مواضيع اليوم

حدث في رمضان

نزار يوسف

2009-09-03 18:35:41

0

حدث في رمضان

 

عند قدوم شهر رمضان من كل عام تطل علينا الفضائيات المحلية و العربية ككل ، ببرامج مخصصة لهذا الشهر الفضيل .. شهر رمضان ، و غالبها برامج فنية من مسلسلات و منوعات و برامج دينية هي عبارة عن خطب و مواعظ للصيام و آداب الصيام . و ما يهمنا هنا في سياق هذا المقال ، هو البرامج الدينية و بعض التصرفات المرادفة لها في الشارع .

إن الإسلام في مضمونه و روحه القرآني البحت المجرد من كل تأويل و تفسير آخر . و ما يقع خارج الخطاب الديني المعاصر و السالف الممثل بتيارات مختلفة و مذاهب و مشارب متعددة . هو دين للتسامح و حرية المعتقد .. ذاك من منطلق الآية القرآنية ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( البقرة – 256 ) . و الصيام هو بالتعريف الفقهي أحد أركان الإسلام الخمسة و هو من زاوية الخطاب الديني العام قضية تعبدية مختلفة عن بقية أركان الإسلام كالصلاة و الزكاة و الحج من كونها ذات علاقة شخصية تحددت أبعادها بين الإنسان و الخالق . و يتضح ذلك من الأحاديث النبوية و كذلك الأحاديث القدسية و منها على سبيل المثال الحديث القدسي القائل ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي و أنا أجزي به . و الصيام جنة ، و إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ) ( صحيح البخاري - حديث / 1904 / باب الصيام )

و ما يعبر عنه رجال الدين من الخطب التي يلقونها على المنابر و البرامج الإذاعية و منها البرامج التي تعرض في رمضان من كل عام . و كلها تناول قضية أن الصيام أمر خاص بالله سبحانه و تعالى .

هذه القضية تستلزم الضرورة أن يكون مفهوم الصيام بكل أبعاده و حيثياته و ما يتفرع عنه من أحكام فقهية و شرعية .. أن يكون أمر شخصي بالدرجة الأول فهو عبارة عن علاقة شخصية مباشرة بين المرء و بين الله . ذلك ما يستتبع أن تكون الخصوصية التعبدية تلك قد أضحت من ضمن مبدأ الأخلاقية الدينية و مبدأ احترام الحريات الدينية .

و لكن ما يطرحه البعض على المنابر الدينية و الإعلامية حول احترام حرية الصائم بعدم تناول الطعام و الشرب أمامه ، حرصاً على عدم إزعاجه و مراعاة لإحساسه و شعوره حتى و لو كان هذا الشخص الذي يأكل هو مفطر شرعاً . و المطالبة بتطبيق عقوبات لكل من يشاهد و هو يأكل أو حتى يدخن في فترة الصيام .. عقوبات تصل إلى السجن أو الضرب . و أن على غير المسلمين أن يراعوا ذلك أيضاً بعدم تناول الطعام أمام المسلمين . يتنافى تماماً مع المبدأ السابق لروحية الدين الإسلامي و تسامحه للأسباب التالية :

1) ـ أن مبدأ تطبيق العقوبات الزجرية الرادعة .. المعنوية منها و المادية ، بحق الشخص المفطر ، يتنافى مع مبدأ الحديث القدسي القائل ( الصوم لي و أنا أجزي به ) .


2) ـ أن تطبيق هذا المبدأ مع غير المسلمين ، يندرج ضمن مفهوم الإكراه بالدين الوارد ذكره بالقرآن الكريم . و طالما أن غير المسلم حسب منظور هؤلاء ، لزاماً عليه أن يراعي المسلم في أبسط بند من بنود أركان الإسلام ، فواجب عليه إذن أن يراعيه في البنود الأعظم من الصيام كالصلاة مثلاً أو الحج .


3) ـ إذا كنت أنا صائم و أدعي أن صومي لله و بالوقت نفسه لا أريد أن أرى أحد يأكل أمامي و أن يختفي الناس من أمامي بمجرد رؤيتي و لا يأكلوا بحضوري حتى و إن كانوا مفطرين شرعاً أو دونما عذر أو ليسوا من ديني و ملتي ، كيلا يجرحوا كرامتي ، و أعتبر ذلك إهانة لي .. و أن أسيء إليهم بيدي أو لساني جريرة ذلك ، فالأولى بي أن لا أصوم ، لأن صومي هو ليس لله ، بل هو صوم وجاهة و رياء و تصنع . لا بل أن صيامي سينقلب حجة علي و يكون بمثابة ذنب كبير .

4) ـ حسب منظور الحديث السابق .. إذا تعرض الصائم للسباب و الشتيمة أو الاعتداء من قبل الغير ، يقول اللهم إني صائم .. فمن باب أولى أن لا يعتدي هو على الغير لمجرد رؤيتهم يفطرون أمامه .


5) ـ الكرامة التي ستجرح ، و الشعور الذي سيمس ، هما لشخص ممتنع عن الطعام لمدة أيام بسبب طبي أو مانع عضوي أو سبب خارج عن إرادته أو لشخص فقير جائع لا يستطيع أن يأكل اللحم و مشتقاته و لا الحليب و مشتقاته و لا الحلوى و مشتقاتها ، إلا مرة واحدة بالسنة . و ليس لشخص صائم بإرادته و لساعات محدودة سيأكل بعدها و يتخم معدته بما هو مستلذ و مستطاب .


تفتح التلفاز و تطالع الصحف و المجلات ، فتطالعك بعض الآراء تطالب بسجن المفطر برمضان أو تعزيره أو معاقبته ، و بعضها ذهبت إلى حد الجلد . و على المفطر الشرعي أن يتوارى عن القوم و عن الناس و البشر و يعتزل بيته كيلا يسء . لا بل أن البعض من اعتبر أن المفطر الشرعي إن أكل أمام الناس يصبح حده كالمفطر غير الشرعي .


أذكر مرة أني كنت في مسافراً البولمان بشهر رمضان و أخرج احد المسافرين قطعة بسكويت و أكلها ، فهب الراكب الجالس خلفه يصيح به و يصفه بقلة الأدب و الذوق و يطلب منه احترام مشاعر الناس و احترام صومهم ، و تطور الأمر إلى ملاسنة بين الاثنين تدخل فيها الركاب . وقتها قلت أنا للشخص الذي ادعى أنه صائم و افتعل المشكلة : إنك لست بصائم و لا علاقة لك بالصيام و الأفضل أن تفطر و تأكل لأنه ليس لك من صيامك إلا الجوع و العطش .


في رمضان قبل الماضي كنت صائماً و تصادف أن أصبت بالتهاب بلعوم و قصبات حاد و وصف الطبيب لي مضادات حيوية أتناولها كل ست ساعات و شدد على توقيت تناول الدواء مؤكداً على أهميته و على تناول وجبة و لو خفيفة قبل الدواء . ذهبت وقتها إلى السوق لأشتري بعض الخضار و الطعام للمنزل و هناك تصادف موعد الدواء الذي يجب أن أتناوله ، فدخلت إلى مطعم للفول و الحمص و طلبت وجبة طعام فرفض البائع تقديم الطعام لي بحجة شهر رمضان فأخبرته أنني مفطر شرعاً بسبب المرض و أبرزت له ثلاث أصناف من الحبوب أتناولها و طلبت منه كأس ماء ، فرفض الرجل معتذراً بأدب . ذهبت بعدها إلى متجر مجاور و اشتريت بعض الخضار و الأجبان و الأطعمة و المخللات و عندما طلبت من صاحب المتجر تناول بعض الطعام لأخذ الدواء رفض .. طلبت منه ماء على الأقل لشرب الدواء فرفض .. قلت له : يا حبيبي يا عيني يا روحي و يا مهجة قلبي .. أنا شخص مفطر شرعاً .. شررررررعاً .. قال حتى و لو كنت كذلك فلا يجب أن تأكل أمام الناس و جهاراً . قلت له : يعني أين سأكل حتى لا تتأذى حضرة جنابك و جناب القوم ؟؟!!!! هل أطير إلى السماء و أتوارى خلف السحاب و آكل ، أم أشق الأرض و آكل في باطنها و أخرج بعدها ؟؟!!!!! . قال : و الله لا أعرف .. ثم نظر إلي و قال و قد وجعه قلبه علي و رق لحالي : ممكن أن أسمح لك بلقمة من اللبنة أو الجبنة و كأس صغير من الماء و لكن في الغرفة الداخلية و تحت السلم كي لا يراك أحد . قلت له : يا أخي أنا لست مجرماً كي أفعل ذلك .. على كل حال شكراً لك .. مع السلامة . و تكرر هذا الأمر مع بقية المتاجر و المحال . و اضطررت إلى العودة إلى البيت و قد تجاوز الدواء موعده بساعة على الأقل .


في نهاية رمضان و قبل العيد بيوم واحد نزلت مساءاً إلى السوق نفسه و مررت على المحال و المتاجر لأشتري بعض الأطعمة و الحلويات للعيد و إذا بي أفاجأ بالغلاء الفاحش الغير طبيعي الذي وصل إلى ثلاث أو أربعة أضعاف في بعض المواد . وقفت محتاراً ماذا أشتري فالمبلغ الذي معي لم يكن ليكفي إلا مقداراًَ ضئيلاً مما كنت أرصده له . ذهبت إلى المتجر نفسه و سألت عن سعر المخللات فقيل الكيلو 65 ليرة . نظرت إلى ربطة صغيرة من البصل الأخضر مكتوب عليها / 70 / ليرة و ربطة بقدونس بسعر / 25 / ليرة . قلت له : المخلل كان سعره / 40 / ليرة و البصل / 20 / ليرة و البقدونس / 5 / ليرات . قال : الآن عيد الفطر . سألته : ألم تتذكرني ؟؟ نظر إلي متمعناً قليلاً و قال : لا .. من أنت ؟!!! أجبته : أنا الذي أتى إليك قبل خمسة عشر يوماً و كنت مريضاً و طلبت منك كأس من الماء فرفضت أنت و بقية زملاؤك في السوق بحجة احترام الشرع الذي تدعونه و الذي ما أنزل الله به من سلطان و الآن تطبقون الشرع المعاكس و الذي أيضاً ما أنزل الله به من سلطان .. الله سبحانه و تعالى سمح لي و حلل ، أن أفطر في رمضان و حرمتم أنتم شرعه و الله الذي حرم الربا و الغلاء الفاحش و توعد المطففين بالويل و الثبور حللتموه أنتم بالعيد . تحرمون ما حلل الله و تحللون ما حرم .. فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .


نظر إلي الرجل مفكراً قليلاً و قال : نعم لقد تذكرتك ، ثم ضحك و قال : و لكنني وقتها سمحت لك بتناول بعض الطعام لأجل الدواء . أجبته : و لكن طلبت مني ذلك في السرداب و خلف البراميل و تحت السلم و كأنني مجرم متوار عن الأنظار و أنا رفضت هذا المبدأ . أجابني : و الله لقد فكرت بكلامك بعد رحيلك و اقتنعت به بعض الشيء . أجبته : لو أنك اقتنعت لما كنت تبيع الآن بهذا الغلاء الفاحش أنت و هؤلاء .


و يبدو أن الرجل قد انتابه شيء من صحوة الضمير أو ما شابه فقال لي : سأعطيك كل ما تريد و بالمجان .. يبدو أنك مثقف أو شيء من هذا القبيل . أجبته : يا سيدي لا أريد منك إلا أن تبيعني و تبيع الناس كما كنت تبيع في الأيام العادية .


دار حوار بسيط بيني و بين الرجل ثم أخذت حوائجي و غادرته .

نزار يوسف




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !