حرب الاختلاط ..
تركي الأكلبي
لقد جاءت " حرب الاختلاط " لتكشف حقيقة لم تكن مثار جدل
واسع ، وهي إشكالية خلق العدو التي لم تكن فقط منهجية خاصة بالآخر . ولذلك كانت صناعة ما يسمى بالتيار الليبرالي والعلماني في مقابل التيار الإسلامي المتشدد والوهابي والسلفي . وقد بنيت هذه التصنيفات في سياق نظرية " المخالف المضاد " وهو بهذا المفهوم أشد خطرا من العدو الخارجي لأنه يشكل الضد والمنافس على الوضع القائم بالنسبة لطرف والمحافظ على كل ما هو تقليدي بالنسبة للطرف الآخر .
وعلى هذا الأساس تكّونت العديد من التصورات التي تبرر حفز مثيرات التخويف والقلق لدى المتلقي على العقيدة والهوية الإسلامية والقيم الدينية والاجتماعية من خطر الليبرالية والعلمانية والتغريبية ، وترسخ لدى الطرف الآخر توجس من سيطرة التقليدي والأصولي والسلفي على الأوضاع القائمة .
وفي واقع الأمر ليس في السعودية تيارات بالمفهوم التنظيمي
أو المؤطر أيديولوجيا ... هناك بنائية اجتماعية وثقافية فاعلة ،
وهناك مكتسبات علمية وأخرى سلطوية . هناك آراء وأفكار واعتقادات واقتناعات وغايات وأهداف ودوافع ، وهناك عقلانية واقعية ، وهناك نقل بحت ، وعقل بحت ، ونقل وعقل واجتهاد . وهناك المتعصب لرأيه وآراء الآخرين الذين يستقي منهم آرائه . غير أن هذا لا ينفي وجود المتشددين والمتطرفين في الدين وآخرين يؤمنون بأقصى الأفكار العلمانية تعارضا مع التشريع الإسلامي الثابت .. وربما لا دينين .
وتظل وسائل الصراع المختلفة والمتضاربة تؤطر كل هذا التنوع وتصهره في بوتقتين متناقضتين .
وقد كان للتكوين البنائي الثقافي والاجتماعي السائد ومنه العادات والتقاليد وتقديس الأشخاص والآراء والمسلمات دورا في نشؤ قاعدتين جماهيريتين غير متكافئتين من ناحية العدد ومن ناحية التقبل . وليس صحيحا ما يشاع عن تأثير الرسائل الإعلامية لكل طرف في غلبة جمهور على آخر بل العكس هو الصحيح فالقاعدة الغالبة ذات التقبل المطلق تقريبا هي التي أسهمت في اتساع وتأثير دائرة الخطاب الديني المنفعل والمضخم للأخطار المحدقة بالأمة ، وربما شجع جزء من هذه القاعدة الجماهيرية العريضة – وهو الجزء الذي يتمثل في المتعلمين الأميين - شجع ظاهرة السباب المخالفة للتعاليم الإسلامية التي تنهى عن الفحش في القول وشخصنة الرأي ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تكّون اتجاهات المتلقي السلبية وحنقه تجاه الطرف الآخر ، وذلك من خلال التقبل والتفاعل مع ما يطلقه البعض من ألفاظ وعبارات على العدو
( التغريبي ) الوهم من قبيل :
المنحلين أخلاقيا ، المنافقين ، الشهوانيين ، وأعداء الدين . إلا أن علماء الدين ربما لا ينظرون إلى تلك الأسلحة المستخدمة لضرب المخالف بذات القدر من الأهمية لدى كثير من الانفعاليين " أن جاز التعبير " .. لكن الغاية لدى البعض الآخر قد تبرر استخدام عصى النص الديني لضرب المخالف حتى لو كان النص بواد والقضية بواد آخر ، وكثيرة هي الآيات والأحاديث التي تجتزأ من سياقها وتؤخذ بحرفيتها اللفظية لحشد أكبر قدر ممكن من النصوص استدلالا على أمر ما مغاير لمقاصد تلك النصوص ، بل أن بعضهم قد يخفي حقا في قضية ما من القضايا مثار جدل لمجرد أن الطرف الآخر يقول بهذا الحق ! وحتى حينما " يُشقّ الصف " – كما يقال – تنهال المقالات والبيانات على من فعل ذلك ولم يقف الأمر عند بيان الحجة باعتبار رأي من " شق الصف " رأيا مختلف ينبغي قبوله .
إذن ، هو الصراع غير المتكافئ بين مكوّنين ثقافيين .. تقليدي فاعل ومؤثر ، وآخر تجديدي تنويري غير مؤثر في وقتنا الحاضر لكنه يشكل خطرا مستقبليا على مكتسبات هامة للكثيرين يحقق استمرارها دوافع اجتماعية وسياسية واقتصادية مؤثرة .
ومن هذا المنطلق ضُخمت العديد من القضايا الاجتماعية وأحيطت بسياج نفسي وإجرائي من الخصوصية الاجتماعية ، وهي قضايا لا تعدو أكثر من كونها هدف في حد ذاته ، وفي مقدمة هذه القضايا قضية الاختلاط .. وهناك اتجاهين متناقضين نحو الاختلاط :
الاتجاه الأول يعتبر تحريم " الاختلاط " أمرا مسلم به .
والاتجاه الثاني – ومنه رأي يقول به علماء دين - يندرج تحت واقع منهج الإسلام العقلي لكل ما لم يرد به نص قاطع ، أو كان محل خلاف ، أو ابتعد بقدر ما عن التطابق بين اللفظ والمقصد ، أو كان كلي المقصد .
وينحو هذا الاتجاه إلى أن الدين الإسلامي لا يمكن أن يأتي بما يتناقض مع العقل أو يغاير الطبيعة البشرية التي جعلها الله تعالى أساسا للاجتماع البشري ؟ فكل مجتمع بشري هو مجتمع واحد ، وتقسيمه إلى قسمين منفصلين ومنعزلين هو مما ينافي طبيعة خلق البشر .. قال تعالى :
" يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم " الحجرات 13.
وإذا كان دور المرأة الأسري والمتمثل في الإنجاب وتربية الأبناء والذي خلق الله لها من المقومات الأنثوية الجسدية والنفسية ما يجعلها مؤهلة ومهيأة له فأن الإسلام لم يجعل من دورها هذا
- وهو دور أساسي بلا شك - مانعا للقيام بدورها الطبيعي في العمل الإنتاجي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والإبداعي وبخاصة كلما كان ذلك يقوم على قوة العقل لا قوة البدن ، ولم يأمر بعزل ميدان عملها عن ميدان عمل الرجل والقاعدة النبوية الشريفة تقول : " النساء شقائق الرجال "
ولذلك قال الله تعالى :
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
( 30 ) وقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُورِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } النور 31 .
وهما الآيتان اللتان يستدل ويستشهد بهما ( مانعوا الاختلاط )
في كل وعظ أو حديث عن تحريم الاختلاط لعدم وجود نص ثابت ينص على عزل الرجال عن النساء في ميادين العمل والعبادة ..
ولو كان مفهوم الاختلاط المطبق حاليا محرما دينيا لما أمر الله الرجل والمرأة بغض بصرهم وحفظ فروجهم ، ولا أمر المرأة ألا تخضع في القول وألا تتبرج أو تبدي زينتها ..
Turki2a@yahoo.com
التعليقات (0)