أتوقف بعد مرور ثلاثة أعوام على تلك الليلة، أفلفش الأوراق والذكريات التي ما تزال تداعياتها ماثلة أمام عيني. خلفي، في مكتبي الواسع في بيروت، ينتصب لوح خشبي زين بصور متطوعين، بعضهم اختفى مع زمن الحرب، وآخرون ما زالوا يترددون على المكتب الجديد. لديهم إحساس غريب يترجمونه بجمل وعبارات أغرب، إحساس بأن أحد ما قد خان جهودهم حين مرت فترة النهوض المبكر التي تلت الحرب سريعة، وضاعت كل نهارات وليالي التعب في مناكفات السياسيين الذين تنكروا لكافة الجهود المدنية بغمضة عين.. وتقاتل خفافيش الليل على زواريب ومصالح فئوية، ونصبوا خيام اعتصامات ملتبسة...
ما الذي حدث فعلاً؟ كيف امتلأت كل تلك الصفحات بذكريات أناس كثر عن حرب لم يعيشوها؟ كيف قام أناس لم يعاينوا اللحظة بتفريغات تحليلية فباتوا سلاطين منابر الفضائيات، ولم يبق من لم يدل بدلوه في حرب على البشر والحجر.. أما أولئك الذين مروا بالتجربة لحظة بلحظة فتمهلوا لكي يعوا ما الذي مروا به فعلاً، وسطروا في الأمني والسياسي ما سطروا، وكالعادة نزلت القضايا الاجتماعية إلى أدنى سلم الاهتمامات والأولويات.. وطويت الصفحة سريعاً مع عودة التشنج إلى السياسة الداخلية والإقليمية، وكأن حرباً لم تمر من هنا.
هي مقدمة...، لكن ألفاً وماية يوم مرت، ولم يتعب فيها المحللون.. قلة قليلة من الكتبة تجاوزت السياسي والأمني والمناكفات إلى الجرح الحقيقي، إلى الناس في يوميات النار والجوع. وقلة من هذه القلة طالت الحركة المدنية اللبنانية بتفاصيلها خلال ثلاثة وثلاثين يوماً من الجنون، وما أعقبها من فترت النهوض المبكر. هل يستأهل الأمر أن نفتح حديثاً اليوم عن تلك الحرب، بعيداً عن توصيفها بـ "المغامرة" أو بـ "النصر الإلهي"؟! بعيداً عن "حكومة المقاومة السياسية" والبكاء أو التباكي أمام ممثلي الأنظمة العربية المتفرجة من جهة، وعن "أشرف الناس" و "المال الحلال" من جهة أخرى؟!
من أهم الحقائق التي استطعت تخليصها من أفواه الناس وأحوالهم أنهم ما كانوا على موعد مع حرب مدمرة عشية الثاني عشر من تموز 2006، كانت حربهم اليومية مع ساسة الموالاة والمعارضة المتفقين تحت الطاولة على امتصاص دمائهم.. تكفيهم وتزيد. فيما كانت بنى الشبكات الاجتماعية المحلية مترهلة.. إن وجدت. فبعد عدوان 1996 وتحرير 2000، وتطمينات غريبة من "البلد ماشي، والشغل ماشي" من أجهزة السلطة لغاية رحيل الحريري في 14 شباط 2005، ورحيل العسكر السوري مستعجلاً، بعد أن صار الـ "بقاع فالي"، على كل شفة ولسان في الإدارة الأمريكية، لم يكن يوجد لدى منظمات المجتمع المحلي اللبناني، والمجتمع المدني الكثير لتقديمه لمليون ونصف مليون نازح هطلوا من جبل عامل والضاحية إلى زواريب الوطن المنقسم على نفسه طائفياً ومذهبياً ومناطقياً.
وبات لبنان المدني فجأة أمام المعونات والمساعدات، وسيل من الشروط والتمنيات، وصمت عربي اعتدنا عليه، ارتفعت معه أصوات رجال دين تميز بين مقاوم وآخر من حيث الدعاء كإجابات على أسئلة "هل يجوز الدعاء للمقاومة في لبنان؟"، كآخر نكتة من نوعها في سجل انهزام العرب وانبطاحهم.
حاولت أثناء أيام النزوح الثلاثة والثلاثين، ألا يفوتني شيء من حراك المجتمع المدني، وقد نشر لي في إيلاف عدد من الريبورتاجات من مواطن النزوح القسري، كما خصصت عددين من مجلة "واو"، التي تصدر عن الوحدة الإعلامية في اتحاد المقعدين اللبنانيين، لبرنامج الطوارئ – مشروع الإغاثة الذي غطى مناطق واسعة من مساحة لبنان، كما نقلت بعضاً من هذه التجربة على صفحات مجلة "المنال"، التي تصدر عن مدينة الشارقة للخدمات الإنسانية، والتي خصصت عدد خريف 2006، للبنان، تحت عنوان أحمر عريض تساير مع حملة مدنية باسم "بحبك يا لبنان". لكن كل ذلك، وحتى المتابعات التي تلت الحرب عبر الصحافة المحلية والالكترونية وخاصة إيلاف، والسفير، والحوار المتمدن، وتلمس احتياجات جرحى الحرب، وآثار الحرب النفسية على الأطفال، بل حتى عملي على دليل "الأشخاص المعوقون في الحروب والكوارث" الصادر عن الوحدة الإعلامية عام 2008.. كل ذلك لم يرو غليلي.
أبدأ رحلتي اليوم مع الذاكرة والأوراق المنثورة أمامي، وأتركها أمام قراء مدونتي، ولا أعرف فعلاً كيف سأنهيها...
التعليقات (0)