من رحم الميتوس انبثق اللوغوس .هكذا يتحدث مؤرخـو الفلسفة من مثقفي أوروبا ، وهم يشيدون بالعبقرية اليونانية المبدعـة الخلاقـة التي لم يجُد التاريخ بمثلها إلا في اليونـان القديم ، حيث اللـوغـوس يتمرد على الميتـوس ، إنها عبقريـة الجنس الآري القادر وحده على إنتاج الفلسفة والعلم . إنهم فلاسفة اللوغوس اليوناني الذين يفتتحون العالم الجديد . عالم السيادة فيه للعقل والمنطق و للمعرفة والحرية . هكذا يظهر الوعي بالحريـة لأول مرة عند اليونان . العقل الذي استقل بذاته ليحكم ا لعالم ، وبالتالي يحكم تاريـخ العالـم .. كل شيء يخضع له ويتبعه ويعمل في خدمته ، وهو وسيلة لتطوره ، كما وضح الفيلسوف الألماني هيجل .إنه الإعلان عن ميلاد نمط من التفكير الجديد الذي أساسه العقل ، الذي يتخـذ من العالم أي الطبيعة والإنسان موضوع تأملاته. إنها - فيلوسوفيا - محبة الحكمة، محبها هو- فيلوسوفوس- الحكيم ، الذي ينطق بلغـة اللـوغـوس . هذا المحب الجديد للحكمة والذي لا يتحدث عن عشقه للحكمة إلا بلغة العقل، خطابه عقلي ، خطاب اللوغوس ، الذي تحرر من سطوة الميتوس - الأسطورة ، ثم قطع عليها الطريق حتى لا تقوم بأية وظيفة في واقع التحولات الجديدة التي حبل بها اليونان في القرن السادس قبل الميلاد . محب الحكمة ، ليس سوى الفيلسـوف محب التفلسـف . هكذا إذن ، نشأت الفلسفة ، يونانية الأصل والمنشأ . الفلسفة التي أضحت فلسـفات ، تعـددت بتعـدد أنساقـها ونظرياتـها ومذاهبـها . انطلقت تتأمـل العالـم وتفكر في الوجـود سعيا من فلاسفتها ، إلى بلـوغ الحقيقة والفضيلة والعدالة والحرية . نشأت الفلسفـة بفعل عوامـل متعـددة منها ما هو اقتصادي سياسي واجتماعي ، و ماهو ثقافي يتعلق بتقدم المعرفة البشرية عامة ، ومنها ما له علاقة بأحداث تاريخية كان لها أثرها البارز على مجمل التطـورات لدى قدماء اليونـان ، ومنها ما يتعلق بخصوصية المعتقـدات والميتولوجـيا اليونانية والشعر حيث شكلت أشعار -هزيود - الإرهاصات الأولى للنظر الفلسفي التجريدي . غير أن العامل الأساسي الذي ساهم في نشأة التفكير الفلسفي هو عامل التفاعل الثقافي الحضاري الذي حصل بين اليونان والشعوب القديمة المختلفة التي تواصل اليونانيون معها بفعل التبادل التجاري . لذا نخلص إلى أن الفلسفة تواقت ظهورها عند اليونان، ولم تكن فلسفة يونانية صرفة ، بل ساهمت في تأسيسـها أمـم وشعـوب مختلفة ، نتيجة التفاعـل الثقـافي الحضاـري بين الشعـوب والحضارات التي تكونت عبر تاريـخ تطـور المجتمعات البشرية . تبلورت الفلسفة كنمط تفكير عقلي أحدث قطيـعة مع نمط التفكير الأسطـوري . هي الفلسفة وحـدها سيـدة الكـون ، والفلاسـفة هم أساطيـن الفكر والمعرفة . ما الفلسفة إذن ؟ تعــددت التعاريـف بتعـدد الفلاسفـة والنظريـات والمـدارس الفلسفية المختلفة …ولكنها بالمعنى البسيـط والعميـق في آن ، هي فهم للوجود في شموليته ، فهم للطبيعة والإنسان والحياة والمجتمع والتاريخ .. الفلسفة تصور للعالم/ الطبيعة والإنسان/ إنها فهم للعالم من أجل تفسيره و تغييره . ـبداية التفلسف هي بداية الوعي الإنساني ، بداية الممارسة العقلية المتميزة لفلاسفة اليونان على سبيل المثال طاليس وهيراقليطس وفبتاغوراس وبارميندس وديموقريطس ثم سقراط وافلاطون وأرسطو وغيرهم … وتتعاقب الأزمنة الفلسفية شرقا وغربا . ويسير تاريـخ الفلسفة سيرا تقدميا ، فالفلسفة المتأخرة هي حصيلة فكرية لإنتاج آلاف السنين ، تقدم يحكمه قانون التجاوز، نفي النفي ، نحو لحظة الاكتمال … حسب الفيلسوف الكبير هيجل . إن ممارسة الفكر الفلسفي هو في حد ذاته حركة إبداعية تتعالى عن التعريف المحدد . بل إن ممارسة التفلسـف كتجربة فكرية متميزة من شأنها أن تقحـمنا في صلب الفلسـفة ، في داخل التفكير الفلسفي . شرط التفلسف هو أن نتحرك داخل الفلسفة لا خارجها . لأن ما يميز اللحظة الفلسفية أنها تقترن بفعاليات عقلية مثل التأمل و التحليل والتركيب والنقد والبرهان و النظرة الشمولية … وبناء عليه فإن للتفكير الفلسفي خصائص عديدة تميزه وتفرده . فهو تفكير إشكالي ، لأن السؤال الفلسفي ، سؤال إشكالي يحيل إلى تساؤلات مترابطة متداخلة ومتفاعلة تتميز بالجذرية والشمول. الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجـوبة ، لأن كل جـواب يحيل إلى سـؤال جديد . مما يجعـل الخطــاب الفلسـفي يتسـم بالنسقيـة والتجاوز والانفتاح والنقدية لأنه تفكير تأملي يعتبر التأمل كفاعلية عليا غير منفصلة عن فعاليات التفكير والتنظير والتجريد والتحليل والتركيب والمحاكمة والنقد . فا لتأمل الفلسفي ارتبط منذ ميـلاد الفلسفة ، باللـوغـوس والتنظيم والانسجام والتفكير المنهجي والمنطقي ..إنه خطاب تأملي ، نقدي لا يأ خذ الأفكار والمبادئ والنتائج مأخذ التسليم والاعتقاد دون حوار أو تمحيص . بل إن الفلسفة كممارسة نقدية تتحدى العادي الرتيب والمألوف وتبحر في منطقة الشك المحرر ، الشك المنهجي ” أنا أفكر ، إذن أنا موجود ” من أجل بلوغ المعرفية اليقينية . فإذا كان التفكير الفلسفي يتميـز بالنقدية والشمـول حيث تلامـس الفعالية النقدية معطيـات فكرية ، ثقافية ، اجتماعية ، سياسية ، درءا لكل أشكال الوصاية الفكرية والسلطـة المعرفيـة المطلـقة ، والتشـكيك فيها باعتبار الحقيقة نسبية متغيرة . وقد أبانت الفلسفة خلال تاريخـها الطويـل ، على أن الإنسـان محـور اهـتـمام الفلاسفة ، منذ أنزل ســقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض حيث أضحـت الطبيعة الواعية هي محـور اهتمام الفلسفة . فالفلسفة فضلا على أنها عقلانية ، تنويرية ، نقدية ، فهي ملتزمة بقضايا الإنسان ككائن حر واع فاعل محاور وملتزم ، يريد أن يحيا من أجل بلوغ الحقيقة ، لأن كرامة الإنسان هي إدراك الحقيقة . وأن الدفاع عن الفلسفة هو عن الإنسان الكوني . عرف تاريخ الفلسفة ، معـارك فكرية طاحنة وتحـولات وتغيرات فكرية عقائدية وثقافية سياسية اجتماعية . عـانى خلالها الفلاسفة والمفكرون والمتفلسفون ، من ردود فعل عنيفة خلفت ضحايا في كل العصور والأزمنة شرقا وغربا ، ولا زالت معاناة الفلاسفة والمفكرين من ذوي الأفكار الحرة النيرة قائمة إلى يومنا هذا . على الرغم من أن الفلسفة تحكم العالـم وتتحكم في مصير الشعوب والأمم . فقد ناصبها العداء رهط كبير من المفكرين والفقهاء والأيديولوجيون والسياسيين ورجال الديـن من مختـلف الملل والنحل ولا زالـوا . سـواء منهم المطلعـون على عمـق وأبعـاد النظريات الفلسفية من القدمـاء أو من المحدثين أو من التابعين الذين يسمعون ويتحاملون ، مدفوعيـن بحجج مغلوطة أحيانا ، أو بردود فعل متوترة يحركها عنـف غامض لامبرر له أحيانا أخرى . بل لقد حازت فتـاوى تحريـم الفلسفة ومعاقبة المشغلين بها وصل إلى حد إعدامهم ونفيهم وإسكاتهم بشتى الوسائل . ولازالـت المعانـاة قائمة والحملات ضد التفلسـف والفلاسـفة مستعيـرة . لأنها بدعة تـرى فيها بعض النخب السياسية و الدينية مصدر تهديد لا موردا معرفيا ثريا في بنـاء الهوية الثقافية ؟ وتبقى الفلسـفة التي أبدعـها الفلاسفة العباقرة : ما قبـل الأرسـطية وما بعدها ، إلى الهيجلية وما بعدها ، تفاقم من الأزمات الثقافية والمعرفية في مجتمعات الجـهل والتخـلف . فالفلسـفة كـونيـة عالمية إنسانية ، تخترق الحدود الجغرافية والعرقية والدينية مما يتيح إمكانية التفلسف لكل ذات تفكر بيقظـة ، في همـوم الناس أين ما كانـوا في هذا العالـم الكبير- الصغير. مع اعتبار أن الناس يختلـفون وبعمق في منظوماتـهم الفكريـة ، لأن الاختــلاف من حيث التوجـهات والمعتقـدات والقيـم ، هو نتيجة حتمية لفـهم العالـم بطرق مختلفة ، تأسيسا على معنى العالم لديهم . لذا فالفلسفات الإنسانية مختلفة الأنساق والرؤى حد التباين . غير أن الاختلـاف يولد الائتـلاف . لـذا ، تبقى القضايا التي تثيرها الفلسـفة من صميم القضايا الراهنة للإنسان الكوني أينما وجد وحيثما كان . لأن الفلسفة ضرورة ملحة في زمن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل . رغم ما اتخذه تطور العلاقة بين الفلسفة والعلم من التأرجح ما بين أسبقية وتبعية . فإن التقدم الذي تشهده تكنولوجيا المعلوميات سوف يقيم علاقة تبادلية مع الفلسفة ، تصبح فيه الفلسفة منهـلا يضمن للعلم استمرار تجدده متجاوزا العوائق المعرفية والأزمات ، بنما يصبح العلم وتطبيقاته نبعا لاينضب لإثارة الفكر الفلسفي مما قد يساهم في تحديث منطلقاته وإعادة طرح أسئلته وإشكاليا ته . فلابد للعالم أن يكون فيلسوفا وللفيلسوف أن يكونا عالما ، في ظل العلاقة الوثيقة التي تربط ما بين تكنولوجيا المعلوميات والفلسفة . العلاقة التي تؤكد بالملموس ارتقاء المعرفة الإنسانية
التعليقات (0)