حراك الضفة: أزمة رواتب أم ربيع فلسطيني جديد |
كتب د. رمضان عمر | |
01/10/2012 | |
"قاوم" خاص - منذ شهور عدة وأسئلة المحللين تلاحق الواقع الفلسطيني وتستفز ركوده، فتعيا كثيرًا في تعليل سر ذلك الجمود.. والتخلي عن اللحاق بربيع الثورات؛ فقد تعود عالمنا العربي على أن تكون فلسطين سباقة في ثورات التغيير، فهم أهل تجربة، وتاريخ ثورتهم حافل بالتجديد، فلم لم يتحرك الشارع حينما عصفت بشوارع مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا حراكات الثورة الشبابية؟ أم أن لفلسطين خصوصية تجعلها جزءًا مغايرًا لما يجري؟ وواقعًا لا يسمح بهذا النوع من التحرك؟
لكن شهر "سبتمبر" الحالي، أعاد طرح الأسئلة بطريقة مغايرة؛ ما سر هذا الحراك الثوري المشتعل في الضفة منذ الأول من شهر أيلول؛ هل هو حراك ضد الغلاء؟ أم ضد فياض؟ أم ضد سياسة السلطة واتفاقات السلام؛ أم محاولة إعلامية للفت الانتباه إلى هذه البقعة خصوصًا وأن هناك محاولة فلسطينية للتوجه الى الامم المتحدة لطلب عضوية لدولة فلسطين؟أم أنه استراتيجية جديدة في تصدير الأزمات بعد أن أعلنت السلطة في مكاشفة علنية- على لسان رئيسها في مؤتمر صحفي له- بإيقاف مشروع المصالحة والتنكر للغزيين، واعتبار المصالحة معادلًا للانتخابات لا أكثر ولا أقل؟
ثم ما مستقبل هذا الحراك وما مدى تأثيره على واقع التشكل السياسي، هل سيكون حراكًا مدمرًا كما حصل في مصر، أم أنه حراك مسيطر عليه مجير لصالح فئة تتحكم بمفردات المرحلة؟
الحراك.. واتفاق باريس وإشكالية المال السياسي:
فجر غلاء الأسعار شرارة الانتظار، وأحرقت الإطارات وتصاعدت الشعارت وعلا سقفها "ارحل ارحل يا فياض" وتنبه الخطاب العفوي إلى استراتيجيات الأسباب المؤدية الى هذه الكوارث الاقتصادية التي أهلكت كاهل المواطن، وارتسمت معالم الإنكار على وجوه الموظفين، وأضحت لعبة الاستخفاف افتتاحًا شهريًا لوسم التهديد والوعيد "لن تصرف رواتب هذا الشهر".
كانت اتفاقية باريس التوأم الشرير لاتفاق اسلو -كما يسميها بعضهم- واحدة من الاتفاقات المزعجة التي ربطت الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الصهيوني في عملية اتحاد جمركي مشترك واشتراطات لصالح المحتل؛ فالاتفاقية لا تعطي السلطة إلا مجالًا بسيطًا لكي تتحرك فيه، مثل السماح لها بتخفيض سعر البنزين بنسبة لا تزيد عن 15% من السعر الذي يحدده الاحتلال، أو تخفيض ضريبة القيمة المضافة بنسبة لا تزيد عن 2% من القيمة التي يحددها الاحتلال، ومرونة بتحديد قيمة الجمارك على عدد محدود من السلع المستوردة.
وبحسب اتفاقية باريس فإن "أي شيء يستورد إلى المناطق الفلسطينية (الضفة والقطاع) يجب أن يمر من خلال معابر الاحتلال، وأن يخضع للفحص الأمني (الذي يستغرق شهرًا واحدًا على الأقل)، ويدفع التاجر الضريبة للصهاينة (القيمة المضافة والجمارك) وبعدها يقوم الصهاينة بتسليم الضريبة المحصلة للسلطة (بعد أخذ عمولة تحصيل 2%)، واستخدم الصهاينة كل هذه الإجراءات من أجل خنق الاقتصاد الفلسطيني وإبقائه متخلفًا يعيش على فضلات الاحتلال، فعلى سبيل المثال بند الفحص الأمني وحده يرفع تكلفة الاستيراد (لأن التاجر عليه أن يدفع إيجار الميناء طوال فترة الفحص الأمني)، ويستخدم على نطاق واسع من أجل منع استيراد معدات صناعية أو تكنولوجية أو كيماوية متطورة يمكن أن ترتقي بواقع الاقتصاد الفلسطيني.
وما ينطبق على الاستيراد ينطبق أيضًا على التصدير، وكل هذا يقيد إمكانية الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني، وفق مبدأ أن من يأخذ لقمة عيشه من عدوه لا يستطيع محاربته وسيبقى خاضعًا له ولابتزازه، ولهذا هندس الصهاينة اتفاقية باريس بهذا الشكل الشرير والخبيث، بحيث يجعل إمكانية بناء اقتصاد فلسطيني وامتلاك قرارًا وطنيًا خاليًا من الضغوط أمرًا مستحيلًا."([1])
غير أن الأكثر خطورة في هذا الاتفاق ما يمثله من سياسة منهجية اتخذتها السلطة كواحدة من معالم نهجها التفاوضي؛ وقد تمثلت هذه السياسة بربط القضية الفلسطينية ربطًا مطلقًا بقواعد اللعبة الدولية التي تسعى بشكل مباشر لتفريغ هذه القضية من كافة علائقها السياسية، والتعامل معها كقضية انسانية تقوم "إسرائيل" بتنفيذ بنود حسن النوايا للتخفيف عن الشعب ومساعدته ولا وجود لحق فلسطيني مستقل، فلا استقلالية في بناء اقتصاد حر ومستقل، ولا حرية في إبرام اتفاقات، ولا إمكانية للتحلل من ارتباط هذا الاقتصاد بالمحتل؛ والغاية أن يتحول المال السياسي إلى ورقة ضغط من شأنها أن تجبر القيادة الفلسطينية على تقديم تنازلات -وقد حصل- عند أي مفاوضات تجري.
خطورة أخرى لمثل هذه الاتفاقيات تكمن في سريتها، وغياب الشعب عنها، مما يعني أنها جزء من سياسة التفريط وعدم النظر إلى مصالح الشعب فهي تتم عادة في ظل ضغوطات وابتزازات تمارسها الجهات الضاغطة وتقبل بها السلطة مرغمة، ثم يكتشف الشعب خطرها بعد أن تظهر آثارها البشعة؛ وهذا يقودنا إلى ساحة الإقصاء والتجهيل التي تمارس ضد الشعب من قبل قيادته حتى لا يقوم بدور المراقب، فقد كشفت اتفاقات مثل أوسلو وكامب ديفد، وباريس وانابوليس وجنيف وطابا، أن الشعب لا يعلم الكثير عما يجري وراء الكواليس خصوصًا في الجانبين الأمني والاقتصادي.
ومن هنا فإن أي حراك ثوري لا يستند الى رؤية معرفية واضحة للواقع السياسي المتشكل لن ينجز أهدافه، ولن يصل إلى غاياته.
المشهد السياسي:
انسداد الأفق السياسي، وغياب الرؤية الواضحة، ودخول القضية الفلسطينية في حالة موت سريري، ينذر بكارثة مزلزلة، وعواقب وخيمة؛ ذلك هو أدق توصيف للمشهد السياسي في الضفة الغربية بعد أن رحلت القيادة السياسية، المتمثلة بالسلطة الوطنية، بعيدًا عن جوهر الخطاب السياسي المطلوب، وتحولت مشاريعها وتطلعاتها إلى كيفية إدارة الأزمات الداخلية الناتجة أصلًا عن إخفاقاتها الإدارية في توفير لقمة العيش، وإقناع المواطن بإمكانية العيش من خلال استراتيجية الربط المطلق للاقتصاد الفلسطيني -عبر اتفاقات باريس وغيرها- والربط الأمني -من خلال اتفاقات أوسلو وما تلاها- بالكيان الصهيوني.
فمنذ توقيع اتفاق أوسلو والسلطة الوطنية الفلسطينية تعيد اجترار التجربة الفاشلة، وتصر على تحويل المشروع الفلسطيني من مشروع عادل إلى مشروع لاهث، تديره رؤية سياسية قاصرة وغير أمينة، تستجيب لكل ضغط؛ فتنحني وتنحني وتنحني لتحدث سيلًا من الانزلاقات والتنازلات، تضيع معها الحقوق، وتنهار الثوابت، ولكن التفاوض العبثي يبقى هو الاستراتيجي رغم فشله وعدميته.
تهاوت الثوابت وتهاوت معها المطالب بتحقيق هذه الثوابت؛ ضاعت القدس وذابت في محيطها الاستيطاني المريع، فضاعت معها مطالب (الاوسلويين) بأن تكون القدس عاصمة للفلسطينيين، ثم اختزلت الأرض الفلسطينية في (كنتونات) محكمة الإغلاق، منذ مشروع غزة وأريحا أولًا، وفتحت بوابات الشره الاستيطاني على كافة المصارع؛ فاستمرأ المفاوض الفلسطيني هذه العملية السرطانية؛ فبدل أن يوقف التفاوض، ويعلن الاحتجاج تلو الاحتجاج استغل هذا النماء الاستيطاني مستثمرًا رؤوس أمواله في هذه المستوطنات، حيث بلغت الاستثمارات الفلسطينية مليونات، وهذا خرق آخر لمصداقية النهج السياسي عند من يدعون أنهم ممثلون لهذا الشعب.
الحراك الفلسطيني في الربيع العربي:
إذا كانت ثورات الربيع العربي لم ترحم مبارك وعلي عبد الله صالح والقذافي والأسد، حينما استبدوا وأكرهوا شعوبهم على تبني خياراتهم الضيقة في التبعية للغرب؛ فإن الشعب الفلسطيني لن يشذ عن القاعدة، وسيصبح الحراك الشعبي الفلسطيني ثورة ضارية تقطع شأفة كل من ظن أن دكتاتوريته ستمنحه حق الانفراد في تقرير مصير شعب يرفض النهج التفاوضي والاقتصاد التبعي والتفريط الانزلاقي.
وإذا كانت الجماهير الثائرة قد التفتت اليوم الى الحدث الآني فثارت ضد سياسة التركيع، وفرض شروط التبعية من خلال ربط المواطن الفقير بالحاجة المعيشية؛ فإن ذاكرتها لن تغفل الثوابت والحقوق، ولا يمكن لملايين المواطنين المنتشرين على رقع متباينة من خريطة العالم العربي أن يسقطوا حقهم في الرجوع الى ديارهم؛ فعلى القيادة السياسية أن تعلم أن الثورة في فلسطين، وإن بدت ثورة ضد الغلاء فإن جوهرها سياسي؛ ومن هنا، فقد علت في شعارت المحتجين المطالبة بإيقاف المفاوضات، وإلغاء اتفاقية باريس واتفاق اسلو وإنهاء الانقسام والعودة الى مربع الشعب؛ ومربع الشعب لا يقبل التفريط ولا يقبل بذلك التقسيم السقيم الذي يحاول أن يختصر فلسطين في رام الله، وما يجاورها من "كنتونات" صنعها المحتل؛ فخيار الشعب الواضح التمسك بكافة التراب الفلسطيني، والعمل على كنس الاحتلال من كامل هذا التراب، والمطالبة بعودة اللاجئين وتعويضهم؛ فهل من مستمع قبل أن يعض الظالم على يديه ويصبح القول فيهم قول رب العزة: "ولات حين مناص".؟!!
إن المطلوب سياسيًا أكثر من الانتباه إلى هذه القضية، لأن أخذها في الاعتبار عند كل مشهد من المسلمات التي لا خلاف عليها، لكننا بحاجة حقيقية إلى تغيير الاستراتيجيات، ومراجعة المسار السياسي بكليته، ثم إعادة تشكيل الخطاب السياسي وفق رؤية نضالية قوية، تحدد خطوط مساراتها من خلال الثوابت لا من خلال الضغوطات.
ومن الثابت أن الشتات نصف الداخل وقضية اللاجئين جوهر الصراع، والتمثيل السياسي لا يمكن أن يبقى ضمن هذه الدائرة الضيقة التي تسقط معظم فلسطين من مشاريع النضال، وتقتصر على الممكن الممسوخ تحت ذريعة الواقعية السياسية؛ فأي واقعية تلك التي لا تبقي ولا تذر، وتغمض عينها عن الجوهر وتتمسك بالتنسيق الأمني زاعمة أنه من الثوابت التي يسبب غيابها ضررًا شديدًا!!!؟ كما جاء في جواب رئيس السلطة على أحد السائلين عن التنسيق الأمني؛ فبرر الرئيس تمسك السلطة به؛ لأن هذا التنسيق يسمح للفلسطينين بأخذ تصاريح عبور لدولة الاحتلال؛ فكيف بربك يصبح التصريح للتنزه في بارات نتانيا وبتاح تكفا أهم من عودة أحد عشر مليون فلسطيني إلى أراضيهم، وما سوى ذلك من ثوابت؟!!.
لا يمكن للمسار السياسي أن يبقى على حاله؛ لأنه مسار عبثي، ونقول عبثي لا رغبة في استخدام مصطلح وصفي مجرد؛ بل مصطلح له دلالة عميقة تخص الرؤية. وعدم استدراك ما فات ووقف هذا النزيف العبثي؛ سيؤدي حتمًا الى عواقب وخيمة، أقلها أن نصبح أندلسًا جدية.
فالذاكرة التي تسمح بهذا القدر من الإغفال، أي إسقاط حق العودة وتجاوز اللاجئين وعدهم في عالم النسيان ذاكرة مخروقة لا تصلح للحفاظ على حقوق الشعوب.
ومن هنا، فإن قضية اللاجئين يجب أن تتحول إلى مشروع حراكي فاعل يسعى لإسقاط مشروع التنازل واستبداله بمشروع الحفاظ على الحق وتقوية الخيار السياسي الصامد ودعمه.
وهذه الاستراتيجية الثورية الجديدة، مطالبة بإنشاء ذاتها من خلال الأطر السياسية والفكرية الخارجية والداخلية، تسعى لتشكيل جبهة فلسطينية عالمية تحت شعار إسقاط التنازل، ولعل ثورة الربيع العربي ومناخات الاستقلال ستسمح بنوع من هذا التشكيل إن وجدت إرادة فلسطينية واعية تذيب الفروقات الحزبية وتذكي المصلحة، فالانفراد الهزيل ما كان ليقع لولا تشتت الإرادات الخيرة، وانهماكها في مشاريع حزبية ضيقة؛ فالوطن أكبر من الجميع وعباءته قادرة على أن تظل كل من أعلن الولاء له، فإن أحسن أهلها -وهم قادرون- التخطيط والعمل تراجع خط الانزلاق، وانحسر مربع التفريط، وعادت عربة القضية إلى مصاف التألق، واستأنفت المقاومة مشروعها، واختصرت طرق كثيرة للوصول إلى التحرير، والتحرير حتمي، لكنه يؤجل بالضعف، ويقرب بالقوة والوحدة والإرادة والوعي، والشعب الفلسطيني عنده من التجارب الكفيلة لتحقيق هذه الغايات، لكن المطلوب المبادرة والتنفيذ، فإن الوقت لا ينتظر، والتاريخ لا يرحم.
الحراك والانقسام وجدلية التمثيل السياسي للشعب:
الحديث عن جغرافية التشكل السياسي في الضفة وغزة هو حديث في العمق؛ لأن التناطح الفعلي بين القوى الرئيسية المتنازعة تنازعًا استراتيجيًا حول موضوع التمثيل السياسي هو المحدد الأساس لمنطلقات الحراك الثوري في الضفة وغزة؛ فإصرار السلطة الوطنية في رام الله على عدم الاعتراف بمشروعية التمثيل السياسي الذي حظيت به حماس عبر انتخابات حرة ونزيهة يؤكد على أن الانقسام تشكل عبر تناقضية في المشاريع، أعني مشروع المقاومة ومشروع الاستسلام، ولا أعتقد أن الوعي الجمعي الفلسطيني يمكن له أن يتخندق حول مشروع المساومة والتنازل، ومن هنا؛ فإن أي محاولات لتجيير الحراك الشعبي لصالح مشروع التنازل ستبقى محاولات إعلامية مزورة للواقع، وقالبة للحقائق؛ ذلك أن الوعي الجمعي لأي أمة من الأمم لا يجتمع إلا على ثوابت هذه الأمة، ولا يستجيب إلا لمصالحها، قد يكبو هذا الحراك أو يتعثر أحيانًا، أو تشوبه بعض الضبابية، ولكن انقشاع غيوم التردي والانزلاق سرعان ما تكشف عن فجر جديد تجدد ماء التيار، وتغذي شريان التغيير.
ومن هنا؛ فإنني أتوقع لهذا الحراك القلق في الضفة والمتأرجح بين مد وجزر أن يثبت على قدم راسخة، ويتحول إلى شكل من أشكال التغيير السياسي لإيقاف نزيف الانزلاق والتنازل، ولا أستبعد أن يأخذ هذا الحراك بعدًا عسكريًا تتفجر معه انتفاضة ثالثة تفقد السلطة معها قبضتها الأمنية وتعود الانتفاضة الثالثة، فقد عودتنا البندقية الفلسطينية الأمينة أنها لا تتوجه إلا إلى صدر المحتل، وأن المعادلة لا تصفو إلا إذا كان الخيار خيار مقاومة وتحرير ورفض للاحتلال ورفض لسياساتة، وقطع لكافة العلاقات المذلة معه، قد يبدأ هذا الحراك بمحاولات إسقاط باريس ومن ثم إسقاط اتفاق أوسلو، ثم بناء جبهة وطنية لا تسمح بالانفراد أحاديي الجانب في التمثيل السياسي على أرض الوطن، وشعب هذه الأرض في الداخل وفي الشتات.
[1] انظر : ياسين عزالدين، الحراك الشعبي في الضفة الغربية: الأسباب والتطورات، المركز الفلسطيني للإعلام: الرابط.
كاتب وباحث فلسطيني. "حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"
|
التعليقات (0)