بعد إنتهاء مسرحية حرب اكتوبر وتداعياتها ، وأطوار السلام المصرى المنفرد مع إسرائيل و إفرازاتها ، بدأ السادات حملة تطهير ، أو تمشيط فى جميع الأجهزة السيادية بالدولة ـ ولا تزال تلك الحملات مستمرة من آن إلى آخر ، وحتى وقتنا هذا ـ وعلى رأسها القوات المسلحة والشرطة والخارجية والإعلام ، و كان يتم تسريح كافة القيادات التى كان يشك فى ولائها وإخلاصها ، ولو بقدر بسيط جدا ليس لمصر ، ولكن لشخص السادات ذاته ، القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية .
وكا ينجم ـ ولا يزال ـ عن عمليات التمشيط ، أو التجريف ، الدورية تلك تسريح الألاف من شباب القيادات المبشرة الواعدة من العامليين بتلك الأجهزة ، و ممن هم فى عمر الزهور وقمة العطاء لأمتهم ، والذين قد تبدأ أعمارهم من الأربعين ، أو ما دون ذلك بقليل ، وكان يتم إحالة هؤلاء إلى ما يسمى بالإستيداع ، أو المعاش المبكر . والمحظوظ من هؤلاء قد يتم إلحاقه بأحد الأعمال المدنية والتى يحصل منها على راتب مجز بجانب معاشه التقاعدى ، وهنا تثار مسألة العدالة الإجتماعية ، ومشكلة توزيع الدخل القومى بكل عدالة وحيدة وشفافية ، وتلك قضية آخرى .
ومن أخطر عملية التمشيط ، أو التجريف ، تلك ، أو التفاضل بين أبناء الوطن الواحد فقط على أساس الولاء الشخصى لشخص الزعيم وليس للوطن ، هو تقرييب ما يسمى بأهل الثقة ـ ومهما كانت ضحالة تفكيرهم وضحالة مستواهم الفكرى ـ وإبعاد أهل الخبرة الحقيقين ، ومن ثم تدخل الأمن فى إختيار ، أو إنتقاء ما يسمى بأهل الثقة ، وهنا تلعب المجاملات والأهواء الشخصية المريضة دورا لابأس به . و كان من أهم تلك التداعيات التراكمية لمثل ذلك التدخل الأمنى هو حصول مصر على صفر فى كل شىء بدءا من قرعة مونديال 2010 ـ وهو ما اشتهر ، واصطلح على تسميته بصفر المونيال ـ ومرورا بصفر الأبحاث العلمية على مستوى دول الشرق الأوسط ، و يذكر أنه قد صنف 47 بحثا إسرائيليا هذا العام 2010 ضمن أفضل 60 بحثا فى الشرق الأوسط ، وكان نصيب مصر من تلك الأبحاث هو صفر ، ثم إنهيار التعليم ما قبل الجامعى وإنهيا ر التعليم الجامعى ذاته، وخروج الجامعات المصرية من أى تصنيف دولى أو حتى أكاديمى ، ثم إنهيار الزراعة ، وتفاقم كل من الدين الداخلى والخارجى ، ناهيك عن تزوير الإنتخابات والاستفتاءات ، والإنتهاكات المستمرة والمضطردة لكل من القانون والدستور ، ثم إنتهاك حقوق الإنسان بطرق صارت الآن منهجية ، من قبل النظام . ومبارك هو بلاأدنى شك المسؤل الأول والآخير عن كل الكوارث التى لحقت بمصر والمصريين فى الثلاثين عاما الآخيرة تلك من تاريخ مصر الحديث ...
وأعتقد أن بداية أخطاء السادات القاتلة ، والتى لم تغفر له من قبل حتى المؤسسات السيادية ، هى عندما استقال إسماعيل فهمى ، وزير الخارجية الأسبق ، وآخر الوزراء المحترمون ــ أوقبل الآخير ، حيث سيلحق به بعدئذ محمد إبراهيم كامل ، وكان أيضا وزيرا للخارجية ـ فى عهد السادت حيث استقال من منصبه إحتجاجا على سلام السادات المنفرد مع إسرائيل ، ودون الرجوع إلى الخارجية المصرية ، أو إلى فهمى شحصيا لأخذ رأيه أو مشورته حول مبادرة السادات للسلام ، لأنه ـ أى فهمى ـ سيكون هو المعنى الرئيسى بتنفيذ مبادرة السادات ، فضلا عن المساهمة أو المشاركة أيضا فى رسم السياسات الخارجية و ما يمكن أن تتمخض عنه مبادرة السادت المنفردة للسلام .
وبعد أستقالة فهمى ، اختار السادات وزيرا آخر للخارجية ، كان مقربا له ، ويقال إنه كان ضمن أعضاء تنظيم ما كان يسمى بالضباط الأحرار ، وهو محمد إبراهيم كامل .
وكان على كامل السفر إلى الاسماعيلية ـ وتلك كانت ثان المشاهد التى لم تغتفر للسادات ـ والذهاب إلى السادات فى إستراحته بالاسماعيلية لكى يحلف اليمين الدستورية أمامه من هناك ، و قبل أن يتسلم رسميا منصبه كوزيرا للخارجية لجمهورية مصر العربية ، وكان مناحم بيجين ـ رئيس وزراء إسرائيل عن حزب الليكود ـ حالا ضيفا وقتها على السادات بإستراحته بالاسماعيلية ، ومن كرم ضيافة السادات ـ وهذا خرقا ثانيا للدستور ، وكان الأول هو عدم حلف اليمين فى العاصمة ذاتها ـ أن دعا بيجن إلى حضور حلف إبراهيم كامل لليمين قبل أن يتولى منصبه ـ وربما تلك كانت أولى الضربات الموجعة والمباغتة والغير متوقعة من السادات تجاه إبراهيم كامل ، والتى تم البناء عليها فيما بعد تراكميا لتكون المحصلة فى النهاية هى تلك الطريقة التى أراد أن يقدم بها إبراهيم كامل استقالته للسادات وهو فى كامب ديفيد بالولايات المتحدة .
وقد كان من مفارقات القدر بحق هو أن يستقيل إبراهيم كامل ـ وهو آخر الوزراء المحترمين ـ أثناء أوج المفاوضات المصرية الإسرائيلية فى معسكر كامب ديفيد إحتجاجا على تلك الشروط والتنازلات المزلة المهينة التى أقدم عليها السادات ، والتى لايمكن أن تعبر بحال عن أن مصر كانت هى الطرف المنتصر فيما كان يسمى بحرب اكتوبر 1973 ، بل تعكس فقط كما لو أن مصر قد استسلمت فى تلك الحرب لإسرائيل ، وعليها فقط أن تقبل صاغرة ـ طوعا أو كرها ـ مايملى عليها من شروط ، ومن هنا أصر الراحل محمد إبراهيم كامل على الاستقالة ، ونفض أو غسل يديه مما فعله السادت ، ولكنه منع بحزم ـ ويمكن الرجوع إلى مذكراته بهذا الشأن بعنوان "السلام الضائع فى اتفاقيات كامب ديفيد " ـ من تقديم إستقالته فى الولايات المتحدة ، والمفاوضات كانت لاتزال جارية ، وعلى أشدها فى كامب ديفيد ، وطلب منه مغادرة الولايات المتحدة أولا، وله بعدئذ ان يقدم استقالته من مصر إذا شاء . وهذا هو ما حدث بالفعل .
وأعتقد لأن الرجل كان لديه بقية من ضمير وطنى حى أراد فقط أن يكتب مذكراته ليقول فيها كلمته للأمة وليبرأ من خلالها زمته أمام الله , وأمام الشعب ، وأمام حتى والده الذى رباه ـ وعلى الرغم من وفاته ـ حيث ذكر كامل والده فى آخر مذكراته بعبارة " والان نم مرتاحا يا والدى" .
ويذكر أن من كان ضمن صحبة السادات فى "الكامب" كل من بطرس غالى وزير الدولة للشؤن الخارجية ، واسامة الباز وكان وقتها وكيلا بالخارجية ، كما أن السادات كان يصطحب معه دائما فى سفرياته للولايات المتحدة صفوت الشريف ، والذى كان وقتها رئيسا لما يسمى بهيئة الإستعلامات .
وقد طال تمشيط السادات لمؤسسات الدولة الفريق أول الشهيد أحمد بدوى وزير الدفاع الأسبق ، ولكن بطريقة أكثر دموية ، وغير مباشرة. وقد يكون تفريغ أجهزة التصنت التى وضعت للرجل ـ وكما سنعرف منه لاحقا ـ قد أوحت للسادات بنية بدوى، وبعض من رفاقه ، بالقيام بانقلاب عسكرى أبيض ـ غير دموى ـ ضد السادات فباغت الآخير أحمد بدوى ورفاقه بخطة مضادة لتصفيتهم جميعا والتخلص منهم . ولم يكن بوسع السادات تسريح أحمد بدوى من الخدمة بطريقة مباشرة لانه كان يعلم ، و من خلال أجهزته الخاصة التى كانت تدين له وحده بالولاء ، ما كان يتمتع به بدوى من قبول وتأييد داخل المؤسسة ، وأن تسريحه من الخدمة بطريقة مباشرة هكذا قد يحدث بلبلة غير مأمونة العواقب بالنسبة للسادات .
ومن قتل ، أو إغتال مرة ، فقد يألف و يعتاد على ذلك ، وذلك بدءا من تهمة إغتيال السادات لأمين عثمان ، وتهمة قتل عبد الناصر بالسم الذى وضعه فى القهوة التى أعدها السادات بنفسه لعبد الناصر ـ وكما ذكر هيكل فى حلقاته بالجزيرة " تجربة حياة "، وذلك مماهو معلوم بالضرورة من جرائم قتل ارتكبت ضد أفراد من غير محاكمات ومن غير حتى أن تتح لأى منهم أية فرصة للدفاع عن أنفسهم ، ومن ثم فقد تكون هناك جرائم آخرى أرتكبها السادات ولم ندر عنها أى شىء حتى الان ـ ومن ثم التخلص من أحمد بدوى ورفاقه ربما بدت من وجهة نظرالسادات ضرورة حتمية للمضى قدما فى عملية السلام المصرى المنفرد مع إسرائيل ، وأيضا الحفاظ على مكتسبات ذلك السلام ، وتماسك المؤسسة العسكرية وضمان ولائها المطلق فقط لشخص السادات .
وربما كان من المفيد إلقاء بعض الضؤ على الفريق أول أحمد بدوى ـ وذلك نقلا عن موسوعة ويكيبيديا الالكترونية ـ حيث قد تولى قيادة فرقة مشاة ميكانيكية استطاع بها عبور قناة السويس عام 1973 من موقع جنوب السويس ، وعندما حصر فى 13 ديسمبر عام 1973 وصبر وأبلى بلاءا حسنا رقى إلى رتبة لواء وعين قائدا للجيش الثالث الميدانى وهو لايزال محاصرا فى ساحة القتال ..!.. وقد رقى بعدئذ إلى رتبة فريق فى مايو 1979. وعين وزيرا للدفاع وقائدا عاما للقوات المسلحة فى مايو عام 1980 .
وفى 2 مارس عام 1981 لقى أحمد بدوى مصرعه ـ ويلاحظ انه وزير الحربية الوحيد الذى عين فى ذلك المنصب منذ إنقلاب يوليو 1952 ، وإلى الآن ، ولم يرق إلى رتبة مشير أثناء الخدمة ، ولكنه قد حصل عليها بعد وفاته ـ هو وثلاثة عشر عسكريا مصريا من كبار القادة فى القوات المسلحة عندما سقطت بهم طائرة عمودية فى المنطقة العسكرية الغربية بمطروح .
والغريب ، وأيضا المريب ، فى الأمر ـ والذى لم يفتح فيه التحقيق حتى هذه اللحظة ، ضمن مواضيع كثيرة يجب أن يفتح فيها التحقيق ، حيث من حق جميع أفراد الشعب أن يطلعوا عليها ويكونوا على بينة منها ، خاصة أنه قد مر على أغلبها أكثر من خمس وعشرين عاما ـ أن يموت ، أو يقتل ، كل ركاب الطائرة بينما ينجو كل طاقم تلك الطائرة بالكامل .
وام يتوقف الفكر الإجرامى عند ذلك الحد ، بل إنه قد طال أيضا ، وفيما بعد ، قائد تلك الطائرة نفسه ، حيث قتل أمام منزله بالعجوزة رميا بالرصاص .
ويذكر أنه قبل ذلك الحادث بسويعات جلس أحمد بدوى مع صديقه علوى حافظ عضو مجلس الشعب وصديق السادات ، وأحد ما كان يسمى بالضباط الأحرار ، وقال لحافظ : " تصور إنه ـ أى السادات ـ ناوى يصفى أبطال حرب اكتوبر وأنا منهم .." .. ولمن يريد أن يستزيد من السادة القراء يمكنه الرجوع فى هذا الشأن إلى الموسوعة الالكترونية ويكيبيديا .
هكذا إذن بدت حرب اكتوبر فى نظر السادات وكأنها جريمة ينبغى عليه، إخفاء، أو محو أى أثر لها ، خاصة أولئك ممن كان لهم أيدى ظاهرة فى صنعها أو المشاركة فيها ، وقد تبين لهم بعض الحقائق التى قد تكون صادمة للآخرين ، ولكنهم لا يدينون بالولاء المطلق فى ذات الوقت لشخص السادات ، وكل من يمكن أن يعتلى عرش الرئاسة من بعده ..!
هذا كان عن السلام الخارجى مع إسرائيل ، والذى ليس لنا أى إعتراض على السلام كقيمة إنسانية نبيلة يجب أن تكون هى الهدف الأسمى و الأساسى لأى شعب من الشعوب و كل أمة من الأمم ، ولكن تحفظاتنا فقط تنطوى على إنه كان ينبغى ، ويفترض ، أن يكون هذا السلام متكافئا ومتوازنا وعادلا وشاملا كافة الأطراف ذات الصلة بموضوع النزاع، و إلا فإنه سوف يكون سلاما مفخخا أوملغما ، أو أداة تكتيكية لحرب بعيدة المدى إذا كان غير ذلك .
إذن ، أيها القراء الأعزاء ، ما سمى بحرب اكتوبر كان بمثابة أكبر خدعة وخديعة ، وعملية غش وتزوير وتدليس على مدى التاريخ الإنسانى بأسره ، وقد جرى من خلالها ، ومن ورائها ، ومن بين يديها ، وباسمها أيضا ، إستنزاف قدر كبير جدا من ثروات وطاقات وأموال كل العالم العربى بصفة عامة ، ومصر بصفة خاصة ، كما مزقت العالم العربى بعدئذ بموجب إتفاقيات السلام المصرية المنفردة مع إسرائيل وأحالته إلى كيانات متصارعه مع بعضها البعض ، وصار العالم العربى عدة عوالم عربية ، والدولة العربية الواحدة عدة دويلات عربية ، وآخيرا ، وليس آخرا أفرزت لنا قائد الضربة الجوية ، " حسنى مبارك وأولاده " شركة مساهمة مصرية . ..ومتعددة الجنسية .
مجدى الحداد
كاتب
التعليقات (0)