فى لقاء مع مبارك مع التليفزيون الإسرائيلى ، قد جرى معه منذ عدة سنوات ، سأله المذيع الاسرائيلى قائلا ـ ما معناه ـ "سيادة الرئيس نحن نعلم إنك كنت المسؤل عن سلاح الجو المصرى ، لكننا فى إسرائيل لم نسمع عن أى أثر لهذا السلاح"ــ والمقصود هو؛ ماذا فعل هذا السلاح فى حرب1973 ؟
فأجابه مبارك قائلا ـ وما معناه أيضا ـ "اسأل الذين أتوا من عندكم من إسرائيل ليأخذوا جثث الإسرائيلين التى كانت موجودة فى شمال الدلتا ".. وإلى هنا إنتهى كلام مبارك ، وكذا الفقرة المقتبسة من ذلك الحديث ، والسؤال لقائد سلاح الطيران فى حرب اكتوبر هو : أين كانت تدور أحداث حرب اكتوبر 1973 ، أو أين كانت ساحة تلك الحرب وإحداثيات إتجاهتها الجغرافية داخل القطر المصرى ..؟
والإجابة ببساطة هى أن الساحة الرئيسية لأحداث تلك الحرب كانت فى شرق الدلتا ، وتحديدا فى الضفة الشرقية من قناة السويس حيث تقع سيناء ـ وذلك إذا سلمنا بأنه كانت هناك حرب بالفعل ـ وخطوطها الخلفية كانت مدن القناة الثلاث ، الاسماعيلية والسويس وبورسعيد ، أما شمال الدلتا فهى المنطقة التى تنحصر بيين فرعى دمياط و رشيد ، وأظن إنهما ليس من مدن القناة ، وإننى أدعو السادة المختصين والمؤرخين العسكريين أن يدلو بدلوهم فى هذا الشأن ، ويوضحوا لنا عما إذا كانت هناك جبهة آخرى مفتوحة للقتال فى مصر أثناء حرب اكتوبر 1973 غير مدن القناة وسيناء ..!
وهذا الحديث يعزز فى واقع الأمر ويؤيد صحة ما ذهبنا إليه من إفتراضات سابقة كنا قد ذكرناها فى مقالنا السابق بشأن الضربة الجوية ، وحرب اكتوبر ذاتها ...
وبعد العبور المباغت للجيش المصرى ، وسماع دوى المدافع وضرب النار فى إسرائيل ، ومباغتة الإسرائيلين بعبور الجيش المصرى قناة السويس متجها نحو سيناء ، إنهارت معنويات الإسرائيليين بشكل حاد بات يهدد المجتمع ومن ثم الدولة العبرية ذاتها ، حيث توقف تيار الهجرة اليهودية الى إسرائيل ، و أكثر من ذلك ، وفى ذات الوقت ، قد حدثت هجرة معاكسة من إسرائيل الى الغرب وخاصة الولايات المتحدة ، وذلك فضلا عن إنهيار معنويات قطاع لابأس به من الجيش الإاسرائيلى .
كل ذلك قد دفع المخططين للعبة الحرب فى البيت الأبيض ـ وعلى رأسهم هنرى كسينجر ـ أن يفكروا فى إحداث تطور نوعى فى مجرى الحرب لصالح إسرائيل من شأنه أن يوقف الإنهيار النفسى فى صفوف المجتمع الإسرائيلى ، فضلا عن الجيش الإسرائيلى نفسه .
ومن هنا فقط جاء التفكير فى صنع أحداث الثغرة ، وعبور طائفة من الجيش الإسرائيلى إلى غرب قناة السويس فى هجوم أو عبور معاكس أومضاد ، وصولا إلى القرى المتاخمة أو الموجودة على أطراف مدينة الاسماعيلية ، وتوجهم بعدئذ، و بمحازاة ساحل القناة ، إلى السويس , ووصولهم من ثم حتى الكيلو 101 فى طريق السويس القاهرة .. وكان المطلوب أن يتم الحفاظ على ذلك الفصيل من الجيش الاسرائيلى الذى عبر لتوه ، ومن خلال هجوم مضاد ، قناة السويس ، وأن لايتعرض له الجيش المصرى بأى أذى ، ولذلك لم يتدخل سلاح الطيران لحسم الموقف ، ولذلك أيضا قد نشب ذلك الخلاف العنيف ، الشهير، بين الفريق سعد الدين الشاذلى ، رئيس هيئة الأركان للجيش المصرى أثناء حرب اكتوبر 1973، وبين السادات ، وقد أغراه السادات فى هذه الأثناء بترك الجيش والعمل كسفير لمصر فى أفضل المواقع التى يمكن أن يعمل بها أى سفير مصرى ــ وكما ذكر الشاذلى نفسه فيما بعد ـ وهى لندن عاصمة المملكة المتحدة... وقد ترك الشاذلى بالفعل العمل بالقوات المسلحة ، وأيضا العمل كسفير ، وتوجه إلى الجزائر واستقر بها كلاجىء سياسى ..لماذا ..؟...لأنه لم يكن على علم بلعبة الحرب تلك ، شأنه فى ذلك شأن الكثيرين من أبناء مصر وأبناء الجيش المصرى الأبرار ، والذين قد أخذوا أمر الحرب على نحو جدى .
وقد كان مطلوبا أيضا ، وذلك لإحداث أكبر أثر نفسى ومعنوى إيجابى فى صفوف الإسرائيليين جميعا ، أن تتحدث وسائل الإعلام العالمية ، والغربية خاصة ــ ولا مانع من أن تتحدث أيضا بعض وسائل الإعلام العربية ، والتى كانت لها صلات خفية غير معلنة، بطبيعة الحال، مع إسرائيل ـ بكثافة عن نجاح وجرأة وبسالة وشجاعة وجسارة القوات الإسرائيلية فى فتح ثغرة فى الجيش المصرى وعمل عبور مضاد للضفة الغربية من قناة السوس ، والتوغل من ثم فى عمق الأراضى المصرية، ثم حصار الجيش الثالث نفسه ، بقيادة اللواء أحمد بدوى ، فى ذات الوقت فى سيناء . وهكذا بدا الأمر فى نهاية المطاف و كأن إسرائيل هى التى حققت نصرا عسكريا مؤزرا وليس مصر ، حيث أن الحرب قد توقفت عند تلك النقطة تمهيدا لما هو أت من إتفاقيات سلام منفردة توقعها مصر مع إسرائيل ، وإسرائيل كانت لاتزال فى تلك اللحظة تسيطر على حوالى ثلثى مساحة شبه جزيرة سيناء ..!
ولنا أن نسأل ، ونسائل ، ونتساءل ، مع أنفسنا فى خضم تلك الأحداث الخطاب الجسام عدة تساؤلات ، مشروعة ، بطبيعة الحال ، حيث ليس من حق أى أحد أن يدعى إمتلاكه الحقيقة المطلقة ـ "الدوجماطيقية" ـ أو إدعائها ، ثم يحاول أن يفرضها على الجميع بشتى السبل .
والسؤال الأول الذى يجب أن نسأله هو ؛ كيف لأكبر دولة عربية ، وهى مصر ، و التى لديها أكبر وأقوى جيش فى العالم العربى ، وربما فى الشرق الأوسط ، والبلد ذات الأربعين مليون نسمة ـ على وجه التقريب ، وذلك فى زمن تلك الحرب فى اكتوبر 1973 ـ لا تستطيع أن توقف ، ناهيك عن أسر ذلك الفصيل الاسرائيلى بالكامل ، الجنود الإسرائيليين الذين واتتهم الجرأة التاريخية فجأة للعبور المضاد لقناة السويس ، ثم توغلهم بعدئذ فى عمق الأراضى المصرية .. .؟! .. ثم كيف استطاع فصيل مقاوم كحزب الله ـ والذى يقولون عنه إنه خارج عن الشرعية ـ وفى دولة طائفية ، وهى لبنان ، والتى لايتجاوز عدد سكانها ـ فى عام 2000 ـ الخمسة ملايين نسمة ، ومنهم من هم موالين لإسرائيل علنا كحزب الكتائب مثلا ، وسمير جعجع وغيره ، أن يجبر إسرائيل على الإنسحاب وبشكل منفرد ، وبدون أية شروط مسبقة ، أو حتى لاحقة ، من جنوب لبنان فى عام 2000 ، وذلك على إثر المقاومة اللبنانية الشرسة بقيادة ذلك الفصيل المقاوم ، والذى هو ليس جيشا نظاميا كأى جيش عربى آخر ، وذلك على الرغم من أن الجنوب اللبنانى هو إمتداد طبيعى لجغرافية الأراضى العربية لبلاد الشام ، والتى لاتفصل بينها حدود طبيعية ، ولفلسطين المحتلة ذاتها ، وليس بينهما قناة سويس لكى يعبر من خلالها الجيش الإسرائيلى ليصل إلى كل من الاسماعيلية والسويس فيما بعد ، ثم لا يعود إلى إسرائيل إلا بعد عقد إتفاقيات مذلة مثل إتفاقيتى فض الإشتباك الأول ثم فض الإشتباك الثانى عند الكيلو 101 وبرعاية الأمم المتحدة . وتلك الإتفاقيتين هما ماتم بناء إتفاقيات السلام أو الصلح المنفرد مع إسرائيل فيما بعد عليهما فى كامب ديفيد و توابعها ...؟!
كما لم يستطع ما يسمى بجيش الدفاع ـ أو الإحتلال ـ الإسرائيلى أن يوقع أية هزيمة بحزب الله فى جولة آخرى من محاولات النزال ، أو تكسير العظام ، لذلك الحزب فى العام 2006 حيث قد منيت إسرائيل بهزيمة منكرة فى تلك الحرب أيضا ، وذلك على الرغم من إنه قد دخلت عدة دول عربية فى لعبة الصراع ضد هذا الحزب ، وانحازت ، أو تحالفت علنا مع إسرائيل .
وقد فشلت أيضا إسرائيل فى ديسمبر 2008 ، وفى جولة آخرى من جولات النزاع فى عالمنا العربى ، فى تحقيق أهدافها من حربها ضد أهالى غزة المدنيين العزل البسطاء ، على الرغم من المجازر التى أرتكبتها بحق المدنيين العزل والأطفال والنساء ، حيث كان هدفها المعلن هو إسقاط حركة حماس ، وذلك كما ورد على لسان وزيرة الخارجية الاسرائيلية نفسها "ليفنى" ، حيث إنها أعلنت من القاهرة ، و فى مؤتمر صحفى مع وزير الخارجية المصرى أبوالغيط ، وقبل المجزرة على غزة بأقل من 48 ساعة ــ وكما يذكر موقع الوكيبيديا الإلكترونى ـ من أن إسرائيل لن تسمح بعد الآن بإستمرار سيطرة حماس على غزة وسوف تغير إسرائيل الوضع . و على الرغم من أن النظام المصرى قد شارك ـ ولا يزال ـ إسرائيل وتحالف معها فى حصار وتجويع أهالى القطاع ، إلا إنهما ـ أى إسرائيل والنظام المصرى ـ لم يستطيعا القضاء على حماس و الخلاص منها ، أو إسقاطها حتى بمساعدة دحلان ورجاله المتخفيين داخل القطاع .
وهكذا تبين لنا كيف أن مجرد فصائل مقاومة صغيرة استطاعت أن تقاوم وتقف فى وجه الجيش الذى لايقهر ، و أجبرته بالفعل على الإنسحاب من أراضيها التى احتلها عنوة وبلطجة ، وعلى الرغم أيضا من تحالف بعض الأنظمة العربية ، جهرا وعلانية ، مع كيان الإحتلال الصهيونى ضد فصائل تلك المقاومة لتصفيتها ، مقابل إحتفاظ تلك الأنظمة بعروشها.
ولا تخجل تلك الأنظمة من ملكيتها لتلك الجيوش العربية الجرارة ، والتى تنفق عليها سنويا المليارات ، و بسخاء شديد ، قل نظيره ، فى شكل رواتب وأجور وغيرها، فضلا عن تزويدها بأحدث الأسلحة المتاحة، والمسموح لها التزود بها ، فى العالم ، والتى لم نعد نراها فى أى من ميادين القتال ، ومع ذلك تصر تلك الأنظمة العربية صاحبة تلك الجيوش المرفهة العملاقة على تصفية أية شكل من أشكال المقاومة العربية الشرعية ، والتى استطاعت ـ أى المقاومة ـ أن تحقق بالفعل ما عجزت عن تحقيقة تلك الجيوش النظامية العربية منذ إنشائها وقيام جمهوريات العسكر العربية اللا ديمقراطية واللا شرعية .
مجدى الحداد
التعليقات (0)