إذن كان الشغل الشاغل للإدارة الأمريكية فيما يتعلق بسياساتها الخارجية تجاه الشرق الأوسط فى بداية حقبة السبعينات من القرن الماضى ، وفى ضؤ ما ذكر بمقالاتنا السابقة فى هذه السلسلة ، هو كيف يمكن تحريك تلك الأوضاع الراكدة فى الشرق الأوسط وذلك من غير أن تخسر إسرائيل شيئا مؤثرا ، بل و يمكنها ان تستفيد فيما بعد من تطبيع علاقاتها مع كل دول العالم العربى وإندماجها فى محيطه فيما بعد ، كما يمكنها كذلك ، وعلى المدى البعيد ، أن تقوده أيضا. و فى ذات الوقت تحقق الولايات المتحدة ومن ثم المعسكر الغربى نصرا كاسحا على الإتحاد السوفيتى السابق ومن ثم المعسكر الشرقى .
ولتحريك تلك الأوضاع الراكدة كان لابد من خدعة محكمة التخطيط والأداء والتنفيذ ، يجب أن تنطلى ، ولو بعض الوقت ، على كل دول وشعوب المنطقة، يشارك فيها من دول ــ أو أنظمة المنطقة ــ لاعبان رئيسييان وهما النظام المصرى فى مصر، وإسرائيل ، ولانستطيع أن نقول هنا" النظام الاسرائيلى" ، لأن تلك بالفعل عبارة نشاذ ، فمنذ قيام إسرائيل وحتى الآن لم يتلفظ أحدا أبدا، حتى من شعوب المنطقة ، بذلك اللفظ ، وذلك للأسف لأن إسرائيل دولة مؤسسات ذو نظام تعددى ديمقراطى يتم من خلاله تداول السلطة ، بغض النظر الآن عما يمكن أن نسميه بديمقراطية تبادل الأدوار فى إسرائيل ، كما لايعانى حكامها من أية أمراض نفسية أو عصبية مزمنة يمكن أن تشكل خطرا على شعوبهم بالمقارنة بحكامنا.
إذن فكانت حرب اكتوبر هى التى كان مطلوب أن تخوضها مصر ضد إسرائيل لتحريك ــ وليس تحرير ــ تلك الأوضاع التى كانت راكدة فى الشرق الأوسط ، على أن تقود مصر السادات العرب ـ كل العرب ، بما فيهم سوريا ـ فى تلك الحرب .
إذن هى حرب كانت سابقة التجهيز ، كالوجبات الأمريكية السريعة مثل" كنتاكى" وغيرها ، وذات سيناريو محكم ينبغى على السادات ، وبموجب عقد غير مكتوب بطبيعة الحال ، وكذا خاصته ـ كصاحب الضربة الجوية وقائد سلاح الطيران أثناء حرب اكتوبر 1973محمد حسنى مبارك ـ من القادة المقربين له فى أضيق الدوائر "الهيراركية" فى صنع واتخاذ القرار، أو عدم إتخاذه ، الإلتزام حرفيا بكل حرف أو حركة أو ساكنة فى هذا السيناريو ، وإلا يمكن أن تحدث مثل حادثة المنصة ، والتى كانت حتى بعد سيناريو السلام الصرى المنفرد مع إسرائيل ، والتى حدثت أثناء إحتفالات السادات بذكرى 6 اكتوبر فى 6 اكتوبر عام 1981 .
ولذا فلم يكن خروج السادات مبكرا من الحرب وتوريط سوريا فى الاستمرار وحدها فى تلك الحرب قرارا فرديا و شخصيا خاصا به أو حتى خاصا برؤيته لإتجاهات الحرب والسسلام فى المنطقة ، و كذلك قوله أن 99% من أوراق اللعبة بأيدى الولايات المتحدة لم يكن أيضا قولا عبثيا ، أو غير واقعيا بالنسبة له .
ومن الممكن ، ووفقا لما تقدم ، تتبع سيناريو تلك الحرب منذ لحظة عبور قواتنا المسلحة لقناة السويس ، ثم حدوث الثغرة و إعتراض الفريق الشاذلى ـ والذى كان رجلا وطنيا خالصا ، ولم يكن بطبيعة الحال من خاصة القادة المقربين للسادات ، والذين تقدم ذكرهم ـ على قرار السادات بعدم التعرض والتعامل مع القوات الاسرائيلية و الهجوم عليها بحجة ـ من وجهة نظر السادات ـ عدم وقوع إصابات بالمدنيين المصريين ، وذلك على الرغم من توغل القوات الاسرائيلية بالعمق المصرى وفى الضفة الغربية من القناة ثم توجهها بعدئذ للسويس وحتى الكيلو 101 فى طريق السويس القاهرة .
وقبل أن نسترسل ينبغى إعادة التذكير هنا بأن قواتنا المسلحة الباسلة ، المصرية والعربية على السواء ، قد قامت بواجبها الوطنى على أكمل و أتم جه فى كل ما طلب منها من مهام عسكرية ، كما كانت على أتم إستعداد لتقديم المزيد من العطاء و التضحيات من أجل رفعة هذا الوطن ، لكن القرار النهائى هنا كان بأيدى القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الرئيس السادات ، كما لم تكن قواتنا المسلحة على علم بأى مما كان يجرى خلف الكواليس ــ وفى الحقيقة كان ذلك مطلوبا للحيلولة دون حصول أى إنقلابات عسكرية غير محسوبة ، وسنذكر لاحقا رأينا فى إغتيال وزير الحربية الأسبق الفريق أحمد بدوى هو وثلاتة عشر قائدا عسكريا من كبار وخيرة القادة العسكريين فى القوات المسلحة المصرية والعربية على السواء، وذلك فى حادث طائرة هيلكوبتر نرى أنه كان مدبرا ، حيث لم يفتح أى تحقيق فى هذا الأمر حتى الان ، ونحن لانزال ندعو إلى فتح التحقيق فى هذا الموضوع ، كما نتحدى أيضا بفتح التحقيق فيما ذكره الفريق الشاذلى بشأن موضوع الثغرة ـ لكننا نتكلم هنا عن أدوار سياسية مشبوهة تورط فيها قادة عسكريون بحكم رئاستهم لمصر ، كالسادات مثلا ، و أيضا بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة .
ويؤكد صحة ماسبق من فرضيات هو قول الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس الأركان الجيش المصرى الأسبق بشأن ما حدث وعايشه شخصيا أثناء حرب اكتوبر عام 1973، حيث ذكر فى حواراته بأن الخطة التى كانت موضوعة للعبور هى تحطيم أجزاء من خط بارليف وأن نحافظ على الأسرى الاسرائيليين حال وقوعهم فى الأسر ، كما يجب أن تتوقف قواتنا عند الكيلو 10 او الكيلو 15، على اكثر تقدير ، شرق القناة وأن لاتذهب أبعد من ذلك فى عمق سيناء ، و التى كانت لاتزال محتلة. علما بأن إسرائيل ذات الثلاثة ملايين نسمة تحارب على جبهة آخرى وهى الجبهة السورية فى شمال فلسطين المحتلة ، أى انها تواجه دولتين يبلغ تعداد سكانهما ـ فى ذاك الوقت ـ حوالى سبعين مليون نسمة ناهيك ، عن الأردن ، ولبنان و حتى الفصائل الفلسطينية ذاتها وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية ، ومع كل هذا كان مطلوبا أن لا يتوغل الجيش المصرى فى أرضه المحتلة من قبل إسرائيل أكثر من 10 أو 15 كيلو متر ..!
إنه إذن السيناريو الذى كانت تجرى على هديه ما كان يسمى بحرب اكتوبر ـ والتى قال عنها القذافى يوما انها كانت بمثابة مسرحية ، لكنه لم يطلعنا على الأسباب والمسببات التى دعته إلى هذا القول ، كما لم نطلع نحن أيضا بدورنا ، فى حقيقة الأمر ، على أى مما يثبت ويدعم حجته تلك ـ وكان من المتوقع ، والحال كذلك ، أن يسند قيادة أخطر وأدق سلاح فى تلك الحرب وهو سلاح الطيران إلى قيادة موثوق ثقة عالية جدا فى إمتثالها و إلتزامها بأية أوامر تصدر إليها بحيث لا يشكل ذلك السلاح أية خطورة تذكر على إسرائيل أو شعب إسرائيل ، فكان أفضل مما يمكن أن يوكل إليه قيادة سلاح الطيران المصرى فى حرب اكتوبر ، وطبقا للسيناريو الموضوع لها سلفا ، هو حستى مبارك قائد سلاح الطيران فى حرب اكتوبر 1973 ، والذى عين فيما بعد ، وربما نتيجة لضغوط أمريكية إسرائيلية نائبا لرئيس الجمهورية ، ثم صار فيما بعد رئيسا للجمهورية فور إغتيال السادات فى 6 اكتوبر عام 1981 .
وقد قيل أته لم يكن هناك سوى طلعة جوية واحدة طوال حرب اكتوبر ، وأنه قد رأت القيادة العسكرية أته ليس هناك حاجة للجيش المصرى فى المزيد من الطلعات ، فاكتفت بتلك الطلعة متعللة بأن قواتنا الجوية قد حققت كافة الأهداف التى كانت مطلوبة منها من أول طلعة ..!
ومع ذلك فاننى أزعم أن حتى تلك الطلعة اليتيمة لم تحدث ، وأنه طوال حرب أكتوبر لم تكن هناك أية طلعات جوية بقيادة حسنى مبارك ضد إسرائيل ، وذلك لتحقيق أقصى درجات الأمان ، ووفقا لسيناريو الحرب ، لإسرائيل ولشعب إسرائيل ، وتجنبا لأى عنصر من عناصر المخاطرة غير المحسوبة بهذا الشأن .
وسوف أعتمد فى هذا الشأن على تحليل المضمون لمرجع الكتروتى وحيد تابع لنظام مبارك ، حيث يذكر أو يعرفه أصحابه بأنه تقرير صادر عن مصادر رسمية من مجموعة مؤرخين عسكريين أطلقت أو عرفت نفسها فى نهاية التقرير بعبارة أو : " بقلم المجموعة 73 مؤرخين" ـ وهم غالبا مجموعة من العسكر المتقاعدين ـ والموقع الالكترونى لتلك المجموعة هو www.group73historian.com وتذكرنا تلك المجموعة بأن العمود الفقرى للقوات الجوية المصرية وحتى فترة السبعينات كان يتكون من طائرات سوفيتية الصنع من جيل الخمسينات ، بالمقارنة بما لدى إسرائيل من أحدث أساطيل الطائرات والقاذفات فى تلك الفترة ، وقد أمتد التخلف النوعى ـ هكذا تذكر تلك المجموعة ـ إلى الصواريخ والذخائر المستخدمة فى طائرتنا أيضا ، وقد أسند قيادة القوات الجوية إلى اللواء طيار حسنى مبارك فى إبريل عام 1972. ويذكر ذلك الموقع الرسمى أنه طوال فترة الحرب لم تقم طائرتنا إلا بطلعة جوية واحدة بدأت فى الساعة الثانية ظهرا فى يوم السادس من اكتوبر عام 1973 وعادت فى السعة الثانية والنصف تقريبا .
وتقريبا هنا تعنى أن زمن تلك الطلعة يمكن أن يكون أقل من نصف ساعة أيضا ..!
والسؤال هنا هو ما هو المدى الذى يمكن أن تصل إليه تلك الطائرات المقاتلة القديمة المتخلفة ، والتى هى من جيل الخمسينات ، ثم تعاود إدراجها إلى قاعدة إنطلاقها فى أعماق الأراضى المصرية ، والبعيدة نسبيا عن جبهة القتال ، وذلك كعامل أمان ، وأثناء معركة حربية قيل أنها مصيرية ، وذلك فى أقل من نصف ساعة ، ثم تكتفى بعدئذ بتلك الضربة طوال فترة الحرب بدعوى إنها قد حققت أهدافها ..؟!
ويذكر الموقع أن الهجوم الجوى قد تم بواسطة 200طائرة مصرية ، و20 طائرة عراقية وقد انطلقوا جميعا من حوالى 20 مطار وقاعدة حربية ..! .. وأرجو أن تلاحظوا أن كل ذلك قد تم أيضا فى أقل من نصف ساعة ..!
والملفت أيضا فى هذا التقرير هو ذكره بأن الطائرات الميراج الفرنسية الصنع لم تشارك فى ذلك الهجوم ..! .. علما بأن تلك الطائرات كانت هى الأحدث فى اسطولنا الحربى فى ذلك الوقت ، وأيضا أكثر كفاءة قتالية من أى طائرة مصرية حربية آخرى ، وقد أتى على ذكرها هيكل فى حلقاته بالجزيرة : " تجربة حياة " ، حيث ذكر كيف أن القيادة المصرية فى عهد عبد الناصر كلنت تسعى وتتحايل من أجل الحصول على تلك الطائرات من فرنسا عن طريق ليبيا التى أشترتها لحسابها وسلمتها بعدئذ لمصر وكانت موجودة أو جاثمة فى مطار طنطا طوال فترة الحرب بدون إستعمال..!.. كما لم تشارك طائرات السخوى 20 أيضا ، وكذا السرب الكورى الشمالى بالكامل لم يتم إشراكه فى تلك الضربة الجوية ، والتى كانت بقيادة قائد القوات الجوية فى حرب السادس من اكتوبر عام 973ا اللواء حسنى مبارك ..!
والسؤال الذى يطرح نفسه إبتداءا هو أين كانت كل هذه الطائرات عند حصار القوات الاسرائيلية للجيش الثالث المصرى فى سيناء بقيادة أحمد بدوى ، ثم إحكام الحصار عليه من قبل تلك القوات ومنع وصول أية إمدادات لوجستية إليه ..؟!! .. ثم أين كانت أيضا كل هذه الطائرات عند حدوث الثغرة بين قواتنا من قبل فصيل من الجيش الإسرائيلى بقيادة شارون ، وعبور ذلك الفصيل الضفة الغربية لقناة السويس ، وتوغله فى العمق المصرى حتى مدينة السويس ، بل حتى الكيلو 101 طريق القاهرة السويس ..؟!
وإن لم يستخدم سلاح الطيران فى مثل تلك الظروف ، فأى ظروف آخرى أهم من ذلك يمكن أن يستخدم فيها ..؟!
هل مثلا نقل بعثة فريقنا القومى لكرة القدم إلى مجاهل افريقيا ..؟!
وفى ضوء ما تقدم هل يصح أن نقول ، ولا نزال نردد ، أن سلاح الطيران قد اكتفى بطلعته الأولى لأنها قد حققت أهدافها ، تم يحدث حصار للجيش الثالث المصرى من قبل بعض القوات من الجيش الإسرائيلى ، و يحدث بعدها إختراق آخر فى العمق المصرى ، ثم لا يتم إستخدام سلاح الطيران فى الحالتين ..؟!
إن هذا القول يشبه إلى حد بعيد خطب مبارك وهو يتحدث عن إنجازاته ، كخطابه الآخير مثلا ، حيث يقول : " لقد سرنا قدما فى طريق الإصلاح السياسى وقمنا بتعديل الدستور .." .. وكل منا يعلم ، بطبيعة الحال، أى نوع من الإصلاح يتحدث عنه ويقصده مبارك ، كما نعلم أيضا ما حدث وما فعله بالدستور ..!.. فالرجل ، وفى هذا السن المتقدم الذى صار إليه ، لا يزال يمارس لعبة الإستخفاف بعقولنا ، وكأنه يتحدانا ولسان حاله يقول : " سأفعل بكم كل ما أريد أن أفعله ، وأرونى أنتم ماذا بوسعكم أن تصنعون ..؟!
أفلا يعزز ذلك إذن من صحة فرضيتنا بأن حرب اكتوبر كانت بمثابة حرب تحريك بالفعل ، متفق عليها ، وكانت بين لاعبين أساسين بالمطقة على علم كامل بكل قواعدها ، وأيضا خطورة الخروج عن أى من بنودها ، وإنها ـ أى حرب اكتوبر ـ لم تكن أبدا حرب تحرير ، أو حرب من أجل التحرر الوطنى ، وبكل ما تعنيه كلمة تحرر من معنى ..؟!
وبالنظر إلى ماصرنا إليه الآن نجد أن تلك الحرب لم تكن فى صالح أحد قط بقدر ما كانت فى صالح إسرائيل..!
وللحديث بقية
مجدى الحداد
التعليقات (0)