منذ بضعة أشهر شاهدت فيلما من إنتاج قناة ناشيونال جيوغرافيك عن التدخل البريطاني في ماليزيا والذي كان تحت غطاء الذريعة المعروفة بمكافحة المد الشيوعي حيث تم إرتكاب كافة أنواع التجاوزات والفظائع. محور الفيلم كان بروز الحاجة لقوات بريطانية متخصصة في حرب الأدغال والقيام بعمليات خلف خطوط العدو وذالك على بسبب عجز القوات البريطانية التقليدية عن القضاء على الثوار الماليزيين, فكانت ولادة مايعرف بإسم قوات الخدمة الجوية الخاصة(SAS). كنت أتمنى من تلك القتاة وهي من القنوات القليلة التي تقدم برامج تعليمية ومناسبة لكل الأعمار أن تلتزم ولو شيئا بسيطا من الحياد حيث أن الحرب الباردة قد إنتهت وتم الإفراج عن الكثير من الوثائق بموجب قوانين الكشف عن المعلومات والتي فضحت الكثير أسرار العمليات البريطانية خصوصا في ماليزيا والتي إستمرت إلى مابعد الإستقلال عن بريطانيا سنة 1957. في الفترة 1948-1960, خاضت القوات البريطانية والتي تقدر 6000 جندي حربا ضد تمرد الماليزيين على الإحتلال البريطاني حيث تم إتباع وسائل وحشية لقمع التمرد منها القصف الجوي الواسع, قنابل عنقودية, إعادة التوطين والأسلحة الكيماوية مثل (Defoliant) ومواد كيميائية تدمر المحاصيل الزراعية. سبب الحرب البريطانية لم يكن له علاقة بحقوق الإنسان حيث إن ماليزيا دولة غنية جدا بالموارد الطبيعية كالفحم, الذهب, الحديد, المغنيسيوم والأهم المطاط والقصدير. الثورة في ماليزيا أقلقلت البريطانيين حيث هاجم الثوار على وجه الخصوص مزارع المطاط الذي كان يشكل 75% من الصدارات الماليزية كما أن ماليزيا كانت الأكبر بين دول الكومينولث في إنتاج المطاط. القصدير كان يشكل 12%-15% من قيمة الصادرات الماليزية. رؤوس أموال بريطانية كانت تمتلك 70% تقريبا من مزارع المطاط وكانت الصادرات الماليزية من الأهمية لبريطانيا حيث أن أحد الحكام البريطانيين لماليزيا صرح بأن فقدان تلك الصادرات سوف يضر بتوازن الإسترليني-الدولار في منطقة دول الكومينولث. أحد اعضاء مجلس اللوردات صرح بأن إنتاج القصدير قد توقف لمدة عشرة سنين حيث تم تقريبا إستهلاك المناجم الموجودة وعدم حصول إكتشافات جديدة بسبب نشاط الثوار الشيوعيين المزعوم. كما أن إنتاج المطاط لم يكن بأفضل حالا حيث إنخفض بنسبة كبيرة بسبب الهجمات على مزارع المطاط. سكان ماليزيا يتألفون من قومييتين رئيسييتين هما المالاي وذوي الأصول الصينية الذين كانوا يشكلون 45% من السكان حيث كان التمييز ضدهم من قبل البريطانيين خوفا من تمدد وإنتشار النفوذ الشيوعي عن طريق الحزب الشيوعي الصيني. إن الثورة الماليزية كانت تعطل خطة بريطانية لمنح حكم ذاتي لماليزيا وحكمها بطريقة غير مباشرة مع الإحتفاظ والتحكم بالإقتصاد لحماية مصالحها التجارية. قامت بريطانيا بإقرار دستور حكم ذاتي منحت فيه السكان من أصول مالاوية نفوذا واسعا حيث تم تشكيل مجلس حكم تنفيذي ينتقي المقيم البريطاني أعضائه بنفسه وتم تجريد 90% من السكان ذوي الأصول الصينية من جنسياتهم وكان ذالك البداية. تبع ذالك سلسلة من الإضرابات العمالية والإضطرابات خصوصا من قبل السكان ذوي الأصول الصينية مطالبين بأجور عادلة حيث ردت بريطانيا بسجن زعماء نقابات عمالية, إستخدام القمع ومضايقة الصحافة ذات التوجه اليساري. وفي سنة 1948 تم إعلان قانون الطوارئ في ماليزيا. الحكومة البريطانية إستهدفت على وجه الخصوص بقانون الطوارئ الحزب الشيوعي الماليزي الذي كان أمامه خياران؛ فإما القبول بالإنتحار السياسي أو القتال. تم تشكيل خلايا مقاومة مسلحة ممن سبق لهم القتال ضد الإحتلال الياباني حيث كان الصينيون في ماليزيا هم من قاموا حصريا بقيادة المقاومة. أغلب الجالية الصينية في ماليزيا كانت تعمل في مناجم القصدير ومزارع المطاط وتضررت بشدة من الإحتلال البريطاني حيث فقد الكثيرون ليس فقط وظائفهم المتواضعة بل وفقدوا الأمل بالعودة إلى بلدهم الأم. بكل ماتحمله الكلمة من معنى فقد تشرد نصف مليون ماليزي من أصول صينية في الغابات يقتاتون من النباتات والصيد ويشربون من مياه الأمطار فقدموا الدعم للثورة ضد الإحتلال البريطاني وهيمنة قومية المالاي وهم من قامت بريطانيا بشن حربها ضدهم. المفوض البريطاني في ماليزيا جيرالد تيمبلر صرح بأن نخبة المقاتلين في التمرد هم شيوعيون متعصبون ويجب بالقضاء عليهم. وفي خلال سنتي حكمه تم القضاء على ثلثي الثوار الماليزيين حسب مزاعم الحكومة البريطانية. قام سلاح الجو البريطاني بأكثر من 4500 طلعة جوية لدعم قواته على الأرض. وفي سنة 1956 تم إلقاء 545 ألف رطل من القنابل على أحد معسكرات الثوار ولكن أخطأت الطائرات هدفها. وفي بداية شهر مايو من نفس السنة تم إلقاء 94 ألف رطل من المتفجرات ولكن بسبب عدم دقة الإصابة فقد سقطت على بعد 250 ياردة من الهدف. وبتاريخ 15 مايو فقد تم إعادة القصف وإلقاء 70 ألف رطل من المتفجرات. الغارة أعلنت ناجحة حيث تم قتل أربعة من الثوار. تخيلوا 700 طن من المتفجرات والحصيلة مقتل أربعة ثوار وذالك يعتبر إنجازا!!!؟؟؟ كما إستخدمت بريطانيا مايعرف بإسم(nose fused bomb) والتي تزن 500 رطل بحجم منطقة مدمرة يبلغ 15000 قدم مربع والقنابل الإنشطارية والتي بلغ وزن القنبلة الواحدة 500 رطل والقنابل العنقودية التي كانت القاذفات البريطانية قادرة على حمل 190 قنبلة منها حيث تنشطر كل قتبلة إلى عشرات بل مئات القنابل الأصغر حجما وتحدث دمارا مروعا في مساحات واسعة. عدم الدقة في إلقاء القنابل أدى في أغلب الأحيان إلى سقوط ضحايا مدنيين كما في إحدى عمليات القصف التي أخطأت هدفها فقتل 12 مدنيا وجرح 26 أخرون. من المستحيل أن تخاض الحروب بطريقة أخلاقية خصوصا إذا كانت أسباب إندلاعها لأسباب أيدولوجية حيث يصمم كل طرف على إقتلاع الطرف الأخر والقضاء عليه. جرائم القتل والفظائع تم تبادلها بين طرفي النزاع حيث ركز الجنود البريطانيون على تسجيل أكبر عدد من الإصابات وكانوا يتفاخرون بذالك. بينما كان الثوار الماليزيون لايرحمون من يقع بأيديهم ويهاجمون مراكز التجمعات البريطانية المدنية والعسكرية. الجيش البريطاني إستخدم مخازن الأغذية المفخخة وقام ببيع أسلحة فاسدة للثوار الماليزيين عبر وسطاء كالقنابل التي تقتل صاحبها بمجرد محاولة إستخدامها والذخيرة الفاسدة. كما قامت القوات البريطانية بقطع رؤوس الثوار الماليزيين حين تعذر حمل جثثهم للتعريف بها مما أثار ضجة واسعة بعد إنتشار صور تظهر تلك الممارسات. من ناحية أخرى فقد إشتركت إلى جانب القوات البريطانية,قوات خاصة من روديسيا بقيادة بيتر والاس(Peter Walls) والذي أصبح قائدا للجيش الروسي بعد إستقلال بلاده والتي كانت تشكل محمية بريطانية وقوات تنتمي لقومية الداياك(Dyaks) في بورنيو والتي كانت تقطع رؤوس من يلقيهم حظهم العاثر في طريقها. ولعل أكثر تلك الممارسات وحشية وإنتهاكا لحقوق الماليزيين هي سياسة القرى الجماعية التي إتبعتها الإدارة البريطانية بداية من سنة 1950 تحت مسمى إعادة التوطين حيث كان يتم حصار مجموعة من المشردين الصينيين في الغابات في ظلمة الليل ويتم إيقاظهم وسوقهم في شاحنات إلى معسكرات إعتقال تسمى مجازا قرى وتكون محاطة بأسلاك شائكة وبحراسة قوات عسكرية. الكثيرون قاموا بالشكاية من دون فائدة بأن تلك المعسكرات كان ينقصها الخدمات الأساسية كما أنه كان يتم تفتيش السكان أثناء خروجهم للعمل صباحا وأثناء عودتهم لضمان عدم حملهم رسائل للثوار في الغابات أو محاولة تهريب الطعام لهم. فائدة أخرى لتلك المعسكرات هي عمالة رخيصة للعمل في مزارع المطاط, نوع من أنواع العبودية ضحيتها تقريبا نصف مليون ماليزي من أصول صينية. العقاب الجماعي كان سياسة أخرى إتبعتها بريطانيا في أكثر من مناسبة خصوصا حين حرمت سكان إحدى القرى بتاريخ مارس 1952 من الخروج من منازلهم لمدة 22 ساعة وكانت تطلق النار حتى على من يخرج لإستخدام المراحيض والتي كانت في ذالك الوقت تقع خارج المنازل وكانت مشتركة بين السكان. ولم تكتفي بذالك فقامت بتقليص حصص الأرز لأكثر من 20 ألف نسمة وأغلقت المدارس وخطوط النقل العام في مناطق أخرى. وقد وصل تقليص الحصص الغذائية وخصوصا الأرز إلى 40% في بعض المناطق التي كان ينشط فيها الثوار لمنع السكان من تقديم أي دعم لهم مما أدى إلى ظهور أعراض سوء التغذية وبداية مجاعة واسعة النطاق. كل تلك الأعمال الوحشية كانت تتم شرعنتها في القوانين البريطانية التي تسمح بإعتقال الأشخاص الذي يشتبه في تشكيلهم خطرا على السلامة العامة ولكن لايوجد أدلة كافية لتقديمهم للمحاكمة فتم إحتجاز 34000 شخص في السنوات الثمانية الأولى للثورة وتم إبعاد 15000 شخصا تقريبا بإرسالهم إلى المنافي. بريطانيا خاضت تلك الحرب دفاعا عن مصالح تجارية ولم يكن للإمتداد الشيوعي أي علاقة بها فالحزب الشيوعي الماليزي لم يكن يتلقى دعما من الإتحاد السوفياتي أو الصين ولم يكن إمتدادا لأي منهما ولم تثبت التقارير البريطانية نوع من الصلة. الخوف البريطاني كان نابعا من إنتصار الثورة الصينية سنة 1949 وأنه في حال إنتشرت الثورة من ماليزيا فسرعان ماسوف تفكر بلدان أسيوية أخرى بالشيئ نفسه ويكون هناك منطقة تجارية في أسيا لامكان في وسطها للمصالح الأجنبية وخصوصا البريطانية. السياسات الوحشية التي إتبعها المفوض السامي البريطاني في ماليزيا جيرالد تيمبلرز(Gerald Templer) كانت ناجحة فقد تم القضاء على التمرد في ماليزيا وإستقلت سنة 1957 مع الإبقاء على المصالح البريطانية التي إستمرت بالتحكم بما نسبته 70% من إنتاج المطاط ونسبة كبيرة من إنتاج الفحم والقصدير والمعادن الأخرى. وقد إستمر ذالك حتى فترة طويلة بعد الإستقلال فإحصائيات سنة 1970 تذكر أن 70% من التجارة مع الخارج تتحكم بها شركات أجنبية أغلبها بريطانية و75% من المزارع مملوكة لتلك الشركات. كما أن 80% من نشاطات التعدين, 62% من الصناعة و58% من نشاط المقاولات مازال مسيطرا عليه من قبل شركات أجنبية اغلبها شركات بريطانية. الإحتلال البريطاني لماليزيا كان وصمة عار ومايزال والممارسات الوحشية التي تم إتباعها هناك تتنافى وكل المواثيق والأعراف الدولية التي وقعت عليها بريطانيا بنفسها وقامت بمخالفتها لاحقا. كما أن تلك الممارسات تم إستنساخها من قبل عدد من الدول مما جعل بريطانيا مرجع ومدرسة في قمع التمرد والثورات حول العالم. ويبقى البريطانيون أسياد السياسة حول العالم وأساتذة في تدبير الإنقلابات العسكرية وقمع التمرد والثورات وكما نقل عن لسان الزعيم الهندي المهاتما غاندي(إذا رأيت سمكتين تتقاتلان في الماء-المحيط الهندي في رواية أخرى- فاعلم أن ذلك من تدبير بريطانيا). رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة http://science-culture-knowledge.blogspot.com/2015/08/blog-post_14.html الرجاء التكرم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية النهاية
التعليقات (0)