في البلاد التي يحكمها الاستبداد وتتزاوج السلطة مع رأس المال، لا قيمة فيها للجمال، ولا للمظاهر الحضارية، بل لا قيمة للموروثات الحضارية التي تفخر بها الشعوب المطحونة تحت مطرقة الاستبداد وسيطرة راس المال، فالقيمة الأكبر للمال والسلطة، وقيمة الأشياء لا بجمالها، ولا بما تقدمه للشعوب من رفاهية وسعادة، وإنما قيمتها في أثمانها، وما تدره من مصالح للصفوة من رجال الأعمال الذين امتزجوا بالسلطة، فأصبحوا هم السلطة والسلطة هم..
قمت بزيارة إلى حديقة الحيوان بالجيزة، وكانت هذه الزيارة الثانية لها، بعد أن كانت الأولى عام 1986، والتي كانت يومها من معالم حضارتها التي تؤمها الرحلات المختلفة من خارج مصر وداخلها، وهى من الأماكن الثابتة التي تزورها الرحلات المدرسية، على امتداد طول البلاد وعرضها، من مختلف محافظات مصر، كانت حديقة غناء، يبهجك شكلها، ويسعدك نبضها بالحياة، بما تحوى من الأنواع المختلفة من الأشجار والحيوانات التي تدخل السرور والسعادة على الكبير والصغير، المصري وغير المصري، الغنى والفقير، عندما كانت حديقة الحيوان اسما ومعنى، شكلا ومضمونا، تؤدى رسالتها الحضارية، والثقافية، والترفيهية، يقوم على خدمتها عمال يتقنون عملهم في العناية بالحيوان والأشجار ..
وبعد أكثر من عشرين عاما كانت الزيارة الثانية، والتي تركت في نفسي ألما وحسرة على موت الجمال في نفوس الشعوب، من أثر الاستبداد، الذي لا قيمة عنده إلا للسلطة والمال.. لقد بدا عليها الهرم والعجز والكبر، كامرأة كانت طاغية الأنوثة والجمال، فأعمل فيها الزمن معاوله، حتى تركها مسخا مشوها، يتحاشاه الناس من قبحه، لقد بدا عليها أمارات الشحوب والحزن والكآبة، أهملت الأشجار، وماتت كثير من الحيوانات التي عقمت عن التوالد، كأنها تعلن عصيانها المدني على سوء الحال والإهمال، ولم يبق إلا حيوان واحد، حرص على الانتشار والتوالد، واحتلال المكان بلا سابق إنذار، وكأنه جند التتار جاء ليطمس معالمها الحضارية ..إنه الفأر الذي أصبح من معالم الحديقة الرئيسة، تجده في كل مكان، ويقابلك مرحبا بك على طريقته الخاصة عند كل حيوان..
الناس في الحديقة يتهامسون حول المؤامرة على الحديقة، من أجل إزالتها طمعا في الأرض الواسعة المقامة عليها، والتي يقدر ثمنها بأرقام لا أستطيع نطقها، وليذهب الشعب المبارك إلى الجحيم، أو يمت غيظا أو كمدا أو خنقا، بعد أن تتحول رئتهم التي يتنفسون بها إلى كتل خرسانية، تندق أعناق من ينظر إليها ليرى آخرها ..
التعليقات (0)