بروفايل
حدثان للذكرى ليس إلاّ
بطلهما خطري ولد سعيد الجماني
هناك من الأحداث والنوازل ما ساهم في ترسيخ الصيرورة التاريخية للوطن والأمة بربوع المغرب الأقصى، وما كان بذرة حقيقية ستبرز معالمها لاحقا، لكن تكالبت عليها بعض الظروف وحاولت بعض الانحرافات عن المسار الطبيعي للتطور محاصرتها، إلا أنها ظلت شامخة الهامة شاخصة في الأذهان.
من هذه الأحداث والنوازل محطتين هامتين في سجل استرجاع الصحراء المغربية واستكمال الوحدة الترابية.
إنهما بمثابة مبراس ينير حقيقة لا يمكن تغافلها بأي وجه من الوجوه أو التنكر لها، إنهما الحدثين المرتبطين بخطري ولد سعيد الجماني: آخر لقاءاته مع الجنرال "فرانسيسكو فرانكو" ونازلة تهريبه إلى الوطن في غفلة من الإسبان، وهما موضوع بروفايل هذا العدد.
اللقاء الأخير مع الجنرال
في آخر لقاء بين الجنرال فرانسيسكو فرانكو وكبار المسؤولين في الحكومة الاسبانية، والذي عقد يوم 11مارس 1975 بقصر البرادور بالعاصمة الإسبانية، مدريد، أجمع شيوخ الجماعة الصحراوية على الارتباط بالمغرب بسبب روابط الأخوة والدين المتينة، التي لم ينل منها الزمن.
وقد حرصت السلطات الإسبانية، بكل ما في وسعها، وبكل ما أوتيت من قوّة ومكر، على التستر عن فحوى هذا اللقاء كما أحاطت محضره بالسريّة التامة، وذلك للتعتيم عن موقف سكان الصحراء، عبر ممثليهم آنذاك، الذين أقروا، بعفوية وتلقائية وإصرار، بارتباطهم الوثيق بالمغرب.
لكن لماذا هذا الاجتماع ولأية غاية؟ ولماذا في تلك الفترة بالذات؟
لقد عُقد ذاك الاجتماع بطلب من الجنرال فرانسيسكو فرانكو وهو على فراش الموت. وكان يتوخى منه ضمان بقاء "الصحراء الغربية" تحت السيطرة الإسبانية بعد وفاته. وقد أمر الجنرال المحتضر باللقاء مع أعضاء الجماعة الصحراوية الوازنين لإقناعهم بالبقاء بجانب مدريد للتصدي للمغرب العازم على استكمال وحدته الترابية مهما كلفه الأمر، باعتبار أن القضية مصيرية.
في هذا الاجتماع توجه الجنرال فرانكو إلى خطري ولد سعيد الجماني وقال له دون مقدمات:
"يهمّني ويهمّ قادة جيش الجمهورية الإسبانية في الصحراء، في حالة قدوم المغرب على الدخول إلى الصحراء، يهمّنا معرفة ما إن كان يمكن الاعتماد عليكم في دعم القوات الاسبانية لردّ المغرب وثنية عن مسعاه".
فكان رد خطري ولد خطري سعيد الجماني أن قال:
"لا يا سيدي الجنرال، نحن الصحراويون غير متعودين على محاربة إخوتنا المغاربة، وهؤلاء كما تعرف سيادتكم إخوتنا".
لحظتئذ برزت معالم الغضب المستطير على وجه الجنرال، فعقّب قائلا:
"إذن، هذا يعني أننا لا يمكن أن نعوّل عليهم إلى هذا الحد".
هذا ما أكده خطري ولد سعيد الجماني، فأمر الجنرال فرانكو بفض الاجتماع وعلامات الغضب المستطير بادية على محياه.
وحسب أكثر من مصدر، إن فشل الجنرال فرانسيسكو فرانكو في تحقيق مبتغاه خلال هذا الاجتماع الطارئ مع أعضاء الجماعة الصحراوية، هو الذي دفعه إلى بعث، على عجل، وزيره في الشؤون الصحراوية "كارو مارتينيز" إلى مدينة أكادير لملاقاة الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان ماضياً في تهييئ آخر ترتيبات المسيرة الخضراء.
وكان الجنرال فرانكو يهدف من وراء هذا اللقاء مع جلالة الملك المحافظة على ماء وجه إسبانيا مادام أن الملك الراحل الحسن الثاني ظل مصرّاً على مسيرته الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية.
حضر لقاء قصر البرادور مع الجنرال فرانكو، إلى جانب خطري ولد سعيد الجماني، بصفته رئيس الجماعة الصحراوية وزعيم قبيلة الركيبات، كل من "كارو مارتينيز" سالف الذكر، والجنرال "إدواردو بلانكو"، المدير العام للأمن الإسباني، إضافة للمترجم "ميرا"، والمسؤول العسكري "خوسي كريسبو" المدير المساعد في المخابرات الإسبانية الذي كان يعمل بمدينة العيون وقتئذ.
وإلى جانب خطري ولد سعيد الجماني، حضر الاجتماع، سويلم ولد أحمد إبراهيم، عمدة مدينة الداخلة وممثل قبيلة أولاد دليم في الجماعة الصحراوية. كما حضر "جولي ولد النان"، المكلف حينئذ ببرنامج الشباب وممثل قبيلة أزركين، وصايلة ولد عبيدي ممثلا عن قبيلة الركيبات فخذة أولاد الشيخ، وبابا ولد حسنة ممثل فخذة أولاد باعمر (قبيلة أولاد دليم) والذي كان والده معيّن، بظهير شريف من مولى الحسن الأول، رئيساً لقبيلة أولاد الدليم، ثم إبراهيم ولد الحسين أو موسى مسؤول الصحة ،آذاك بوادي الذهب، والذي استكمل مشواره في مجال الدبلوماسية حيث كان سفيراً في فنزويلا.
تهريب الجماني إلى أرض الوطن
أما الحدث الثاني، هو المتعلق بالتحاق خطري ولد السعيد الجماني بأرض الوطن، ولهذه النازلة قصة طريفة ذات نكهة هتشكوكية.
ففي لحظة كان الإسبان يخططون لآخر اللمسات لاختطاف خطري ولد سعيد الجماني لإبطال فحوى موقف الجماعة الصحراوية بخصوص قضية الصحراء علم الملك الراحل الحسن الثاني بالمؤامرة. وفي ليلة 2 نونبر 1975 كان رئيس الجماعة الصحراوية قد حلّ بجزيرة لاس بالماس.
في تلك الليلة استدعى الملك الراحل مستشاره أحمد بنسودة وأمره بالتوجه على وجه السرعة إلى جزر كاناريا لمقابلة خطري ولد سعيد الجماني وإخباره بالمؤامرة التي كانت تحاك ضده، ثم إقناعه بالعودة إلى الوطن لإبطال مفعولها وإسقاطها في الماء.
لكن كيف نفذ أحمد بنسودة أمر الملك الراحل وبالسرعة المطلوبة؟
كان من الضروري إيجاد مخرج لإنجاح العملية بأي ثمن، لذا تم اعتماد الخطة التالية:
توجّه مستشار الملك، أحمد بنسودة، إلى جزر كاناريا على متن طائرة خاصة رفقة عناصر من الحرس الملكي، وفي سماء لاس بالماس طلب الربّان إذن هبوط اضطراري على مدرج مطارها لعطب مفاجئ في الطائرة. بلع القائمون على الأمور بجزر كاناريا الطعم، إذ أقام حاكم جزيرة لاس بالماس حفل عشاء على شرف مستشار الملك، الضيف دون ترتيب. وبعد العشاء تظاهر أحمد بنسودة بالتعب والقلق، وطلب المبيت على أن يستأنف رحلته الجوية يوم غد.
نزل أحمد بنسودة في فندق وكان عليه لحظتئذ الاتصال فوراً بخطري ولد سعيد الجماني دون أن تعلم بذلك عيون الإسبان، وكان لابد من التفكير في حيلة لإلهاء رجال الأمن الإسباني.
خرج مرافقو مستشار الملك، وتوجه كل واحد في اتجاه أملا في تشتيت أنظار الأمن والحراسة. آنذاك نجح أحمد بنسودة في عقد اتصال مع الأخوين فيضول وأحمد الدرهم اللذان كان يتواجدان بلاس بالماس، ثم توجهوا جميعاً إلى مقر إقامة خطري ولد سعيد الجماني الكائن بساحة الملكة "إيزابيلا". وبعد شرح الأمر باستفاضة، طلب مستشار الملك من رئيس الجماعة الصحراوية التوجه رفقة الأخوية الدرهم وبوعيدة إلى مقر السفارة المغربية بالعاصمة الإسبانية، مدريد، لتسلم جواز سفر مغربي، ثم السفر إلى باريس وللالتحاق بالمغرب.
قبل المغادرة طلب خطري ولد سعيد الجماني من أحمد بنسودة أن يحمل رسالة إلى الملك، حيث قال له:
"الموت والحياة بيد الله، فإن وافتني المنية لا أريد أن يقال عنّي إنني تخليت عن وطني وغدرت ملكي.. لذا عليك أن تسلم هذا الكتاب إلى جلالة الملك".
إن هذا الأمر مرتبط بنازلة وقعت بينه وأحمد بنسودة، إذا كان هذا الأخير قد بعث إلى الأول رسالة جارحة من طرفاية، ذكّره فيها بنسبه وأصله ومواقفه الوطنية السابقة، ومما جاء فيها:
"يا خطري أتدري من أنت؟ إنّك ركيبي وشريف النسب وتنحدر من صلب مولاي عبد السلام بن مشيش.. وتلتقيان أنت والملك الحسن الثاني في مولاي إدريس ولا يمكن أن تستمر في الوقوف في صف أعدائه... فأنت خرجت في سنة 1953 على رأس مظاهرة للتنديد بنفي محمد الخامس.. وقدمت له البيعة سنة 1956 بالرباط".
لم ينس خطري ولد سعيد الجماني فحوى هذا الكتاب الذي أقرّ أنه جرح قبله بعد الإطلاع عليه.
وفعلا امتثل سعيد الجماني للخطة وسافر إلى باريس ومنها إلى المغرب، إذ عاد إلى الوطن في 3 نونبر 1975، 3أيام فقط قبل اختراق متطوعي المسيرة الخضراء الحدودية الوهمية.
آنذاك استقبله الملك الراحل الحسن الثاني، وحضر هذا الاستقبال جمع غفير من المسؤولين الكبار والدبلوماسيين وجماعة من الصحفيين، تجاوز عددهم 500 جاؤوا من مختلف أنحاء العالم، وقدم البيعة للملك والولاء للوطن.
في ذلك اليوم أشاد الملك الراحل الحسن الثاني بوطنية خطري ولد سعيد الجماني وألبسه سلهامه، وقال له جلالته:
"لم يسبق لي أن استقبلت مغربياً كما استقبلتك".
ومنذ استقراره بالرباط في أواخر سنة 1975 بدأ خطري ولد سعيد الجماني يظهر بجانب الملك الراحل الحسن الثاني ويحضر في الكثير من الاستقبالات والمناسبات الرسمية.
في سطور
ينتمي خطري ولد سعيد الجماني إلى قبيلة الركيبات، وُلد سنة 1915 بمنطقة ثلاثاء الأخصاص بين تزنيت وكلميم في حضن أسرة محافظة، وترعرع في هذه المنطقة وعاش طفولته بين واد نون والصحراء عند الحدود الموريتانية. حفظ القرءان ودرس بعض الحديث، لكنه لم يلج التعليم النظامي.
توفي والده وهو لايزال في ريعان شبابه، حيث لم يتجاوز سنه آنذاك 21 سنة.
و غداة وفاة والده طلب منه أفراد القبيلة أن يتقلد مهام شيخها وتدبير شؤونها بالإضافة إلى رعاية الأسرة.
كان في البداية قد رفض تحمل هذا العبء نظراً لحداثة سنه و نعومة عوده و قلة تجربته، إلا أنه اضطر للاستجابة بعد إلحاح شيوخ القبيلة وصرارهم.
تزوج خطري ولد سعيد الجماني بأربع نساء، ثم طلّق بعضهن، وتزوج مرات أخرى إلى أن وصل عدد زيجاته 9.
أنجب 26 طفلا وطفلة تربوا كلهم في نفس البيت و في كنف عائلة واحدة.
التعليقات (0)