لماذا تتطلع الشعوب بصفة عامة ، وشعوبنا العربية بصفة خاصة ، فيما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط ، دوما الى التغيير ــ نحو الأفضل بطبيعة الحال ــ ومع ذلك فهى لاتحصل عليه ، وأن حدث تغيير فإما يكون دون طموحاتها وبعيدا جدا عن ذلك الطموح ، وإما أن يكون عكس ما كانت تتمناه ، وكأن لسان حالها يريد أن يقول عندئذ يا ليتنى ما طلبت أو فكرت أو حتى تمنيت التغيير ..؟!
لكن من جهة آخرى ، لو كانت الامور والأوضاع العامة السياسية والاقتصادية ، وإدارة الدولة ذاتها ، وما يستتبع ذلك من التوزيع العادل للثروات والدخل القومى ، وبما يمكن أن يأسس لعدالة إجتماعية ــ حتى ولو غير كاملة ــ بالفعل ، مع وجود نظام فعال للمحاسبة والمسائلة يخضع له كل مسؤل فى الدولة من أصغر مسؤل فيها حتى رئيس الدولة نفسه ، والشعوب مطمأنة على حاضرها ومستقبلها ، وعلى ثرواتها و أموالها وأعراضها ، وأن الدولة تقوم وعلى نحو فعال ومسؤل بما هو مطلوب منها من خدمات ، ما فكر أحدا قط فى التغيير ، وسوف يكون الحديث عن التغيير حينئذ نوع من رفاهية الحديث او التفكير .
لكن الحاصل بالفعل هو أن شعوب منطقتنا ، وفى القلب منها مصر بطبيعة الحال ، مسلوبى الإرادة ، وهى شعوب غير فاعلة رغما عنها ، وغالبا مفعول بها ، ومن ثم فإن القرار ، حتى ولو كان يتعلق بمصيرها ذاته، لم يعد بيدها ، كما لم يكن فى يوم من الأيام بيدها ، منذ أن حكمت ، أو ابتليت مصر ــ وغيرها من الشعوب العربية ــ بحكم العسكر ، ولذا فإن التغيير إذا جاء من أعلى ، من قمة الهرم ، أى من رئيس الدولة أو مليكها ، أو الاثنيين معا ، فانه لن يكون بطبيعة الحال ملبيا لرغبات الأمة وآمالها ، ومعبرا عن طموحاتها ، بل على العكس من ذلك تماما فانه سوف يكون مخيبا للآمال ومثبطا للهمم والعزائم ومخذلا لتطلعات تلك الشعوب نحو المستقبل ، فضلا عن سوداوية وضبابية الحاضر ذاته.
وفى مصر ، على سبيل المثال ، وكما لا يخفى على أحد ، قد بحت أصوات النخبة ، والغالبية العظمى من جموع الشعب ، فى المناداة بضرورة الإصلاح السياسى و تعديل الدستور ورفع حالة الطوارىء، والتى تعيشها البلاد منذ ثلاثين عاما ، فماذا كانت النتيجة ..؟ .. قد عدلت بعض مواد الدستور بالفعل ، ولكنه كان تعديلا الى الأسوأ ، حيث كرست المادة76 من الدستور التوريث وجعلته دستوريا ، كما بقيت المادة 77 من الدستور كما هى بدون تغيير ، والمتعلقة بفترة حكم رئيس الجمهورية حيث طالبت الجماهير بقصرها على مدتين رئاسيتين فقط على أن تكون مدة الفترة الواحدة فقط خمس سنوات ، فى حين ان النص الحالى لتلك المادة يجعل من رئيس الدولة رئيسا الى الأبد ، كما تم إلغاء المادة 88 والتى كانت تنص على الاشراف القضائى على الانتخابات وكذا الاستفتاءات ، فضلا عن أن النظام قد أعلن منذ فترة أنه على وشك الانتهاء من قانون الإرهاب ، وانه حالما يتم الإنتهاء منه ، سوف يتم رفع أو إلغاء قانو ن الطوارىء ، وسوف يتم تطبيق قانون الإرهاب ، ولكن قيل أن قانون الإرهاب سوف يكوت أكثر قسوة وأكثر قمعا وكبتا وكمدا من قانون الطوارىء..!
ولا تختلف العراق ــ وكذا أى دولة عربية آخرى ــ كثيرا عن مصر إلا فى بعض التفاصيل الصغيرة ــ وربما تلعب خصوصية كل قطر هنا دورها ــ فلا شك أن أشقائنا العراقيين كانوا يعانون ، مثلنا ، من كبت للحريات فى عهد الرئيس صدام حسين وأيضا وضع قيود كبيرة على حرية التعبير والتظاهر والإضراب ، وغيرها ، وكانوا يحلمون بالتغيير ، وأن يصبح فى مقدورهم يوما أن ينتخبوا رئيسهم بأنفسهم إنتخابا حرا مباشرا من بين أكثر من مرشح ، ومن غير أن يفرض عليهم أحد ، لكن ماذا حدث ... ؟
قد حدث تغيير بالفعل فى العراق ، لدرجة أن القتل قد صار الان على الهوية والطائفة والعشيرة ، والمذهب السياسى ، وصار الان على الديانة ، وربما يتطور مستقبلا ويصبح القتل بسبب إختلاف وجهات النظر ، حتى بات العراق دولة مهددة بالفناء والإختفاء من الوجود ، فإذا قتل الشعب نفسه فلمن ستكون أو ستؤل الدولة بعدئذ ..! وذلك لأن التغيير لم يأت من الشعب بل جاء أو فرض من خلال الإحتلال الأمريكى ، حتى أن الدستور العراقى نفسه وضعه بوول بليمر الحاكم العسكرى الأمريكى السابق للعراق ... هل كان هذا إذن ما يتمناه العراقيون ..؟!
إذن ليس من المستغرب أن نجد آبائنا وأجدادنا ، بل ونحن أنفسنا ــ مع اختلاف الفترة الزمنية ــ دائما مشدودون ومشغولون ومنجذبون نحو الماضى وخيرات الماضى ورفاهية الحياة وبحبوحة العيش التى كانت موجودة فى الماضى ، وكذا الصحة التى كان يتمتع بها الآباء فى الماضى . ومن ثم فقد أصبح لدينا جميعا حنين جارف نحوالماضى على حساب التفكير العلمى والعملى والتخطيط الواقعى للمستقبل ، وذلك فضلا عن التعاطى مع معطيات الحاضر ذاته والعيش فى كنفه مع محاولة التأثير فيه عوضا عن الهروب كليا نحو الماضى حيث يسكن الأموات ولا ينفع سوى فقط أن نعى منهم العبر والدرويس لا أن نعيش معهم ..! وذلك النوع من الحنين إلى الماضى هو ما يعرف فى الاتجليزية بمصطلح Nostalgia .
ومع ذلك ، فكانت الأمة تطمح أيضا فى التغيير إبان العهد الملكى ، وترى أنه كان هناك أيضا استبداد وفساد ــ وبما لايقارن بفساد واستبداد اليوم بطبيعة الحال ــ فماذا كانت النتيجة ...؟
قد حدث أن قام ثلة من شباب الضباط المجهولين ، والمنبتة الصلة عن محيطها ومجتمعها ، أو حتى واقعها ، حيث لم يكد يعرفهم أحد ، أو حتى قد سمع بهم أحد من قبل ــ ولكنها كانت على صلة ما بمعظم الاستخبارات الغربية وخاصة المخابرات الأمريكية والمعروفة بال C.I.A، ويرجى مطالعة كتاب رجل المخابرات الأمريكية فى فترة الخمسينات وبداية الستينات فى هذا الشأن ، والذى كان يتخذ من العاصمة اللبنانية بيروت مركزا له ولنساطاته فىمنطقة الشرق الأوسط ، وهو "ميلز كوبلاند " ، و كتابه هو "لعبة الأمم " أو The Game Of Nations ــ وقد أطلقوا على أنفسهم فيما بعد لقب الضباط الأحرار ، والذين لم يكن لأى منهم أى رؤية سياسية ، ولا حتى أى إلمام بالحياة السياسية المدنية، بمقاييس ذاك الوقت ، بإنقلاب عسكرى على ما كان قائما ، وكانت جل مطالبهم تتلخص فى بداية الأمر فى خلع الملك فاروق من العرش وتولية ، وتنصيب ابنه الملك أحمد فؤاد الثانى خلفا له ملكا على مصر ...!
ومنذ أن استولى العسكر على مصر بادروا بالعصف بالحريات ، وحلوا الأحزاب ، ومحوا كل التاريخ الذى كان قبل إتقلابهم ، وكأن تاريخ مصر قد بدأ فقط منذ لحظة إنقلابهم ، و قد أمموا قتاة السويس فحدث العدوان الثلاثى على مصر ، ثم دخلت مصر بعدئذ فى وحدة مع سوريا بقرار عسكرى ، وما لبثت أن انتهت تلك الوحدة أيضا بقرار عسكرى و بعد عامين فقط من قيامها ، لأنها لم تات أيضا من قاعدة الهرم، من الشعوب نفسها .
وقد دخلت مصر بعدئذ حرب اليمن فازداد المصريين فقرا على فقر وبؤسا على بؤس ، وماكدنا نفيق من كابوس تلك الحرب بعد أن وضعت أوزارها فى عام 1964 حتى وقعت بنا هزيمة 5 يونيو عام 1967 فازدادنا فقرا على فقر وبؤسا على بؤس وبقى الحكام فى مقاعدهم الوثيرة ، بينما المهجرين من مدن القتاة قد أفترشوا المدارس والخيام فى قيظ الصيف وزمهرير الشتاء ، وتوفى عبد الناصر وخلفه السادات ، وقيل أن الإعداد لحرب اكتوبر قد بدأ منذ عهد عبد الناصر ، وقد تزامن ذلك مع حرب الاستنزاف ..
التعليقات (0)