لا يختلف مغربيان إثنان على أن نظام حكم الحسن الثاني رحمه الله كان نظاما شموليا مطلقا صارما وحازما ، قام على الفكر البورجوازي العنصري الذي اعتمد في استمراريته على ثلاثة ركائز بشرية : كانت أولها ( وما زالت ) النخبة المولوية وتكونت ( وما زالت ) من الأمراء والأميرات وكل من له قرابة وصلة عائلية بالأسرة المالكة . والثانية هي نخبة الحرس التي كانت ( وما زالت ) تتكون من الأجهزة الأمنية المتعددة السرية منها والمعلنة المنتشر أفرادها على كل شبر من تراب المملكة تعد أنفاس المواطنين وتتنصت على كوابيسهم بالإضافة إلى جهاز السلطة الترابية .. وكان ( وما زال) لكل هذه النخبة ( الحرس ) كافة الصلاحيات المطلقة في استغلال الوطن والمواطنين ، باسم الأمن ، وبفعل كل ما تريد أينما تريد وبمن تريد ومتى وكيفما تريد لا تعلوها إلا سابقتها . أما النخبة الثالثة فكانت ( وما زالت ) تتكون من الأثرياء التي هي ، على أقليتها ، القوة الضاربة في نظام الحكم ( النخبتين الأولى والثانية ) وقصبته الهوائية الضامنة الرئيسة لبقائه واستمراره .. أما بقية الشعب ( ثلثاه ) عمالا كانوا أم موظفين أم عسكريين أم سياسيين أو مثقفين أو مشردين فوجودهم كان ( وما زال ) مثل عدمه : عاشوا أو تشردوا أو انتحروا فالأمر لا يختلف في شيء بين الحالات الثلاث .. وكانت للملك الراحل تصريحات صريحة وشهيرة ، خلال ثمانينيات القرن الماضي ، حول تفضيله لثلث الشعب على ثلثيه .
كل هذا كان ( ومازال ) يعني أن المغرب مختصرا في الملك ونخبه الثلاثة ، أي أن الوطن كله ( أرضا وشعبا ودينا ولغة وتاريخا وسلطة وثروة ) كان في ملك ثلث سكانه ( عشرة ملايين أو ما يزيد عن ذلك بقليل ) أما ثلثيه فكانا ( وما زالا ) فائضا بشريا غير نافع يثقل كاهل النظام يستحسن التخلص منه بالتهميش وبالتفقير والتجويع وبالتعذيب وبالتهجير ، ما جعل من نظام الحسن الثاني ( غفر الله لنا وله ولكل المسلمين ) نظاما إقطاعيا بامتياز .
لكن الملك القوي بسلطانه واستبداده لم يعتمد في حكمه فقط على قوة الحديد والنار كما يشاع وكما يتميز عادة حكم الديكتاتوريين الجبناء بل كانت قوته الاستراتيجية تكمن في مخزونه العلمي والثقافي المتنوع وفي تجاربه المريرة مع معارضيه وحساده الذان منحاه قوة وشجاعة التحدي والحزم والمواجهة حيث أكسباه حنكة سياسية عز نظيرها ورأية ثاقبة لكل ما يحيط به من قريب أو من بعيد وبعد نظر في السياستين الداخلية والخارجية بل حتى في الظواهر الاجتماعية الدفينة والطبيعية : ونتذكر هنا بالمناسبة تنبؤه بداية ثمانينيات القرن العشرين بظاهرة البطالة التي بدأت تطل برأسها وقتها عندما قال في إحدى المناسبات أنها ستكون معظلة العصر ومن أشد أزماته الإنسانية ، ونتذكر أيضا كيف اجتهذ خلال نفس الفترة خارج إطار اختصاصه لمعرفة أسباب ظاهرة موجات الجفاف التي بدأت تجتاح المنطقة المغربية من حين لآخر وبدأت معها نظرية اعتدال المناخ المغربي تتلاشى وذلك حينما طلب من أحد العلماء الأمريكيين المتخصصين بدراسة في الموضوع .. ونتذكر أيضا اهتمامه بالفضاء الخارجي المغربي عندما طلب من الإدارة الأمريكية حينها من خلال سفارتها بالرباط تفسيرا لظاهرة الصحون أو الأطباق الطائرة التي بدأت تظهر في الأجواء المغربية من حين لآخر .. بهذا وعلى قاعدة المثل المغربي الشهير الذي يقول " كون سباع وكولني " كان الحسن الثاني زعيم زعماء زمانه :
يوجه بدهاء كبير سياسة العالمين العربي والإسلامي حسب ميولاته التي كانت في جزء كبير منها غربية ويأثر فيها تأثيرا مباشرا وقويا ، ويفتي في السياسة الدولية ويحسب لفتواه حساب فتاوى كبار الخبراء والفقهاء . لكن رغم هذه الحنكة وهذا الدهاء السياسيين المؤثرين بقوة في علاقته الدولية فسياسته الداخلية الشمولية المتشددة واعتناقه القوي للفكر الغربي وانحيازه المطلق لسياسة الغرب ، وغيرة بعض زعماء العرب وإفريقيا وحلفائهم في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية من قوة شخصيته وشجاعته وأناقته الدبلماسية .. كل هذه الصفات والمواقف جلبت له ولنظامه ومن بعدهما للمغرب وللمغاربة مصاعب جمة وأكثرت وعددت ونوعت أعداء المغرب ، وتكاثرت وتعددت بهم الدسائس والمؤامرات ضده وضد الوطن والمواطنين في كل شيء .. حتى في الرياضة التي كانت ومازالت – كما هو مفترض – هي اللغة الجميلة الوحيدة التي تجمع كل البشرية وتوحد فيما بينها عانى فيها ممارسوها وعشاقها المغاربة الشيء الكثير من مرارة الحيف والمؤامرات . فأصبحت سياسته ومواطنوه محاصرين في منطقتي الخليج العربي وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وفي أضيق وأفقر منطة إفريقية ، وأضحى أينما ولى وجهه فثمة يجد أعدائه يترصدونه لإفشال سياسته خصوصا فيما يتعلق بملف الصحراء الذي لم يحسن تدبيره منذ البداية حينما تجاهل وأسقط من حساباته مواقف أعدائه المنتظرين والمفترضين في مخططه التحريري والوحدوي للصحراء حيث نهج في ذلك سياسة الاستهجان والاستعلاء على توابع المعسكر الشرقي مستقويا عليهم – كما على شعبه – بكبريائه المبالغ فيه وبولائه المطلق للغرب الذي لم يكن يدعمه (باستثناء فرنسا ) في ملف الوحدة الترابية بالقدر الذي كان يتوقعه وينتظره منه حيث كان ذلك الدعم ( الغربي ) أقل وبكثير مما خسره هو من دعمه له .. بل أكثر من ذلك كانت سياسة ذلك الغرب ( من غير فرنسا ) اتجاه الحسن الثاني والمغرب تتسم بالنفاق الشديد بحيث كان يدعم فعليا سرا وعلانية مخطط أعداء وحدتنا الترابية سياسيا وحتى ماديا ويدعم المغرب فقط بالتصريحات الشفوية وبفتات الطاولة وهي السياسة نفسها التي مازال ينهجها إلى اليوم - وما موقف دونيس روس ، المبعوث الأممي ( الأمريكي الجزائري ) إلى الصحراء ذو الجنسية الأمريكية ، الذي اتخذه ضد ملفنا الترابي في السنة الماضية ، والمخطط الدنيء الذي حاكته إدارته العليا مؤخرا في نفس الموضوع وبنفس العدوانية ما هو إلا تجسيد قوي لسياسة النفاق الغربي التي لن تتغير بل ستستمر وستتقوى مادام المغرب من ضعاف وجبناء توابع ذلك الغرب المنافق - ما أوحى ويوحي أن ذلك الغرب تعمد كثيرا ومازال يتعمد بإصرار إذلال المغرب بإذلال ملكه على نهج أعدائه التقليديين المباشرين ليبقى مشكل الصحراء أولا شوكة لا تنكسر في حلقه جزاءا له على ديكتاتورية سياسته الداخلية وعلى تبعيته العمياء له ، و ثانيا ليظل مطرقة فوق دماغه حتى لا يلتفت لباقي المناطق المحتلة التي فرط فيها سابقوه ممن ورثهم في نظام الحكم الشمولي .
رغم هذه الانكسارات مع ضعف الامكانيات المادية وضيق الحال والتسيب والفساد الاقتصاديين والاجتماعيين فالملك ومعه المغرب لم يضعف يوما على الأقل أمام أعدائه المباشرين التقليديين وبقي أمامهم هو ذلك الغول الذي يرعبهم غضبه يحسبون لصرامته وحزمه ولمغامراته ألف حساب .. لكن ما كان ومازال مثيرا في سياسة حكمه ( على حد معرفتنا الجد متواضعة ، وهو ما يهمنا هنا ) أنه قلما
كان يخلف وعوده وتحذيراته التي كانت ناذرة أصلا على الصعيدين الداخلي والخارجي ، ربما لأنه لم
يكن بحاجة لتضليل الشعب وإيهام أصدقائه كما أعدائه بوعود أو بتهديدات يشك في إمكانية تحقيقها وتفعيلها وتنفيذها :
فهو لم يعد شعبه بالغنى المفاجئ ولا بالعدالة العمرية .. ولم يعده بالديمقراطية المثالية التي كان يطالبه بها معارضوه في الداخل بل كان يرفض جهرا وعلانية أي نوع من الديمقراطية تكون خارجة عن سلطانه ، ربما لأنه كان يعلم أن أهدافهم لم تكن غير تحقيق أطماع شخصية وفئوية في السلطة والثروة وفي تحويل مسار تبعية المغرب لمن لم يكن يطمئن لهيمنتهم ، ولم يخضع في ذلك لا لنصائح ولا لظغوطات أقوياء العالم الذين كان يعتز بصداقتهم أو يتفاداها .
أما خلفه على العرش ووارث أسراره وأرزاقه وأعدائه .. وسياسته ، التي لم يتغير فيها إلا داعموها وحماتها ومنفذوها والمنتفعون منها وبها ، فقد وعد الشعب منذ بداية عهده بتغيير وتحقيق كل شيء ولم يتغير ولم يتحقق أي شيء :
وعد المغاربة بشطب كل طقوس الذل والمهانة ومظاهر البذخ المتوحش عندما كان في السنة الأولى من عهده يرفض تقبيل يديه ومدحه والتغني به فما لبثت أن عادت أقوى وأفضع وأذل مما كانت عليه في العهد السابق .. ووعد المغاربة بمفهوم جديد للسلطة وبممارسة جديدة لها فتغولت وتغول بها ممارسوها وذل بها الشعب أكثر من ذي قبل .. ووعدهم بثروة منزلة وغنى مستدام فلم ينالوا منها ومنه حتى الاعتذار المشرف .. ووعدهم بتنمية بشرية شاملة ومستدامة فتفاقم الفقر ومشتقاته بازدياد أفواج العاطلين والحائطيين والمتسولين والمشردين وتناسلت وتنوعت كتائب الإجرام ، وتوسعت قاعدة المفسدين وسراق أموال وممتلكات الشعب .. ووعد المغاربة بديمقراطية كونية فبقيت في زنزانة الانتظار إلى أن زهقت منهم حقيقتها ونالوا منها باطلها ..
وعد المغاربة بتصفية ملف الصحراء والهموم الثقيلة المتصلة به فتصاعدت ألسنة نارها وحرارة رمالها أكثر فأكثر :
قبل ما يزيد عن ثلاثة سنوات ( إذا لم تخونني الذاكرة ) فاجأنا الملك ذات ليلة ودون سابق إعلان بخطاب لم نتوقعه كما جرت العادة زف من خلاله لنا نحن المغاربة ، ومن خلالنا لغيرنا وكان هو الأهم ، خبرا يعدنا وغيرنا فيه بتنزيله لمشروع " الجهوية الموسعة " ومن خلاله الحكم الذاتي الموسع لجهة الصحراء دون انتظار نتائج المفاوضات الجارية حوله . وعين بخصوصه لجنة أو مجلسا للفقهاء لوضع الخريطة السياسية والجغرافية والديمغرافية للمشروع التي لن تتعدى مدة إنجازها ستة أشهر ، وتنفيذ وتطبيق المشروع على أرض الواقع ( حسبما جاء في الوعد الملكي ) لن يتجاوز نهاية تلك السنة .. وقلنا وقتها كغيرنا ممن ألفوا حتى ملوا لغة وسياسة التسويف والتضليل :
إن اللجنة أو المجلس لن يكن إلا كغيره من اللجان والمجالس الموضوعة وتوضع فقط للتمظهر وللتضليل ولرمي الرماد في العيون ، ولتفقير المغاربة أكثر وأكثر ولرفع من مستوى غنى أغنيائهم باستنزاف أموالهم وثرواتهم .. أكثر من ثلاث سنوات إذا مرت على الوعد الملكي المفاجئ غابت خلالها ومنذ تشكيلها اللجنة ولم يظهر لها أثر ولا لخريطتها ولا لجهويتها الموسعة ولا للأموال التي التهمتها ، وبقي مشروع الحكم الذاتي الموسع يوسع فقط دائرة الخطابات والتحليلات والنقاشات التضليلية للسلطويين وللمتحزبين وللجمعويين ولأشباه الإعلاميين وهم على الأرائك متقابلون ينعمون وعلى الشعب يتغامزون وعلى ذقونهم يضحكون إلى أن لكمهم جميعا دونيس روس بلكمة ساقطة أولية ومن بعده ، وفي أقل من سنة ، أسقطهم جون كيري وسوزان رايس ومن خلفهما بالضربة القاضية من خلال مشروعهم الخبيث المناوئ لوحدتنا الترابية والمساند لأعدائها ( كما أسلفنا ) الذي لم يتخيله نظامنا وطاقمه ونخبه ( كما هي عادتهم ) لتبدأ بذلك أرض الصحراء وأرض المغرب كله تتآكل تحت أقدامه .. ومع ذلك مازال يتوهم ويوهمنا ويعدنا بعلاقات أطيب من عطر ماء الورد والزهر مع أمريكا ومع الغرب عامة .
وعود ووعود بالجملة لا تنتهي .. وإخفاقات وهزائم مذلة في كل الميادين وعلى كل الواجهات لا حدود لها ، والمغرب تشتد آلامه ويتصاعد أنينه تحت وطأة سياسة الجبن والنفاق والعشوائيات التي أفقدته منذ قرون مدينتا سبتة ومليلية وجزرهما والكثير من جنوبه وشيء من شرقه وكل خيرات بحاره ، وسلخته بذلك من تاريخه وهيبته وكرامته .. فإلى أين المآل يا من لا هم لكم غير الصراخ والبكاء على مناصب السلطة والثروة والإدارة والأحزاب والنقابات والجمعيات ، وعلى كل ما يطل من فوق الشعب وأنتم أميون لا تفقهون حتى في رسم خريطة المملكة التي تتآكل جنباتها في اتجاه عمقها رويدا رويدا؟؟
- محمد المودني - فاس .
( ماي 2013 ) .
التعليقات (0)