كما تعتاد العينان غربة الشوارع المقفرة نهاراً وظلمة التقنين ليلاً اعتادت أجسادنا على تعب إضافي.. يفتح الباب الحديدي الكبير علينا صباحاً، فنفتح عيوننا على عشرات من الشباب لينضموا إلى برنامج الطوارئ.. اعتدنا أن يكون مكان لجوئنا هو مكان عملنا.. سرعان ما امتلأت غرف المركز الثلاث بوجوههم الباسمة رغم كل شيء.
تغص الغرفة الصغيرة في الشقة الأرضية بشبان وفتيات تداعوا إلى اجتماع صباحي للمتطوعين. يأخذ كل واحد منهم تعليمات واضحة من منسقة العمل التطوعي في برنامج الإغاثة، بترا المقداد، ثم يتوجهون إلى أحياء ومناطق النزوح والقصف في بيروت والضاحية. هكذا كان المشهد كل صباح من صباحات أيام التدمير المنظم على يد الآلة الحربية الإسرائيلية. آلاف من النازحين، آلاف من الهاربين من الأحياء غير الآمنة إلى مناطق يظنون أنها أكثر أمناً.. وفي المقابل عشرات من الشباب نذروا أنفسهم للعمل على التخفيف من آلام الهاربين من النيران.
مع اليوم الخامس للحرب كان العمل قد انتظم، وشاركتني الزميلة إيمان خليفة العمل في منسقية الإعلام والتوثيق في البرنامج، التي تشرفت بإدارتها خلال فترة الأزمة وما تلاها، وكان الزميل جهاد إسماعيل قد تولى مسؤولية تأمين احتياجات المركز ومتابعة شؤون الاتحاديين، وبعد أيام قليلة امتلأت جدران المكتب بلوائح الاتصال بكافة الأعضاء في بيروت والمناطق القريبة منها، وكان فريق عمل مدينة جبيل وجوارها الذي تألف من سيلفانا اللقيس وجوزف خليفة وسونيا اللقيس يزور بيروت بشكل منتظم، يؤمن ما استطاع من حاجيات.. فيما بدأ العمل الفعلي في مركز الطوارئ في صيدا الذي اكتظ بالنازحين، وأخذ المشروع هناك اسم مشروع الإغاثة الشعبية متعدياً إلى تقديم المساعدة إلى كل من احتاجها.. وحقق نتائج كبيرة على صعيد لم شمل العائلات التي هجرها القصف جنوباً، كذلك في البقاع الأوسط فتح الزميل الطبيب مروان البسط عيادته أمام النازحين وداوم ليلاً نهاراً مقدماً ما أمكنه لمساعدتهم، فيما عمل البرنامج مع صبايا وشباب البقاع وعلى رأسهم الزميلة رسمية الهندي من بر الياس وقب الياس بجهود متميزة.. في الجبل، الذي نزح إليه عشرات الآلاف عمل فريق على رأسه الزميل الأستاذ حسام الدنف انطلاقاً من بلدة بعلشميه ليغطي مساحة واسعة من مدينة عاليه وجوارها... وقد قدر لي في أيام لاحقة أن أجول في تلك المناطق إلى جبيل شمالاً رغم انقطاع الطرق والجسور المقصوفة وإلى الجبل شرقاً.. لكنني، وإلى هذه اللحظة عندما أقف أمام هؤلاء الكبار، الذين داسوا على الطائفية والمناطقية والفئوية في ذروة الانقسام السياسية وتفاهات الساسة، واعترفوا بالإنسان.. فقط بالإنسان، أؤدي لهم تحية إكبار.
لكن مشهدين اثنين من مشاهد الحرب وتفاعلي مع متطوعين منهم لا تبرح مخيلتي، فإلى جانب كل تلك المهام المستجدة كان علينا اتخاذ قرارات مصيرية في لحظات قليلة، ومنها ما حدث من عملية إجلاء تحت النار لأشخاص معوقين تركوا في ضاحية بيروت الجنوبية وفر أهلهم وذووهم.
مشهد
في ذلك الصباح، كانت المتطوعة منال بدر الدين تضحك من فكرة أن تقصف الأم كا (طائرة الاستطلاع الإسرائيلية) سيارة المتطوعين الذين توجهوا إلى الضاحية الجنوبية بهدف إجلاء شابين من ذوي الإعاقات الذهنية الحادة من تحت أنقاض عيادة طبية. يقود علي بلال الفان الأخضر متجهاً في البداية إلى ساحة الغبيري، يرافقه محمد مروة، هيام بكر، أنور مروة. يضع الشباب خطة بديلة جدية هذه المرة، بعيداً عن ضحكة منال، "ما الذي سنفعله إن قصفنا؟". لكن قبل انطلاقة الفان بدأ قلبي يدق سريعاً، وكان عليّ أن أنطق بهذه الكلمة الصعبة.. لا أدري اليوم كيف تلفظت بها، ربما كان ذلك بشكل مسرحي مرتجل.. "انطلقوا".. "لكن فعلاً ما البديل؟ ماذا لو تحقق ما قالته منال؟". اقتضت الخطة أن يبقى حسان جمعة، وهو شاب لديه شلل أطفال منذ الصغر، على أهبة الاستعداد للانطلاق بسيارته البي أم الصغيرة لإنقاذهم. تنقضي الدقائق بطيئة.. بل الثواني تصاحبها حبات عرق باردة.. في انتظار وصول المجموعة، في انتظار الوصول إلى العيادة شبه المهدمة، في انتظار إجلاء الشابين المعوقين، وفي انتظار عودة الفريق. ويعودون.. يقف الفان بعد رحلته المرعبة في زاروب منيمنة الصغير في شارع حمد.. تهرب دمعة من عيني عند وصولهم، ما هي إلا ساعات حتى تعود الطائرات الإسرائيلية لتغير على نفس المكان في الضاحية الجنوبية لبيروت محولة العيادة وجوارها إلى أنقاض.. يضحك الشباب مهنئين أنفسهم بالسلامة.
تضحك منال التي تجاوزت العشرين، مجددا، تلومها ناهدة حميد على دخولها إلى الضاحية تحت القصف، لكن ناهدة نفسها كانت قد غامرت بنفسها قبل يومين، إذ انها توجهت إلى البقاع الأوسط لشراء مستلزمات طبية ومواد غذائية بعد أن شحت السوق، تقول: "كان لا بد لي من ذلك، إذ أن حياة كثيرين تتوقف على تقديم المساعدة لهم في ظل تلك الظروف القاسية التي مررنا بها". ركبت ناهدة إلى جانب ماهر زهر المتطوع الذي قاد شاحنته إلى بلدة قب الياس ومنها، في وقت كانت الطائرات الحربية تستهدف كل ما هو متحرك على الطريق... حتى الدراجات النارية. وذلك ليس مستغرباً منها، فهي فتاة معتقلة سابقة في سجون الاحتلال الإسرائيلي في معتقل الخيام، قاومت، واعتقلت، وخرجت بروح منتصرة.
كل ما يمكن أن يستنتجه المرء من كلام هؤلاء الشباب الذين يجترحون المعجزات تحت النار انسجامهم مع بعضهم البعض، نحو تحقيق هدف كبير، وهو مساعدة الناس قدر استطاعتهم. كان كثيرون منهم قد جالوا بيروت سيراً على أقدامهم بحثاً عن نازحين يحتاجون إلى مساعدة عينية، ثم عادوا من جديد لتلبية هذه الحاجات.
مشهد ثان
كانت الفرش الإسفنجية قد اختفت من الأسواق، واحتكر من احتكر من التجار ما لديه منها، وباتت عملة صعبة. وقد نفد ما لدى برنامج الطوارئ منها في لحظة مصيرية تدفق فيها آلاف النازحين إلى بيروت، ولم تنفع الاتصالات بالمناطق الأخرى في تزويدنا بالفرش.. أتانا خبر أن مستودعاً للفرش في محلة الأوزاعي جنوب العاصمة يفتح أبوابه، ولديه الكثير من الفرش.. وكانت تلك المحلة قد تعرضت للقصف غير مرة، وقد بدا مستغرباً أن نقرر في تلك الساعة من بعد الظهر أن نتوجه جنوب بيروت.. ما هي إلا لحظات وبادرتنا بترا مجدداً بعد عودتها من جولة على مدارس مجمع بئر حسن أن كثيرين يطلبون الفرش، كذلك من حديقة الصنائع حيث الناس ينامون في العراء.. "يللا يا شباب"، قرار لا أدري كيف صدر عني، وكان علي بلال المتطوع الباسم دائماً ينتظر أي إشارة كي يحرك الفان الأخصر الكبير.. مرت الطريق سريعة تحت دواليب السيارة، لينفتح أمامنا اوتوستراد الأونيسكو – الماريوت "ولا دومري" – لا يوجد مخلوق متحرك بعد وجبة دسمة من القنابل أسقطتها الطائرات على الضاحية، وبدت غيمة من الدخان الأسود تلفها.. "قول يا رب".. نظرت خلفي إلى الصبايا ومحمود حرب المتطوع الشاب، ابن الزميل الراحل محمد علي حرب، بدت الابتسامة المتوجسة على الوجوه. لم تأكل الطريق سوى جزء من الدقيقة كي نصل إلى الأوزاعي، حيث وجدنا المحال مفتوحة ولا أحد قربها.. سرعان ما أطل رجل خمسيني، طلب سعر الفرشة الواحدة ذات سماكة العشرة سنتمترات خمسة وعشرين دولاراً.. وقال وهو يقف أمام مئات منها، "كلها منباعة.. ما بدكن بلاش"، أي أنه قد باعها كلها، فإن لم نرضخ للسعر المضاعف مرتين فلن يبيعنا إياها.. عدنا، لكن هذه المرة صعوداً نحو ثكنة المضاد والسفارة الكويتية، التي قبل بلوغنا إياها أحسسنا بضغط شديد وارتفعت السيارة فينا سنتمترات في الهواء.. "شو هيدا؟"، تطل منال ومحمود من الخلف بوجل.. كان علي أن أتمالك أعصابي إلى حدها الأقصى، "ريغار.. دعسنا ع ريغار.. ولا شي"، أي مررنا فوق غطاء مجاري ولا داعي للقلق.. ما إن وصلنا قرب السفارة الكويتية والسيارة تطير بنا، حتى اكتشفت منال كذبي.. "ليك الدخنة!".. عدنا إلى المركز، وربما هنأنا بعضنا بالسلامة.. لكننا كنا نجد دائماً من يلومنا.
بلا حدود
على طول الجنوب وعرضه، في البقاع الأوسط والشمالي والضاحية، في كل مكان التقيتهم كانت أعينهم تشع بوميض غريب. يعلنون عن انتمائهم للإنسان. بعيداً عن التجاذبات الطائفية والمناطقية للمساعدات القادمة من خلف البحار، بعيدا عن المزايدات الحزبية والانتخابية و"الرمضانية" في توزيع الحصص الغذائية والمواد العينية والفرش والمستلزمات الطبية.. يقفون في كل مكان جاهزين أن يمدوا يد المساعدة، متطوعون لهم فلسفتهم الخاصة "معاً نحو الحياة". لا تتبعهم الكاميرات في عملهم، ولا وسائل الإعلام على تنوعها وتنوع أغراضها، لا يهمهم ذلك، يعملون ليل نهار، ولا ينسون أنهم يحتاجون إلى راحة ما يوماً ما. جل ما يهمهم أن يلحظوا ابتسامة على وجوه الصامدين. وجوههم ما زالت هناك حيث دعت الحاجة ودعاهم الواجب، في بيروت أذكر منهم الزملاء والأصدقاء محمد لطفي، ناهدة حجازي، جهاد اسماعيل، باسم حجازي، د.حسين صفا، ناهدة حميد، إيمان خليفة، د.حسام الأبتر، بترا مقداد، شيرين شمالي، أيمن مروة، حوراء حوماني، حسين مروة، عصام سحمراني، محمد مروة، جبران مصطفى، محمود حرب، محمد الرفاعي، سمير مدني، غادة بدارو، نادين بدارو، رشاد أبو زكي، هيام بكر، حسان جمعة، رشا أبو زكي، فؤاد بدران، منال بدر الدين، فاديا قصب، ميرا مقداد، سامي وعلي حرب، فاديا رزق، كارول غدار، فاتن رزق، محمد سرحان، كاترين ضاهر، علي بلال، هديل وريان وغيدا وسعاد مروة، فوزية مروة، رشا عبد العال، لمى كحال، طه سمور، جاد كحيل، شكيب قعقور، يارا نمّور، نهى نمّور، أيمن فاضل، بشير أبو زكي، ناصر مهدي، طارق فخر الدين... وآخرون حولوا المستحيل ممكناً.. فلهم التحية أينما كانوا اليوم.
التعليقات (0)