بينما كانت الطائرة تتهادى فوق إقليم نجران، جنوب السعودية، كنت متمعناً في قراءة الصحف المحلية، وبالتحديد خبر نشرته جميع الصحف بلا استثناء، عن خلاف قبلي أمتد لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وتمكن أمير المنطقة الشاب، الأمير مشعل بن عبد الله، من حلّه في غضون أيام.
وقلتُ بشعور أختلط فيه العجب بالإعجاب، أن هذا الأمير الشاب قد بدأ أسرع مما كان متوقعاً، في منطقة تختلط فيها تشابكات التاريخ، مع عقد الجغرافيا، مع فرادة طائفية، وقبلية، لا مثيل لها في سائر أنحاء المملكة. منطقةٌ صُنع فيها التاريخ، قبل أن تُصنع منه، وأضفت عليه من ألوانها، ما أضفت عليه من أهوالها، وديناميكيتها.
مشعل بن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الأمير الشاب، ونجل عاهل البلاد، جاء إلى حكم هذه المنطقة الحساسة في بلاده، من خلفية دولية، لها إيقاعها، ونكهتها، المختلفتين. بدأت قصته كشاب عشق السياسة منذ مطلع العمر، ولم تنته كأمير مارسها على صهوة الشباب، والحلم بالمستقبل.
والأهم في السياسيين أحلامهم الكبرى، وتصميمهم على تحقيقها. هكذا حفظنا دروسنا من حقيبة تشرشل المدرسية، حينما كان يحذر الدنيا، والوطن، من أطماع ألمانيا، وشهيتها المفتوحة، لتناول أوروبا على طبق الإفطار، والغداء، والعشاء، بينما كان "تشمبرلين"، رئيس الوزراء آنذاك، وصاحب المظلة الشهيرة، يحاول، بكل حماسة، أن يقنع الناس بفكرة السلام، ويروج لها، لكن هيهات، هيهات. استيقظت بريطانيا، وخلعت مظلتها، ورائحة تقاتل مع رئيس وزراء، قال لمواطنيه أنه لا يعدهم بشيء سوى "العرق، والدم، والدموع".
وهكذا كان "ديغول"، الذي كان يحلم بفرنسا العظمى وكل ما يملكه إذاعة، وعلم، ونصف جمهورية، بينما آثر جنرال فرنسا، ونمرها العسكري "بيتان"، الذي أوقف النازيين أول مرة في معركة "فردان"، الاستسلام، ورئاسة دولة ممزقة، تُدار بفكر النازي وسطوته من "فيشي"، محاولاً أن يقنع مواطنيه، بأنه قائد الزمنين: نصراً، وهزيمة!.
كذلك كان درس الدروس، وحلم الأحلام، من قصة المحارب الأسطوري، عبد العزيز آل سعود، الذي صنع التاريخ من جديد، في شبه الجزيرة العربية، وأعاد ملك آباءه، رغم الكارهين، والمتشككين.
إذاً جاء الأمير مشعل من وزارة الخارجية، وعواصم صنع القرار الدولي، والمنظمات العالمية، بعد طواف له رائحة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، وقصور أوروبا، وحكامها وسياسيها، ووصل إلى نجران كي يباشر مهمته الصعبة، في منطقة مهمة، وقد تكون أهم الأهم، حينما تصبح صلة الربط مع القرن الأفريقي، ومنصة الرقابة للجنوب الملتهب من شبه الجزيرة العربية.
لقد فاجأ الأمير المحبين والمتشككين بسرعة استيعابه للمنطقة، وفهمها لكينونتها، وخصوصيتها. وقرر بالفعل أن يكمل صناعة مستقبله السياسي من أول المناطق وأصعبها.
حين زرته في مكتبه في أمارة نجران، وهو مبنى أنيق، بغير تكلف زائد، وجدته، منهمكاً في عمله، ولم يضع إحدى ملفات المراجعين، على الطاولة إلا حينما انتصفت مكتبه. وبالفعل كانت الصحف مليئة بنشاطاته العملية الأسبوع الماضي.
أول سؤال راودني، وكأنه امرأة عزيز مصر، هو كيف تمكن من سحر قلوب أهل نجران إلى هذا الحد، لدرجة أن صوره الشخصية في كل مكان، في اللوحات الإعلانية، وعلى المحال، وعلى زجاج السيارات. والأهم أن أغلبهم أختار وضعها دون تكليف، أو مطالبة. قال الأمير مشعل: " وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟".
ويضيف في حديث أجرته معه في مكتبه، ظهر الاثنين: "الناس هنا أحبهم ويحبونني، وهم رجال أوفياء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وحبهم لوطنهم، كبير لدرجة لا يمكن وصفها. كرمهم وأخلاقهم ووفائهم جعلت العلاقة بيننا علاقة ومحبة، وأتمنى أن يوفقني الله لخدمة الدين والمليك والوطن".
وما لم يقله الأمير هو أنه تصرف بالفعل، والفطرة، على أنه أمير منطقة نجران وسكانها كلهم، دون تمييز، ولا تفرقة، وهو أمر درسه من والده، وطبقه بالفعل حين قرر ذات يوم طرد أحدهم من مجلسه، بعد أن حاول أن يلعب على وتر طائفي، لا يحبه الأمير، ولا تحبه الدولة.
وعندما سألته عن كيفية تلقيه خبر تعيينه كأمير على منطقة نجران، بعد رحلته الدولية، وما هو شعوره أول لحظة، أجاب قائلاً :" تلقيت الخبر وقد كنت في "روضة خريم" مع خادم الحرمين، وفي البداية شعرت بالرهبة، والتردد، لأنها مسؤولية كبيرة، ومنطقة هامة في البلاد، ولكن الحمد لله، عرفت عن نجران كل خير، من أهلها الذين زاروني، قبل أن أصل إلى نجران".
ورغم أن الوقت كان محدوداً، وقبل زواجه بأيام، إلا أنه فهم من زواره النجرانيين المنطقة بكامل تفاصيلها، ومشاكلها، قبل أن يهبط إلى أرضها، ويبدأ حكمها فعلياً.
أمير لا يتوقف عن العمل، والحلم... والقراءة!
لا زال الحوار يتواصل، والأسئلة تتحرك.
قلت له :" سمو الأمير، لاحظت أنه في كل مكان، وعلى لسان كل رجل في نجران، رهان غير محدود عليك، وعلى أنك ستصنع مستقبل المنطقة، ووضعها على الخريطة العالمية، وتنميتها، أليست المسؤولية صعبة، وأحمالها ثقيلة؟".
وأجابني بثقة العارف المطمئن: "فعلا المسؤولية كبيرة، وآمال الناس تصعّب الأمر، لكن أملي الوحيد هو أنني أكون على قدر أحلامهم، خصوصاً وأن الأرض خصبة، ومهيأة، للتطوير، والتعمير، والإنشاء".
وبدأ الأمير، وهو يداعب مسبحته بين أصابعه، يتحدث عن مشاريع المنطقة وأحلامها، فقال لي، بصوته الهادئ النفّاذ:" سيكون هنا مدينة رياضة، ومدينة طبية، وتطوير للوضع الصحي، الذي سينال عنايتنا، واهتمامنا، وكذلك المناطق التراثية والأثرية، وكذلك المطار الذي سيكون فرصة للربط مع اليمن والقرن الأفريقي".
هل قال الأمير اليمن؟.. هل قال القرن الأفريقي؟.. إذاً إلى الجنوب الطويل المترامي. إلى حيث اللحوم، الحبوب، الفواكه، والماء. وقبل ذلك، وبعده، الالياس السحرية للأرز، وهو ما تحاول السعودية تدعيم أمنها الغذائي من خلاله في أفريقيا، وهي منطقة مفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات، ومنها تهب الرياح، ويضطرب البحر.
بالنسبة لليمن، والحرب مع المتسللين، قال الأمير مشعل، في حديثه مع "إيلاف": "الحدود ولله الحمد آمنه من هنا، والجيش قام بعمله على أتم أستعداد، وعلى أحسن وجه، وتم تأمين الحدود بشكل تام، ولا ننسى تعاون رجالات القبائل التي ساعدت، وأدت واجبها لخدمة الوطن، وطهّر جنودنا البواسل البلاد من المعتدين".
"سمو الأمير: هل السياسة قدرٌ... أم اختيار؟"
قبيل بدء حياتهم الجامعية يقرر الشبان عادة دراسة الاقتصاد، أو العلوم ذات النفحة التجارية، أو الاتجاه إلى العسكرية، كأسهل الطرق، وأقصرها، بينما أختار الأمير مشعل بن عبد الله طريقاً أكثر صعوبة، ووعورة، ألا وهو دراسة العلوم السياسية، والتخصص في متاهاتها.
وهذا الغرام السياسي، ليس حديث عهد، بل هو منذ سنين الشباب الأولى. قلت له، وأنا أحاوره، " لماذا اخترت ركوب الصعاب، واختيار دراسة السياسة؟". أجابني بابتسامة هادئة:" إنها حبي منذ سنين مراهقتي، وكل قراءاتي منذ سقراط وأفلاطون كانت عن علوم السياسة والأبحاث التي تدور في فلكها".
وروى لي كيف أن خاله تنبأ بمستقبله منذ سنوات طويلة:" قال لي خالي رحمه الله أن أخي الأمير تركي سيكون عسكرياً، وأنا سأتخصص في السياسة، وهذا ما حدث بالفعل. لا أعرف هل هو القدر، أم أنها ظلت في عقلنا الباطن، وسرنا عليها".
وفعلاً درس الأمير الشاب، الذي يحكم أهم منطقة في بلاده، العلوم السياسة في جامعة الملك سعود، وبعدها درس الماجستير في بريطانيا العُظمى، وعاد منها كي يعمل في وزار الخارجية، بمرتبة وزير لعدة سنوات، قبل أن يتم تعيينه كأمير لمنطقة نجران.
سألته عن وزارة الخارجية، وكيف استفاد من تجربة العمل الدولي فيها، فأجاب قائلاً:" الخارجية مدرسة كبيرة جداً علمتني مئات الدروس. ويكفيني مدرسة الأمير سعود الفيصل، الذي تتعلم منه حتى إن لم يتكلم. إنه مدرسة عملية، ومتوهجة، أفادتني كثيراً في حياتي، ولا زلت أستفيد منها حتى الآن".
وحين قلت له "ماذا تقرأ؟". أجابني بسرعة بديهة:" معاملات المراجعين".
وأضاف قائلاً:" نحن موظفي الحكومة بالكاد نجد وقتاً كي نقرأ، رغم أنها عشقي الأول والأخير. أقرأ الصحف، وأتابع ما يكتب عن نجران، وما يكتبه أهل نجران، وأحاول أن أسابق الوقت كي أتعرف على احتياجاتهم، ومشاكلهم، كي أحلها".
أيام لندن والانترنت... وقصة الأمير "النجلالي" !
ومن هنا ننتقل إلى لندن، المبتدأ، والمنتهى، والخبر، والصفة، والحال.
سألت الأمير مشعل عن ذكريات أيام الدراسة في لندن، وما هي أهم الدروس منها، فقال:" لقد علمتني الاعتماد على النفس. كانت أول مرة أواجه تجربة الاعتماد على النفس مئة بالمائة. أعجبتني ثقافة العمل لديهم، وكيف أنهم يعملون من أجل العمل، لا من أجل المادة. لديهم حب للعمل. كانت تجربة مهمة صاغتني وأسهمت في صناعة شخصيتي واستقلال فكري".
"والانترنت يا سمو الأمير، كيف هي علاقتك معه؟". قال :" جدا ممتازة، لكنني لا أخبر أحد عن إيميلي، أخشى من الهكر". قال الجملة الأخيرة وهو يبتسم.
قبل الختام كان لا بد من سؤال رياضي. قلت له:" أنت عضو شرف في نادي الهلال، والآن يتولى سموكم أمارة منطقة نجران، لو افترضنا أن مباراة جرت بين الهلال ونجران، إلى أيهم ستميل؟
وأجاب بسرعة بديهته المعتادة:" سأكون "نجلالي" ... أي هلالي ونجراني". ويضيف:" في المباراة الأخيرة ملت إلى نجران لأنه كان الأحوج إلى النقاط".
على الرغم من أن الأسئلة كثيرة لكن الوقت أزف، وسرقتنا الساعات، في الحوار، وسرقناها، ولا يمكن إضاعة وقت رجل يهمه العمل، وصناعة المستقبل، في منطقة، بكر، ومفتوحة على كافة الاحتمالات.
لملمتُ أسئلتي، وما علق في الذهن من الأجوبة، وخرجت، إلى نجران، المدينة، الشارع، الشعب، الأحلام. كان السؤال المحير، الذي لم أجد له إجابة، هو شخصية الأمير الشاب، وقدرتها اللافتة، على الكسب، أكثر من الخسارة، والمحبة، أكثر من الكره، والتسامح، أكثر من القمع. إن فيه، صفتان يحبهما الله، ورسوله، والمؤمنون، الذين هم نحن؛ ألا وهي: سعة الصدر، والتواضع. وفي ذلك فيتنافس المتنافسون.
التعليقات (0)