كانت ليلة الثاني عشر من تموز أكثر من عادية، وكنت قد أرهقت نفسي بقراءة ليلية هادئة، بعد أن تخلصت ضاحية بيروت الجنوبية من صخب مونديال 2006، وحزن من حزن، أفرغ المبتهجون مخزونهم من المفرقعات النارية قبل يومين.
صباحاً، استيقظت متأخراً على إطلاق رصاص ابتهاج غزير، هبطت الدرجات الكثيرة إلى الشارع لأعرف الخبر مع توزيع حلويات على المارة والسيارات.. عملية الوعد الصادق "مقتل سبعة جنود إسرائيليين، وأسر آخرَين، في اشتباكات بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي حزب الله، في جنوبي لبنان، إثر تفجير المقاومة دبابة إسرائيلية، من طراز ميركافا"... إلى بيروت، المركز الرئيسي لاتحاد المقعدين، حيث اجتمع من وصل مسرعاً من الهيئة الإدارية والأصدقاء.. "ما العمل؟".
طال الصمت قبل أن يبدأ من شارك من الحاضرين في برامج الإغاثة في عدواني 1993 و1996 بالحديث عن خطوات تحضيرية.. لكن الجميع بدا واجماً يترقب الأصعب.. ما زلت أذكر تفاصيل وجوه إيمان، بترا، سونيا،.. محمد، فما سيحدث لن يكون شبيهاً بعناقيد الغضب. على نحو عاجل غادرت سيلفانا وجهاد إلى اجتماع جمعيات المجتمع المدني المرتجل في قصر الأونيسكو، ليعودا أكثر وجوماً، مع وصول خبر الغارات الإسرائيلية على مناطق لبنانية واسعة، من بينها قرى كفرشوبا ومزارع شبعا؛ إضافة إلى قصف مدفعي إسرائيلي عنيف، على جنوبي لبنان.
"لم تعمل الجمعيات منذ عشر سنوات على الإغاثة، ولا يوجد مقومات لاستقبال النازحين في الوقت الحاضر".. أمام التهديدات الكبيرة التي بدأت تصل من الجانب الإسرائيلي بات الحديث عن العمل على الأرض في الأماكن المستهدفة بالعدوان متعذراً.. "لا الضاحية مستحيل! ولا الجنوب لحد صيدا". ثم تم الاتفاق على إعداد خطة إجلاء لعشرات من أعضاء الاتحاد في الجنوب اللبناني وفي ضاحية بيروت الجنوبية، إلى حيث سيكون القصف أخف وطأة.. ولم يكن يخطر في البال حينذاك أنه سيتم تحييد مناطق عن القصف.. واستحضر بعض الحاضرين ذكريات الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 فباتت الصورة أكثر قتامة وسوداوية.
"ما في نومة بالضاحية!"، تمنٍ يشبه الأمر أتى من سيلفانا. "طيب خلينا نشوف الليلة؟"، يأتي الجواب فوراً "لأ!".
إلى الضاحية من جديد. كانت زوجتي وأطفالي الثلاثة حينذاك خارج البلاد، ولعل ذلك كان من أهم العوامل المساعدة في منحي حرية في العمل طيلة فترة الحرب؛ فقد سافرت العائلة لزيارة الأهل مع انتهاء العام الدراسي منتصف حزيران، وما قد بدا وضعاً متعباً في غيابهم عني لفترة شهر، وجدته نعمة مع بدء تلك الحرب التي أجبرت الناس على ترك منازلهم والمبيت في أماكن نزوح مرتجلة.
وصلت إلى البيت، كانت الضاحية في حركة شبه طبيعية، وبعض المواطنين أخذوا التهديدات الإسرائيلية على محمل الجد، وشرعوا بتوضيب أمتعة خفيفة، وكانت فكرتهم عن الحرب "يومين تلاتة".. في شقتي الصغيرة نظرت حولي، وضبت حقيبة ثياب صغيرة، حشرت فيها بعض الأوراق الرسمية التي رأيتها هامة،.. وتذكرت السلحفاة التي كنت أداوم على إطعامها لمدة شهر غاب فيه الأولاد. كان نور ورائف قد أحضراها من إحدى الحدائق العامة، وكانا مع أختهم الصغيرة مشغولين بها. وجدت كيساً ورقياً مناسباً لإجلاء السلحفاة "تشريباشكا"، وتركت الشقة بعد أن فتحت شبابيكها سنتمترات قليلة كي لا يتحطم زجاجها بفعل الضغط.
وقفت على الشارع العام أنتظر سيارة أجرة. مرت سيارة نظر إلي السائق ملياً بعد أن سمع وجهتي.. "كورنيش المزرعة! هربان! يا عيب الشوم". ابتسمت له، وانتظرت. مر آخر بي وصرخ في وجهي "إن الموت لنا عادة.. وكرامتنا من الله الشهادة". مشيت، ومشيت، حتى وصلت إلى المشرفية، ومنها إلى صديق لديه حديقة صغيرة استودعته "تشريباشكا"، التي سرعان ما وجدت رفيقات لها، ثم أخذت سيارة أجرة إلى مكتبي.
التعليقات (0)