الأخ القرآني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن..
أرادت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تقدِّم لنا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سُئلت عن أخلاقه، فقالت للسائل: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قال: بَلَى، قَالَت: "فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ" (مسلم)، وفي حديث آخر قَالَتْ: "كَانَ خلقُهُ الْقُرْآنَ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ" (مسلم).
وفي بعض الروايات أن أم المؤمنين أرادت أن تقدِّم صورةً عمليةً تفسيريةً لهذا، فقالت للسائل: "تقرءون سورة (المؤمنون) التي مطلعها ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)﴾ إلى قوله: ﴿...أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ(10)﴾ (المؤمنون: من الآية 1 إلى 10) قال: نعم. قالت: "كان هذا خُلُقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" (البخاري في الأدب)، أي أن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترجمةً عمليةً لكتاب الله، فكان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي بين الناس.
شخصية الأخ القرآني..
أيها الإخوان..
لهذا عُني الإخوان المسلمون بأن يجعلوا كتابَ الله تبارك وتعالى أولَ أورادهم، وكان من تعهُّدهم أن يرتب الأخ على نفسه كل يومٍ جزءًا على الأقل من القرآن الكريم يتلوه؛ كما يرتب على نفسه قدرًا من الآيات يحفظه؛ إدراكًا من الإخوان لفضل القرآن وأثره العظيم في التربية.
لكنَّ الأخَ المسلمَ القرآنيَّ لا يقبل أن يكون القرآنُ عنده مجردَ كلامٍ يُتْلَى أو ترنيماتٍ تُسْمَع، بل هو تعليماتٌ تُحْفَظ، وتوجيهاتٌ تُنَفَّذ، وتربيةٌ تظهر في السلوك والأخلاق، وهذا ما ينبهنا إليه سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين يقول: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعْرَف بليلِه- أي بقيام الليل- إذا الناسُ نائمون، وبنهارِه- يعني بصيام نهاره- إذا الناسُ يفطرون، وبِحُزْنِه إذا الناسُ يفرحون، وببكائِه إذا الناسُ يضحكون، وبصَمْتِه إذا الناسُ يخلطون، وبِخُشُوعِهِ إذا الناسُ يَخْتالون، وينبغي لحاملِ القرآنِ أن يكونَ باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا عليمًا سِكِّيتًا، وينبغي لحاملِ القرآنِ أن لا يكونَ جافيًا ولا غافلاً ولا صخَّابًا ولا صيَّاحًا ولا حَدِيدًا" (حلية الأولياء).
وليس حزنُ الأخ القرآني حزنًا على ما فاته من الدنيا، لكنه حزنٌ على تقصيره في حق الله، وحزنٌ على أنه لم يكن أفضلَ من ذلك؛ فينهض إلى التجويد والتحسين، ويتحوَّل من الكسل والفتور إلى العمل والنشاط.
وهكذا كان أبو بكر وعمر وسائر الصحابة، كما وصفتهم أسماء بنت أبي بكر، إذا سمعوا القرآن "تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله" (البيهقي في الشُّعَب).
القرآني مصلح مجاهد..
أيها الإخوان..
لكنَّ هذا الشخصَ القرآنيَّ الباكيَ المحزونَ، إذا جدَّ الجِدُّ، ودعا داعي الجهاد كان فارسَ الميدان، وإذا دخل ميدانَ السياسة كان أبصرَ الناس بالمصالح والمفاسد، وأقضى الناس لحاجات العباد، وإذا عامل الناس بالدينار والدرهم كان أصدقَ الناس وأكثرَهم أمانةً، وإذا دخل بيتَه كان أحسنَ الناس عشرةً وتربيةً للأبناء، وإذا رأى الفسادَ والمنكرَ كان أشدَّ الناس بغضًا له وسعيًا في إنكاره وإزالته، وإذا دعاه الوطن للتضحية كان أسرعَ الناس تلبيةً للنداء، وأسخاهم يدًا بالبذل والعطاء.
فأبو بكر الذي يبكي عند تلاوة وسماع القرآن هو الذي وقف وقفة الأسد حين ارتدَّ المرتدون، وقال: "والله لأقاتلنهم ولو انفردت سالفتي"، وعمر بن الخطاب الذي كان بكاؤه عند القراءة يُسْمَع في آخر المسجد؛ هو الذي فتح بيتَ المقدس وبلادَ فارس والروم، وعمر بن عبد العزيز الذي وقع مغشيًّا عليه من سماع آية من القرآن؛ هو الخليفة الحازم الذي أصلح الله به ما اعوجَّ من أمر هذه الأمة، وهكذا حرَّك القرآن الإخوان المسلمين إلى حمل راية الجهاد في كل الميادين، بدءًا من ميدان جهاد النفوس حتى ميدان قتال أعداء الله وأعداء الأمة، والأمثلة أكثر من أن تحصر.
شخصية الأخ كما يريدها الإخوان المسلمون..
أيها الإخوان..
الشخصية القرآنية شخصية تجمع الخير من جميع جوانبه، وتحرص على صلاح القلب وصلاح البدن، وتحرص على أن تأخذ من الدنيا حظَّها، وألا تدع في الآخرة نصيبها، وتردِّد صباحًا ومساءً ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ (الأنعام: من الآية 162)، فليست صلاتها فقط وليس نسكها فقط لله رب العالمين، بل حياتها كلها لله، بل مماتها لله رب العالمين.
هذه هي الشخصية التي يريدها الإخوان المسلمون، والتي يصنعها القرآن الكريم، فتُبَيِّض وجهَ الحياة وتُنَضِّر جبينَ الدنيا، بالعمل الجادِّ والدعوة الدائبة إلى الله على بصيرة، حتى يُحقَّ الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، فأقبِلوا على القرآن أيها الإخوان، وتضلَّعوا من علومه ومعارفه، وتأدَّبوا بآدابه، وحقِّقوا في واقعكم معنى هتافكم الدائم (القرآن دستورنا)، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وإلى لقاء آخر مع (حديث من القلب) أستودعكم الله.. والله أكبر ولله الحمد.
التعليقات (0)