مواضيع اليوم

حرب تموز 2006 .. آولى ليالي حمد

عمادالدين رائف

2009-07-17 14:50:50

0

ليس من السهل بمكان الحديث عن الحرب بنظرة مدنية، فهذا الحديث مهما كان مبسطاً لن يكون بالضرورة مفهوماً لشرائح واسعة طائفية ومناطقية ومذهبية وفئوية، فالعيون والآذان تكون مشدودة إلى الحدث الأمني، ثم إلى تصريحات الجهتين المتحاربتين، ثم إلى ردود أفعال الساسة المتناكفين؛ هذا ما بدأنا نتلمسه على الأرض منذ اليوم الثاني للحرب.


عندما انتقل برنامج الإغاثة التابع لمشروع الطوارئ من مكتب كورنيش المزرعة إلى طريق الجديدة، وتمركز الفريق في إحدى شقتي فرع بيروت في اتحاد المقعدين اللبنانيين، كان كل الظن أنه يستحسن الابتعاد عن الجسور التي بدأت الآلة الحربية الإسرائيلية تدكها واحداً بعد الآخر، وربما كان للتقنين الكهربائي دوره أيضاً في ذلك الخيار، وصلنا إلى المكان وكان كثيرون من سكان المنطقة يفرون منها مع أطفالهم، فهي أقرب إلى الضاحية المنكوبة وكان من المستحيل عليهم تهدئة الأطفال من رعب القصف الهمجي.


كانت الشقتان الأرضيتان في حالة تجديد وترميم، بل في حالة يرثى لها فمواد البناء متناثرة كومات هنا وهناك على أرضيتهما. وكان الاتحاد يحاول استصلاح إحداهما لمشروع الدمج الاجتماعي الاقتصادي، كما كان مخططاً كمكتبة عامة تفيد أبناء المنطقة، ومركز تدريب على الكومبيوتر، ما انتظر طويلاً ليتحقق بعد الحرب، وبعد فترة النهوض المبكر. حاولنا جاهدين أن نتمركز في الشقة الشرقية. كان لوصول جوزف وسونيا المتطوعين المتفانين فرحة كبيرة، كتلك التي غمرتنا في ليلة القصف الأولى، فكانا حينها قد أتيانا بالعشاء وسهرا معنا على ضوء الشموع. بذلت سونيا مجهوداً كبيراً في جعل الشقة الأرضية صالحة للإقامة، فعملت لساعتين مع المتطوعين، ثم انضمت إليها نادين. أخيراً، تم تزويدنا، أنا وجهاد بفرشتين اسفنجيتين بدون غطاء مخيط، وبشرشفين، كان بإمكاننا أن نرتاح بين جولة قصف وأخرى.


كانت ليلة 13-14 تموز عنيفة بما يكفي كي لا أجد في الصباح الباكر أي سيارة أجرة وأنا أقطع الطريق مشياً باتجاه محلة البربير، سيارة الأجرة الوحيدة التي مرت بي بعد عشر دقائق طلب سائقها عشرة آلاف ليرة كي يوصلني إلى شارع كاراكاس في محلة الروشة حيث تجمع مئات من النازحين في مدارسها الرسمية. في "ثانوية زهية قدورة" كان الوضع ملتبساً على النازحين وقد تفرقوا كيفما اتفق على غرف الفصول المدرسية، واكتظت الطوابق الثلاثة وباحة المدرسة الخارجية بهم. كنت أحمل مفكرة صغيرة وقلماً وأنا أجول بين الطوابق أسأل عن المسؤولين عن المدرسة، لكن يبدو أنه كان علي الانتظار بضعة أيام كي تؤول مسؤولية المدرسة إلى جهة أو حزب، فيما كان متطوعو النجدة الشعبية اللبنانية يحاولون تنظيم توزيع المساعدات العاجلة على الغرف من مركزهم على الطابق الثالث في المبنى، بينما كانت الطوابق في حالة هرج ومرج.


هكذا، مررت على غرف النزوح غرفة غرفة، أسأل النازحين إن كان بينهم من لديه إعاقة، كي يتم شمله ببرنامج الطوارئ الذي كان قد بدأ عمله في بيروت. تلمست منذ اللحظة الأولى حاجات أناس اضطروا إلى ترك منازلهم في ضاحية بيروت الجنوبية على عجل، فكثيرون منهم نسوا أن يأتوا معهم بأدويتهم، وكان لدى كثيرين أمراض مزمنة كالسكري والربو.. وبدأ يتزايد الطلب على أدوية أعصاب. لكن عبثاً حاولت أن أشرح أنني أبحث عن نازحين معوقين، من الإعاقات الأربع، وأنني لست طبيباً، بل صحافياً، ما زاد الطين بلة.. ثم أوضحت أنني لست في مهمة صحافية بل متطوع في برنامج الطوارئ... "وأنا في الخدمة". تفهم بعض الشبان مهمتي، وباتوا يساعدونني فينتقلون معي من طابق إلى آخر، ويطرقون الأبواب بحثاً عن مستهدفين محتملين.


بعد كاراكاس توجهت شرقاً، مشياً على قدمي، نحو "ثانوية رينيه معوض"، وصلت في ذات اللحظة التي وصلت فيها مجموعات من النازحين، وكانت مجموعة من متطوعي النجدة الشعبية واتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني تحاول أن تشرح للنازحين الجدد أن المكان مكتظ، وقد غدا من الصعب استقبال آخرين. في الداخل انتشر عشرات في باحة المدرسة وأطل آخرون من الشرفات الواسعة. كان المتطوعون قد أعدوا لوائح اسمية بالنازحين لكنهم أغفلوا سؤالهم عن الإعاقة، فكان علي أن أمر على كل الغرف في الطوابق الثلاثة مجدداً.. في إحدى الغرف نظرت إلي حاجة ستينية، وخمنت أنني أوزع مساعدات، وبادرتني "نحنا كلنا هون معاقين يا ابني".. ضحكت لقولها، ثم أمام غرفة أخرى قالت إحدى النازحات "لا، لا يوجد معاقين، لا سمح الله". كانت حصيلة ثانوية رينيه معوض – رمل الظريف كبيرة، وكثيرة هي الحالات، لمن وجه تلك السيدة على الطابق الثاني لا يغادر مخيلتي.. الحاجة امرأة سبعينية، كسر وركها بعد وقوعها على درج منزلها أثناء عملية الإجلاء من محلة الرمل العالي قرب طريق المطار، كانت الطائرات الإسرائيلية في تلك اللحظة تدك خزانات الوقود في مطار بيروت الدولي، الذي سمي باسم الشهيد رفيق الحريري، وقد امتلأت المنطقة بالرعب والدخان، وانتظرت الحاجة على الدرج مكسور وركها فرج الله، إلى أن تم نقلها إلى مستشفى بيروت الحكومي، الذي سمي باسم الشهيد رفيق الحريري.. كذلك. هناك تم تجبير الورك، وطردت من المستشفى "لعدم وجود أسرّة".. وكان نصيبها أن تنقلها سيارة إسعاف النجدة الشعبية أربع مرات أسبوعياً إلى ذات المستشفى الذي لم يستقبلها كي تغير للجرح، وكي تقوم بغسل الكلى.. في المدرسة وجدتها وعيناها مغرورقتان بالدموع، وإلى جانبها ابنتها.. "لا حول ولا قوة إلا بالله"، لم أستطع أن ابتدع حلاً.. لكنها كانت بحاجة ماسة إلى سرير طبي، كذلك لم يكن بالإمكان نقلها إلى الطابق الأرضي إلا بعد جولة صراع كلامي طويل مع أولئك النازحين المحظوظين الذين احتلوا باحة الملعب.. أذكر أن تلك الحالة تمت متابعتها من قبل فريق المشروع الذي اكتمل عدده بعد أيام مع وصول الزميلة بترا، المعالجة الانشغالية، لكن أكثر ما أزعجني هو وقوفي بعد أيام قلائل في حر الظهيرة لساعة ونصف في الباحة الخارجية لمستشفى بيروت الحكومي، أنا والزميل جهاد من جريدة السفير، نستجدي أحد مسؤولي المستشفى المتنفذين ليقبل دخول الحاجة وحالتين أخريين، لكننا عدنا بخفي حنين.. بل بغضب مكبوت كبير، وأنا أستدعي سيارة الإسعاف مجدداً كي تنقلها إلى مكان نزوحها المريع.


هي الحرب إذن، وللحرب أخلاقياتها وأعذارها... ولكل متنفذ تبريراته.


بعد جولة رمل الظريف، كان التعب قد هدني، عدت إلى شارع حمد، حيث ألفيت الزميل محمد، منسق عام برنامج الطوارئ في لبنان، وهو شاب وافر النشاط مكفوف، وإلى جانبه الزميلة المتطوعة ناهدة، وهما يتهيئان للتوجه إلى مركز نزوح آخر، "تعَ اطلاع وين رايح؟"، كان محمد يستفزني.. برفقة علي السائق المتطوع، الملقب بـ "أبو سلوطه" لسبب ما لم أعرفه حتى اليوم، توجهنا إلى ثانوية شكيب ارسلان في محلة ساقية الجنزير، بالقرب من مكاتب المفوضية العامة للاجئين التابعة للأمم المتحدة، والتي امتلأت الطريق أمامها بمواطنين سودانيين وعراقيين وعرباً آخرين، مأساتهم كانت هم وأطفالهم الذين افترشوا الأرض من لون آخر.


أمام درج المدرسة الكبير كانت توزع ربطات من الخبز العربي وعلب الجبنة، وكان النازحون الذي أمضوا ليلتهم في عراء باحة المدرسة التي ارتفعت فيها المياه المبتذلة لأكثر من سانتمترين.. في الداخل كان منظر الناس مكدسين قرب بعضهم البعض مخيفاً، وكانت معظم الفرشات الاسفنجية المتناثرة على أرضية الملعب المسقوف مبتلة بالماء. "هل أمضيتم ليلتكم هنا؟" "نعم!"، "والماء؟". "الله بيدبر!". ارتقينا الدرجات وسط حرارة خانقة ورائحة حريفة غير مريحة بحثاً عن مسؤول ما، لا جواب. كان ارتباك شباب تيار المستقبل الذين تولوا مسؤولية هذه المدرسة أكبر من ارتباك النازحين أنفسهم، ويبدو أنهم قد أظهروا عناية بهندامهم الموحد الحامل لشعاراتهم السياسية أكثر من عنايتهم بمركز النزوح. بعد التواصل مع مركز "ثانوية رينيه معوض" استطعنا نقل فتاة لديها شلل دماغي من باحة الثانوية الرطبة إلى مكان نزوح آخر.


وصلنا إلى مركز حمد وقد هدنا الإعياء.. كانت أولى الليالي التي استطعت النوم فيها منذ بدء الحرب.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !