعد وضعت الحرب أوزارها ورجعت السيوف الى إغمادها
كان مجموعة من المعدان يسيرون في إحدى الطرقات فشاهدوا
((مهرا ادهما جميلا )) لوحده البرية
فقام احد (المعدان )) بطعن بطنه وشقها اي ((المهر الصغير ) بخنجره المعقوف وارداه جثة هامدة في الحال..
لامه ونهره من كان معه على فعلته (الحمقاء )تلك وكيف قتل حيوان بريء وغير مفترس
..غضب المعيدي ((القاتل الأحمق ))وصاح بهم زاجرا أنسيتم الحرب الأخيرة,
وما فعله هذا الدابة بنا ثم أطلق بضعة رصاصات في الهواء وهتف مزهوا
((ها خوتي ها
ها خوتي ها
يكبر مثل أمه ويؤذينا
يكبر مثل أمه ويؤذينا ))..
!!!!!!!!!!!!!
التعليقات (0)