في إحدى المقاهي جلس صديقان قديمان بعد مرور عشر سنين على آخر لقاء لهما..إثر سفر أحدهم لإكمال مرحلة دراسية متقدمة..تكلما عن صداقتهما وعن كل شيء حتى عن ليلى التي أكتشف كلاً منهما أن الآخر يعشقها..فآثر الصداقة على نفسه..وتركها لصديقه..وهكذا تركت بلا حبيب..فجلسا يضحكان ويتناقشان في شتى الأشياء والمواضيع بسحر كوميدي ..إذ شد انتباه أحد الصديقين منظر لم يألفه في البلاد التي عاش بها قرابة العشر سنين..تلك المجموعة من الأطفال المشاكسين يلهون ويلعبون بدراجاتهم الهوائية ..وفي أيديهم بالونات وعلب بلاستيكية معبأة بكميات قليلة من الماء ..وتسمع أصواتهم وكأنها صراخ فيقول احد الأطفال للأخر .."انتبه انه خلفك"..فما يلبث أن ينظر خلفه فلا يجد سوى بعض الرجال كلاً منشغل بأمر يخصه..فتضحك المجموعة عليه بأصوات قوية..وكأنهم قد أخافوه وما هو إلا بمجامل لهم ومسايراً لهواهم كي يستمرون في الحياة فقط لا غير..فتكتشف أنهم أطفال مشاكسون بالفعل عندما ترى ذلك الرجل ماراً بهدوء بلباسه الأنيق وشكله الرسمي ونظارته السوداء فيقومون بقذف البالونات وما تحتويه العلب البلاستيكية من ماء في وجهه وعلى لباسه فتراه يركض خلفهم وهو يلعن ويشتم كل ما يقابله أو يعترض طريقه للإمساك بأحدهم ولاكن هيهات أن يمسكهم وهم يفرون بدراجاتهم الهوائية ..فتوجه وجهك نحو مجموعة الأطفال مرة أخرى فيلفت نظرك ذلك الفتى ذو الملامح الرجولية والشعر الحريري الأسود اللامع يصبغه بتلك الوسامة التي بدون ذلك الشعر الجميل لكان بعيدا كل البعد عن الوسامة..رغم عمره الذي لم يتجاوز الثامنة عشر إلا إن جثته تليق بشاب في الخامسة والعشرين من عمرة بتلك العضلات وتلك الشعرات التي نبتت مؤخراً على ذقنه .. فيلفت نظرك ركوبة لدراجة هوائية في مجتمع أصبح أصغرهم شأنا يملك سيارة خاصة به...فتقنع نفسك بأنه الفقر ربما.....إذ يدهشك أن الفتى يلعب مع مجموعة الأطفال بحماس..فيسرع بإلقاء بالونات معبأة بالماء في وجه أحد الأشخاص وهو يلعب ويضحك في مرح مغولي شديد..ويهرب بدراجته مع جموع الأطفال التي أعمارهم لم تتجاوز الثامنة فقط..فما يلبث أن يشير بيده لصديقه أن انظر.!!فتخرج كلمات صديقه مع الكم الهائل من دخان ذلك المعسل اللعين الذي لم يعد يفارقه ولا يستطيع أن يبعد عنه ليوم واحد فقط ...
-لا عليك..ستعتاد منظر الأطفال المزعجين هنا..
-لا ليس الأطفال..بل.. بل ذلك الطفل الكبير بينهم؟؟إن عمرة لا يقل عن الثامنة عشر يلعب مع أطفال لم يتجاوز أكبرهم الثامنة...يبدو أنه مجنون...إنه مجنون...!
-تقصد مسعود إذاً..إنه ليس مجنون ..هو فقط متخلف عقلياً .. يوجد بعقله خطب لذا لم ينموا بعد كجسده..مسكينة أمه ..كم عانت هذه المسكينة من ولدها الوحيد..
-وتقول فقط !!..أين أباه ؟؟ هل هو حي.؟..
-لا......
//////////////////////////////
-مسعود...هل أنهيت فطورك؟؟
-نعم يا أمي..
-ألم تغسل يديك يا مسعود..الم أقل لك أن الوحوش تأكل من لا يغسل يديه قبل الأكل؟
-أقسم أني غسلتها يا أمي ..فلن يأكلني أي وحش..."ثم يتابع وكأنه تذكر لتوه " أمي .. يقول أصدقائي أن الوحش لا يستطيع أن يأكلني ... " ترد بتلك السيمفونية الحزينة..فما تسمع صوتها حتى يتبين لك الألم والحزن الذي عاشتهما هذه المرأة المسكينة..فتقول له وكأنها لم تفقد الأمل في شفائه ..وكأن أجابته ستنهي جميع مشاكلها وآهاتها مع عقله الذي لم ينمو طبيعياً .. مع عقلة الذي لم يتجاوز السابعة.. مع عقله الذي يسكن جثة فتى في الثامنة عشر من عمرة.."
-نعم لن يستطيع أكلك..فهل تعلم لماذا؟؟
-نعم أعلم...لأن حجمي كبير ..أليس كذلك يا أمي ؟...
"يرتسم على وجهها خيبة الأمل في الذي كانت ترجوه ..وهي تجيب بطيف الإبتسامه التي لا تستطيع أن تقدم لطفلها الكبير سواها"
-لا..ليس لأن حجمك كبير يا مسعود..
" تصغر عيني مسعود متعجباً ... ويلتقي حاجباه ترقباً..ثم لا يلبث أن يسألها مره أخرى.."
-إذا لماذا يا أمي.؟
"تتذكر والده رحمه الله بتلك الصورة التي تشكلت بملامح وجهه عندما كان يعاتبها وينفي مسؤوليته عن أنجاب هذا الطفل..فتتنهد بألم ..وهي تجيب.."
-لأنك تسمع كلام أمك يا مسعود..هيا أغسل يديك بما أنك أنهيت فطورك..كي نذهب للطبيب..
-ولاكني أكره الطبيب يا أمي..فهو يسألني كثيراً..ولا يجيبني...كما أنه لا يحبني..
-أغسل يديك بسرعة لنذهب ..وسأعطيك الحلوى التي تحبها..
-ولا كني لا أريدها هذه المرة يا أمي..
-وماذا تريد إذاً..
-أتعديني أن أذهب معك للحديقة التي تعملين بها..
"تنظر إليه طويلاً وهي بتلك العادة التي أصبحت لا تفارقها تتنهد..وكأنها تقول ..آآه يا رب ...متى......أستغفر الله العظيم..فتحاول أن تجعل صوتها هادئ جداً فتقول"
-حسناً أعدك..
//////////////////////////////
-ألا يوجد حل أيها الطبيب؟..
-حسناً يا أم مسعود..كما قلت لك منذ سبع سنوات في أول زيارة لك أنتي وأبو مسعود رحمة الله..لا يوجد حل سوى الانتظار.. فولدك مسعودا ليس مريضاً لنعالجه طبياً.. يوجد في مخه منطقة صغيرة جداً لا تتعدى المليمتر فقط لا تعمل..أو كما نطلق عليها غير نشطة أو خاملة كلياً..وهذا سبب تأخر نمو عقل مسعود..فعقله كما ترين لم يتجاوز الثامنة بعد.. فاستغفري الله العظيم..وتذكري (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم )..
-أستغفر الله العظيم..هيا يا مسعود..هيا سنذهب الآن....
"يخرج مسعود من الحجرة المجاورة..وعلى وجهه الكبير علامة السرور والسعادة.."
-إلى أين يا أمي..أنذهب الآن إلى الحديقة ؟..
-نعم يا مسعود..سنذهب أولاً إلى البيت لتغيير ملابسك..ثم إلى الحديقة..ولاكن هل تعدني بأنك لن تغيب عن ناظري أبداً ولو لثانية واحدة؟؟...
"بفرح كل المسلمين عند تحقيقهم النصر بتحرير فلسطين"
-نعم يا أمي..أقسم لن أتحرك من أمامك..سأسبقك إلى البيت لإخراج دراجتي يا أمي...
-حسناً..ولكن كن حذراً..
"يقفز فرحاً أمام الطبيب فيترك قبله على جبين أمه بشكل محرج للغاية..لا أعلم لم الإحراج في شخص يقبل أمه ..ولاكن الطبيب.. ابعد اهتمام عينيه عن تلك أللقطة رغما عنه بحركة غير شعورية..فغريب أن يقبل شخص في الثامنة عشر أمه أمام احد الأغراب عنها حتى لو كان مختل عقلياً..فأنطبع على تلك الخدين الشاحبين حمرة لا تكاد تذكر بسبب نحفها الشديد وضعفها..وهي تتحرك خارجه من بوابة العيادة المشهورة القريبة جداً من بيتها..إذ لحق الطبيب بها وهو يتمتم بكلمات غير مفهومه بينه وبين نفسه تدل على الشفقة والتأثير الشديدين "
"يخرج يده من جيب بنطاله حاملا بها بعض الدراهم وهو يقول"
-انتظري يا أم مسعود...أم مسعود..نسيت أن أخبرك.......
//////////////////////////////
"في الحديقة يجد مسعود أحد أصدقائه الصغار فيلعب معهم تحت نظر أمه وهو يحاول جاهداً أن لا يبعد كثيراً..وأمه تنظر إليه.. بصرخة مكتومة صامتة لودها أن تصرخ بصوت عالي لتريح أعصابها على الأقل ولمدة يسيره لما لا تفعل؟؟..آه..يا إلهي...لماذا أنا بالذات...لماذا..أستغفر الله العظيم...أستغفرك يا رب..
وكأنه يستجيب لدعائها الذي لم تجراء على التفكير به عوضاً عن قوله بلسانها..فينحرف مسعود هارباً من صديقة الصغير بدراجته بينما كانوا يلعبون بمرح عن الحديقة التي بلا سياج فيخرج إلى الشارع الفرعي الصغير فتصدمه سيارة رغم أنها لم تكن مسرعة.. تحت نظر أمه التي أخيراً أطلقت آهتها الأخيرة وصرختها التي لطالما حلمت أن تطلقها بكامل طاقتها....لم يحدث أي أثر يذكر بمسعود فكل عظامه سليمة ولم يخرج من جسده قطرة دم حسب تقرير الطبيب حتى إن دراجته واصلت سيرها لعدة أمتار قبل أن تسقط..فيموت مسعود وتلك الابتسامة الطفوليه التي لم تفارق محياه ما تزال مرسومه على فمه....
فيتردد في داخل تلك المرأه المناضلة رغم سيل الدموع الذي انهمر على خديها الشاحبين وعلى ملابسها كلمة فقدناها كثيراً... كلمة يقولها المرء في فرحه ويقولها في حزنه..كلمه لها قيمتها..وصعب موقعها عند المسلم..فلا تفرق بقولها هل هو سعيد أم انه حزين...فلم أعرف إن كانت هذه المرأه حزينة بسبب فقدها أبنها الوحيد...أم سعيدة بانتهاء آلامها..... وهمها الذي شغلها طيلة الثمانية عشر سنه الماضية..إنها كلمة الحمد لله...."
النهاية....
التعليقات (0)