بقلم: مولاي محمد اسماعيلي
قبل عقود من الزمن كتب المفكر السوري المرموق جودت سعيد كتابا سماه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، معتبرا أن الحل لكل المشاكل والمعضلات التي تعانيها البشرية جمعاء، والأمة الإسلامية على وجه الخصوص، مكمونة في تطبيق ذك القانون الإلهي السديد
في التغيير، والذي خطه القرآن منذ بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله جل شأنه
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". فأسلم طريقة للتغيير حسب داعية العلم والسلم جودت سعيد تكمن في مدى الاستعداد الذي يبديه الإنسان ليغير نفسه أولا، فتغيير النفس هو اللبنة الأولى في بناء صرح جديد متغير عن ما هو كائن وموجود، لكن للأسف فالغالبية العظمى من الناس لا تؤمن بهذا القانون، بل تعكس الآية، وتجد الكثيرين يتحدثون عن أن المسؤولين يجب أن يتغيروا أو على الأقل، إذا لم يتغيروا هم أن يغيروا قليلا
من طريقة عملهم وأسلوبهم في ممارسة المسؤولية، وهذا اعتقاد خاطئ؛ لأن التغيير لم يكن يوما ينزل من الأعلى إلى القاعدة، فالنبي (ص) عندما كلفه الله بتبليغ الرسالة ركز في البداية على تغيير معتقدات الناس المحيطين به والتي ألفوها منذ زمن، وعندما غير ما بأنفسهم بمساعدتهم هم أيضا، تحقق ما كان يعتبر من رابع المستحيلات وانتشرت دعوة الإسلام وأعليت راية الإسلام في العالم. إن هذا القانون الإلهي في التغيير يصلح لكل زمان ومكان، ومتى وجد قوم من الأقوام أو أمة من الأمم، آمنت حق الإيمان بأن التغيير يبدأ من الداخل، تنجح في رسم مسارها بطريقة جيدة، وتمكن لنفسها أن تنبعث من جديد مهما كانت درجة تخلفها أو نكوصها عن مسار التنمية والبناء. إن أوربا انتقلت من مجال ضخم للحروب والقتلى والجرحى وسفك الدماء والصراع على زهق الأرواح، إلى مجال يسعى للتكامل والاندماج من خلال الاتحاد الأوربي، فهم بذلك فهموا سنة التغيير كما يقول جودت سعيد، وحاولوا ممارستها على أرض الواقع مع استعداد شامل من طرفهم على التجديد والتغير في أية لحظة تستدعي هذا التجديد، إنه فعلا درس للأمة الإسلامية؛ ذلك الذي تلقنته من أوربا، فالأولى أن يستفيد الآخرون منا نحن المسلمين، لكن للأسف انقلبت الآية وأصبح المسلمون من أكثر الأمم مقاومة للتغيير، فهم ألفوا لغة الأنساق وأقفلوا على أنفسهم أبواب التخلف وبقوا داخله، فيما الآخرون آمنوا حقا بالتغيير وإن في بعده المادي لدى بعضهم، فاستطاعوا أن يتغيروا هم أولا ويغيروا الأنساق والأنماط التي ألفوها، فكتب لأغلب تجاربهم النجاح، فيما نحن نحصد الذل بعد الذل دون أن ندرك أن الحل لخروجنا من دائرة الفراغ التي نعيشها هو أن نخلق استعدادا لنتغير في دواخلنا ونترجم ذلك الاستعداد إلى أفعال تجعلنا نرى أشياء جديدة تحسسنا وتحسس غيرنا أننا نتغير إلى ما هو أحسن وما هو أنفع وأجدر لنا.
إن العرب أبدعوا فقط في تغيير واحد ووحيد، هو تغيير الوجوه بالموت الإلهي طبعا، وتغيير ألوان ألبستهم الفاخرة، فوقفوا عند هذا الحد ولم يتجاوزوا المربع الأول منذ أن حصلوا على ما يسمونه الاستقلال، نعم هو استقلال لكن من جانب واحد هو أنهم تخلصوا من أعلام الدول المستعمرة، ومن بذلات جنودها التي كانت تملأ شوارع مدنهم، أما ما هو مهم فلم يتغير، رحم الله المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي عندما أبدع فكرة القابلية للاستعمال؛ فنحن شعوب الأمة العربية لم نستطع بعد أن نتحرر بشكل كامل من القابلية للاستعمار التي مازالت تلازمنا إلى اليوم، وما دمنا لم نتوقف وقفة صادقة ومخلصة للتأمل في أحوالنا وتربية نفوسنا على الاستعداد لتغيير شامل يبدأ من الداخل، فلن نجد لأمراضنا الكثيرة حلا ولا دواء شافيا.
إن إصلاح أوضاع الأمم والشعوب لا ينزل من السماء في قوالب جاهزة لتطبيقه، وإنما يكون نتيجة مخاض داخلي كبير يشارك فيه الجميع بالسلب وبالإيجاب كل حسب موقعه لكن تكون النتيجة حسنة. ففرنسا لكي تصبح فرنسا هذه الأيام كان لابد لها أن تمر من خمس ثورات دامية، وفي مقابل النموذج الفرنسي ألم تساعد الولايات المتحدة الأمريكية الأفغانيين والعراقيين بدعوى تحريرهم من الديكتاتوريات ولم تجن هي وهم إلا القتل والدماء التي سالت أنهارا قربانا لتغيير تمليه أمريكا بدباباتها وطائراتها، لن يتحقق مهما طال الزمن أو قصر، إنه درس لكل الذين يؤمنون بفكرة فرض شيء ما على شعوبهم من القمة، فما لم تكن القاعدة مستعدة للتغيير ومؤمنة به فلن يتم مهما خصصنا له من آلة عسكرية أو عتاد حربي؛ فاليمن على سبيل المثال لم تعش الاستعمار كما عاشته دول عربية وإسلامية أخرى، لكنها بقيت متخلفة، لأنها لم تؤمن بالقانون الإلهي في التغيير، وبقيت كما هي منذ عقود عديدة. إن التغيير لم يمنح يوما ولم يُهدى لشعب ما في زمن من الأزمان، وإنما يكون بإيمان داخلي راسخ.
إن كل شعوب العالم الإسلامي الآن في حاجة إلى تغيير أوضاعها المعنوية والمادية، فالحالة مزرية منذ عقود و بقيت على ما هي عليه ولم تتمكن هذه الشعوب المقهورة من فعل شيئ، ليس لأن الأنظمة تسلطت عليها، ولكن لأنها ما تزال نائمة في بئر عميق وتسب وتشتم كل من يريد إيقاظها لتعود إلى سباتها من جديد دون أمل في استفاقة تصلح الأحوال وتؤسس لانطلاقة جديدة.
إننا عندما نتمادى في غينا وجهلنا، فلن تبقى الأمور على حالها إلى ما لا نهاية. فالقانون الإلهي واضح في الحديث عن تلك الأمم التي تتولى وترفض التغيير، فحكمه عادل في قوله تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". إنه قانون واضح، فمتى استمررنا في نومنا وسباتنا يتدخل القانون الإلهي بعد أن يعطينا فرصا للنهوض لا تعد ولا تحصى فيغيرنا بغيرنا؛ أي بأمم أخرى تؤمن بالتغيير الحقيقي وتكون كاملة الاستعداد للتغيٌر المستمر والمتجدد.
إن التغيير الحقيقي والمجدي هو تغيير ما بالنفوس إلى ما هو أفضل لكي نؤسس لانطلاقة جديدة نرسمها بإرادتنا وعقولنا، ونسير فيها بخطى ثابتة تجعلنا في مصاف أمم متقدمة بفهمها للسنن الإلهية في هذا الكون، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
كاتب صحفي وباحث مغربي
التعليقات (0)