ستكون حياتي أطول من حياة شانقي ...
عبارة كتبت بماء الخلود .. نطقت بها شفتا البطل حين طوق الجلادون عنقه بحبل المشنقة ظانين أنهم بشنقه سيقتلون روح المقاومة التي بثها في قلوب شعبه وأمته ..
قالها عمر المختار .. وصدق .. رحل الاستعمار حاملاً بين رجليه ذيول خزيه وشروره ..
وبقي اسم المختار حياً خالداً في قلوب شعبه وأمته وعلى صفحات الخلد وفي عيون التاريخ ..
إنها المشانق التي صنعها الطغاة المستعمرون .. فخنقتهم .. وصنعت الخلود للمشنوقين ..
ثلاثة أنواع من المشانق نصبها الغرب للعرب كان لها من الشهرة والدوي ما جعل التاريخ يضعها بين عينيه لتجترها الأجيال تلو الأجيال ..
ثلاث مشانق دخلت التاريخ ليس لشهرة شانقيها وجلاديها ولكن لبطولة وبسالة ومظلومية مشنوقيها ..
أولاها كانت مشانق جدلتها أيدي الانجليز نصبت أعوادها على ثرى ريف مصر في دنشواي في العام 1906 (في ظل الاحتلال الانجليزي لمصر) ..
وثانيتها كانت مشنقة لعمر المختار جدلتها أيدي الطليان دقت أوتادها في أرض برقة بليبيا في العام 1931 (في ظل الاحتلال الإيطالي لليبيا) ...
وثالثتها كانت مشنقة لصدام حسين جدلتها أيدي الأمريكان تعلقت جدائلها بحلقة حديدية بمبنى بالمنطقة الخضراء ببغداد في العام 2007 (في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق) ..
ولنبدأ بأولاها ..
حين كان الاحتلال الانجليزي رابضاً على صدر مصر .. حيث كان اللورد كرومر حاكماً عسكرياً متسلطاً في مصر .. وفي ظهيرة يوم قائظ من صيف العام 1906.انطلق خمسة من الضباط الانجليز حاملين بنادقهم في نزهة صيد للحمام بناحية قرية (دنشواي) بريف مصر.. بدأ الضباط الانجليز الصيد .. فأطلقوا نيران بنادقهم على الحمام المتواجد بأحد أجران القمح يخص مؤذن القرية فأصاب رصاصهم (أم محمد عبدالنبي) زوجة المؤذن .. كما أشعلت شرارت الرصاص النيران في أجران القمح ..
أثار المشهد حفيظة الفلاحين فثاروا وقاموا باحتجاز الضباط الذين أصابهم الذعر والارتباك .. أطلق اثنان منهم سيقانهما للريح فراراً من غضب الأهالي وطلباً للنجدة .. فأصيب أحدهما ويدعى (بول) بضربة شمس من الحر والعطش فسقط على الأرض بينما واصل الآخر الفرار قاطعاً ثمانية كيلومترات عدواً حتى وصل أحد المعسكرات الإنجليزية في كمشيش .. كان الضابط (بول) الذي سقط صريع ضربة الشمس قد فارق الحياة ولم تفلح محاولات أحد الفلاحين ويدعى " سيد احمد سعيد " في إنقاذه . ثارت ثائرة اللورد كرومر والانجليز .. فأرسل حشوداً من جنود الانجليز لنجدة الضباط المحتجزين.. وحين وصلوا شاهدوا الفلاح المصري بجوار جثة زميلهم فاعتقدوا أنه هو الذي قتله فانهالوا عليه بأسلحتهم فقتلوه ..ثم اندفع الانجليز يهاجمون البيوت والحقول والأجران وقبضوا على كل من وقع في طريقهم من الفلاحين واحتجزوهم داخل مسجد القرية تمهيداً لمحاكمتهم
نصبت المشانق على تراب دنشواي قبل المحاكمة في صدور مستبق للأحكام التي صدرت يوم 27 يونيو بالأحكام الآتية:
.. إعدام أربعة فلاحين منهم الفلاح محمد زهران..
.. وبالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين منهم الفلاح (محمد عبدالنبي)..
.. وبالأشغال الشاقة 15عاما على الفلاح علي السيسي..
.. وبالأشغال الشاقة 7 سنوات علي6 آخرين ..
..والجلد50 جلدة بالقطة الإنجليزي ذات الأذرع الخمسة علي8 من أهل القرية..
اعتقد الانجليز في شخص الحاكم العسكري للاحتلال اللورد كرومر انه بذلك حافظ على هيبة إمبراطورية الاحتلال التي لا تغرب عنها الشمس في مواجهة رعاع الفلاحين ..
إلا أن مصطفى كامل والذي كان بأوربا حين سمع بخبر مشانق دنشواي حتى كتب عنها في صحيفة الفيجارو الفرنسية ومنها انطلقت شرارة المطالب برحيل الاستعمار عن مصر وليس بمعاقبة جلادي دنشواي .. طاف مصطفى كامل بدول أوربا فاضحاً مشانق الانجليز في دنشواي ومؤلباً الرأي العام الغربي على انجلترا التي سرعان ما سحبت اللورد كرومر من مصر كأثر لتحركات وتنديدات مصطفى كامل واستنكار الرأي العام العالمي ..
أما عن المشنوقين .. فقد صارت حياتهم أطول من حياة شانقيهم .. حيث رحل الاستعمار الانجليزي .. رحل الجلادون .. وبقيت الذكريات الزكية لشهداء دنشواي .. تتناقلها الأجيال على مدى تاريخ مصر ..
في عام 2006 كان هناك أثر حي لا زال باقياً من أيام دنشواي .. كان هناك شاهد عيان .. إنها (السيدة زهران) إبنة فلاح دنشواي (محمد زهران ) أحد الأربعة الذين علقت رقابهم على مشانق دنشواي ..لم تفلح تجاعيد الزمان أن تمحو ذكريات ووقائع حادثة دنشواي من مخيلتها .. تكلمت عنها للكاتب الصحفي عزت السعدني وكأنها ماثلة أمام عينيها ..
قالوا وهم يقدمونها إلينا:الست سيدة زهران بنت زهران أحد أربعة شنقوا داخل جرن القرية!
كل ما يمكن أن تصنعه السنون من أحزان ومحن من أشجان وتعب من هموم الأيام وقهر الليالي.. فعلته ودونته فوق ملامح هذه الأم العجوز التي قدمت إلينا يداً معروقة تكاد تري الشعيرات الدموية فيها قبل الشرايين والأوردة تسلم مرحبة بأهل البندر!
قلت وأنا آخذ بيدها لأجلسها علي حصير فقير الحال يشكو قلة العيدان: كم عمرك يا خالة؟
لم تجب لأنها لم تسمعني!
قال أهلها وهم أكثر من عشرة يملأون الحجرة الضيقة المظلمة التي نجلس فيها:أصل سمعها لا مؤاخذة, موش قد كده!
قلت:طبعا سمعها تقيل لواحدة في التسعين من عمرها!
قالوا:لا قول ييجي مائة سنة!
قلت بصوت عال: يا أمي شفتي أبوكي زهران فوق المشنقة
وكأنني فجرت بسؤالي داخل ما تبقي من نحيل جسدها قنبلة زمنية..راحت تتكلم وتتكلم تحكي وتحكي دون توقف..
فاكرة كل حاجة زي ما تكون حصلت إمبارح بس.. أبويا كان إتجوز أربع ستات..أمي كانت واحدة منهن..كل ست قاعدة في أوضة فوق السطوح.. أبويا ما حدش قبض عليه هو اللي سلم نفسه للعمدة أبويا محمد الشاذلي..بعد ما هرب كل رجالة البلد للبلاد إللي جنبنا بعد مانزل العسكر الانجليز البلد يلموا الرجالة كلهم..
ضربوه عشان يقول إنه ضرب الضباط الإنجليز اللي كانوا بيصطادوا الحمام اللي في الأبراج..قال: أنا محمد زهران..راجل من ظهر راجل..لكن أنا ماضربتش أي إنجليزي..لأني ما كنتش في البلد ولو كنت موجود ماكانش حد قدر يضرب أم محمد بالرصاص!
قلت:ومين أم محمد يا خالتي؟
قالت:دي مرات المؤذن!
قلت:ماتت
قالت: من زمان!
قلت:لا أقصد هل ماتت برصاص الإنجليز؟
قالت:لا.. إتعورت في كل جسمها.
أسألها: حضرتي يوم ما شنقوا الرجال الأربعة؟
قالت:حضرت كل حاجة الشنق والجلد كمان.
قلت: كان عندك يومها كام سنة؟
قالت:أنا كنت( فايرة) وكان جوزي الله يرحمه كان يادوب مكلم أبويا علي قبل ما يشنقوه!
قلت:طيب يا خالتي فاكرة أبوكي عمل إيه ساعة ما الإنجليز طلعوه علي حبل المشنقة؟
قالت:موش سامعه يا بني!
أعدت سؤالي بصوت مرتفع..قالت وقد تسلل حزن مائة عام إلي صوتها:موش فاكرة..هو اتشنق بعد مين ولا قبل مين..بس إللي فاكراه إن حسن محفوظ ده كان راجل كبير قد بنتي فهيمة دلوقتي هو أول واحد شنقوه!
قلت:فاكرة قال إيه قبل ما يشنقوه
قالت:والنبي يا بني موش عارفه أنا إللي فاكراه إن يوسف سليم كان صغير ما دخلش دنيا لسه!
وقاطعتها:يعني إيه يا خالتي مادخلش دنيا؟
تضحك من خلال فم بلا أسنان:يعني موش عارف يا سيدنا الأفندي
قلت: فهمت يا أمي وبعدين عمل إيه يوسف سليم قبل مايتشنق؟
قالت:زعق في وش الإنجليز بصوت عالي:ربنا يلعن الظالمين!
قلت: وأبوكي قال إيه؟
قالت وعيونها ضائعة في عمق السنين: قال أه يا ولاد. الـ.... لو كنت عارف كنت ماخليش واحد إنجليزي علي أرض مصر!..
واسألها:لسه يا أمي زعلانه علي أبوكي زهران؟
قالت في يقظة تحسدها عليها بنت العشرين:زهران يا ابني ما ماتش..كل أولاد البلد هنا أولاد زهران..حاسة زي ما يكون معانا..لسه سامعة صوته..مانستش أبدا شكله وهيبته ودخلته علينا..عاش راجل, ومات راجل لكن صورته لسه قدام عينيا زي ما يكون سابني إمبارح بس!
قلت وأنا أنظر إليها بفخر:يا أمي طلباتك إيه؟
قالت: يا بني أنا عايشة علي معاش السادات..قابلني من سنين وقاللي موش عاوزة حاجه يا خالة سيدة؟
قلت له:عاوزة اصرف وأعيش وأنا بنت البطل زهران!
قال:اصرفوا لها معاش خاص!
قلت:كم؟
قالت:سبعة جنيه يا بني!
ملحوظة من عندي: معاش السادات الآن حسب علمي أصبح40 جنيها!
تتدخل ابنتها فهيمة وهي تبدو وكأنها أكبر من أمها:يا أمي إحنا جنبك وعايشين معاكي أنا وأولادي عادل وجمال!
ترد الأم بكبرياء: أنا يا بنتي موش عاوزة أمد إيدي لغير الله!..
ووجدت نفسي دون شعور أقول:الله يا بنت زهران!
قالت لي (مارجريت بنتلي) الصحفية الانجليزية الجوالة بعد ان حكيت لها كلمة كلمة- كل ماقالته ابنة زهران:هذا الشعب جدير حقا بالحياة!..
قلت:وبالحرية
قالت:انتم أكثر شعوب المنطقة إحساس بالحرية..
قلت:تقولين هذا بعد مشاهدتك لهذه الأم العجوز الشاهد الحي علي حادث دنشواي قبل مائة عام؟
قالت:صدقني لقد قرأت في عيون هذه المرأة الحديدية الإرادة القوية التي لم تهزمها الأيام ولم تطحنها المحن, التاريخ البطولي لهذا الشعب العظيم وقرأت في كل الوجوه المصرية السمراء القوية الفتية التي قابلتها داخل هذه القرية..أن ابنة زهران..هي امتداد لزهران نفسه!
قلت:إن الأبطال لا يموتون أبدا.. حتي لو اختفوا من حياتنا فإنهم في وجدان الشعوب وفي ضمير الأمم العظيمة باقون باقون!..
الموضوع القادم عن مشنقة الطليان للشهيد عمر المختار ..
التعليقات (0)