هواجس... مرت بخاطري !! (2)
حديــــث الـــقمر
بعد ظلمة طالت أياما كثيرة, تعودنا فيها تكبد الغيوم في السماء ونزول الأمطار, فكأننا قطعنا الأمل في صحو الجو وظهور الشمس ونورها, وكذا التمتع بجمال النجوم وسحرها, ورؤية القمر والأنس بضيائه الخفيفة. كيف لا وهو مكمن سرورنا وأفراحنا, فالنظر إليه ينسيك الهموم ومصائب الدنيا ,والسهر في عتباته لا يوحي إليك إلا الكشف عن ما بمكنوناتك من الأسرار.
لكن القمر من تكبد الغيوم لا يظهر, فكأنه في حزن وقد غاب, ولا تسل إن كنت ترتاح لمؤنس ينسيك عالمك ليسبح بك في عالم آخر, عالم كله سعادة وفرح, فكيف حالك وقد فقدته..
فما كان مني إلا الجلوس عند شرفتي ومناجاته, أملا في سماعي وظهوره. فأطرقت هنيهة وقد غص بريق عيني من تناثر الدمع, وأقبلت بوجهي نحو السماء مخاطبا إياه : " آه أيها القمر ما أبعدك وما أقربك, قد أطلت الغياب فافتقدناك, ونحن لا نتق بسواك, فأين غبت عنا وأين رحلت, لو تعلم أيها القمر شدة حاجتي إليك, لأسرعت المجيء أفلا تستجيب ؟؟".
فبقيت ساعة كاسف البال وأنا على نفس الحال من التضرع والمناجاة , وإذ بنور خفيف جدا يلوح في الأفق, يخترق الغيوم السوداء, فيظهر شيئا فشيئا, فتتكسر تلكم الغيوم وتتفرق إلى سحابات صغيرة, فتظهر نجوم وكأنها اللؤلؤ والمرجان. فخيل لي أنها من خدم القمر, جاءت لتبشرني بقرب الفرج , فكبر النور وعظم , فأرسل خطا مستقيما من السماء لشرفتي, حتى تحركت الأشجار, لكن سرعان ما حلت سكينة وهدوء, وهب نسيم بارد وكأني استأنسته فأنساني لوعة الشوق.
وفجأة ظهر القمر..... ولا تسل عن حالي ساعتها, كالرجل الذي فقد هجينه في صحراء عليها زاده ثم بعد غياب ظهرت له فجأة , فأبرقت أسرتي وزال خفقان قلبي, وتنفست الصعداء وجثثت على قدمي ويدي وأنظر للسماء تلمع بنور القمر وقد أضيئت المعمورة.
فلم يكن مني إلا أن خاطبت القمر قائلا : " ما أفرحني بلقياك ثانية أيها الصديق بعد كل هذا الغياب فقد استوحشت عالمي مالك غادر تني وأنت مَالِك قلبي وهواي ألا ترحم شبابي ؟ ألا ترفق بهذا المحب المخلص ؟ أعذرني إن وبختك فلا أمل لي إلا بك وأنت مكنونات أسراري ومنبع أفكاري وأما وقد ظهرت فإن الحياة قد عادت لي وقد فرحت للقياك أيما فرح فعدني ألا تفارقني وان تظل مؤنسي وصاحبي ".
وما أتممت الكلمات حتى كان التعب قد أخد مني مأخذا, فخرت قواي وسقطت كالمغشي عليه, وبقيت على تلكم الحال حتى أسدل الليل نقابه, فمر بعيني شعاع قوي أجفلت منه فاستيقظت.. فإذا به نور الشمس قد لاح في الأفق, وكنت لازلت بشرفتي فتطاولت بعنقي حتى أرى ما حولي وإذا بالشمس قد أرخت ضياءها على المعمور, من بساتين وحقول ,وقد برز لونها مشرئبا بالخضرة, بعد ما كان ممتقعا طول ما فات من الأيام. فانفتحت الأزهار بشتى الألوان والأنواع ,وقد زال عنها ذبولها, أما الأنهار والوديان فكان انعكاس ضوء الشمس عليهم ذو جمال ورونق خاص, كأن الذهب يسبح فوق مياهه.
كل تلكم المناظر مرت بعيني وأنا محملق بهما معجبا بصنع الخالق البديع في أرضه وكان قلبي لازال يرقص فرحا بلقيا الحبيب ....
التعليقات (0)