حتى لا تشيخ الأفكار
بقلم: خليل الفزيع
هل تشيخ الأفكار كما يشيخ الإنسان؟
وهل ثمة ارتباط بين فتوة الإنسان وفتوة أفكاره؟
أم أن الفكر لا يشيخ مهما تقدم العمر بصاحبه، وأن العلاقة بين الأفكار والمرحلة العمرية لا وجود لها ما دام الإنسان سليم العقل والجسد؟
نسمع أو نقرأ أحيانا عما نسميه الأفكار البالية، وهذا يعني أن ثمة عوامل تؤدي إلى ذلك وأهمها أن الفكر إذا ارتهن بالماضي دون أن يلتفت إلى ما يستجد حوله من معطيات الواقع والعلم وسنة التطور الكوني، فإنه يصبح فكرا متهالكا قابلا للانهيار أمام تحديات الفكر الجديد الملائم لعصره، والذي يستمد مقومات قوته من الحاضر والماضي معا إلى جانب استشرافه للمستقبل وما يتطلبه من عمل يمهد الطريق أمام الأجيال الجديدة للبناء المثمر.
أما الأفكار البناءة فلا علاقة لها بالمرحلة العمرية لكل إنسان سليم العقل والبدن، فها نحن نسمع أو نقرأ أفكارا بناءة ورائدة وعملية، وتحظى بتقدير من يتلقاها صادرة من أشخاص قد تقدم بهم العمر، وكان تقدمهم في العمر سببا في نضوج هذه الأفكار، واتساع أفق رؤيتهم للأمور، بعد أن صقلتهم الحياة بتجاربها، وحقنت في دمائهم حيوية الفكر وتألقه وعمقه، وامتلاكه لحيوية الشباب وتطلعه وتفاؤله بالحياة وما فيها من خير وحق وجمال، بالمقابل نسمع ونقرأ لبعض الشباب الذين وصلوا إلى مراحل متقدمة من التعليم.. أفكارا بالية شاخت قبل الأوان، لأنها ارتهنت بالماضي فقط، ولأن أصحابها حكموا على أنفسهم بالحياة في ذلك الماضي ولا شيء سواه، فانسلخوا من الحاضر ومعطياته وما يتطلبه من مواكبة وتفاعل مع هذه المعطيات، ورفضوا أي فكر يواكب الحياة ويتطلع إلى المستقبل برؤية طموحة ومتفائلة، ويعمل على أن يكون الحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر، مع الإيمان بأن التطور سنة الحياة، وان الوقوف في وجه هذا التطور نوع من الجهد الضائع، لأنه يفرض نفسه، والأجدى من الهروب منه، هو التفاعل معه، والإسهام في صنعه، والاستفادة منه في جميع مناحي الحياة.
لقد ظل أصحاب الفكر المستنير علامات مضيئة في تاريخ البشرية، وتركوا بصماتهم الواضحة على حياة الكثيرين بامتداد العصور وتقدم الزمن، بينما اختفى أصحاب الأفكار البالية كما تختفي الفقاعات من على سطح مياه نهر الحياة الذي لا يتوقف، بل يجرف في جريانه المستمر مثل هذه الأفكار البالية، تاركا للأفكار المستنيرة أن تشمخ على ضفتيه، لتتيح للناس فرصة الاستعانة بظلالها من رمضاء الحياة، والاستفادة من ثمارها في مواكبة هذه الحياة، والمشاركة في تطورها وازدهارها.
وبقدر ما تسهم الأفكار المستنيرة في بناء المجتمع، ودفعه إلى الحياة، فإن الأفكار البالية التي تشيخ مع الزمن حتى تتعفن، إنما تسهم في ركود المجتمع، وعرقلة مسيرته، والحد من تطلع أفراده إلى مستقبل مزدهر ومشرق ومتطور، ومع أن التطور يفرض نفسه على المدى البعيد، فإن الأفكار المستنيرة تساعد على الإسراع في هذا التطور دون أن يتخلى المجتمع عن جذوره، ودون أن يتخلى أفراد هذا المجتمع عن هويتهم وانتمائهم للقيم النبيلة التي تساعد على دفع عجلة التنمية والتطور إلى الأمام.
والأفكار المستنيرة هي السبيل للمجتمعات المنفتحة والحرة، وفي ظل هذه المجتمعات المنفتحة والحرة يمكنها أن تنمو وتزدهر، يحكم مسارها ويوجه دفتها إلى الإصلاح.. هدف السعي إلى الأفضل، فهي في هذه الحالة سبب ونتيجة، يعز منالهما بغير الإصرار والدفاع المستميت عن أي فكر بناء يراد من ورائه خير المجتمع والناس، دون مساس بحرية وكرامة الإنسان، ودون تجاوز لما تفرضه القيم النبيلة والثوابت الراسخة في عمق المجتمع، والقادرة على استفزاز كوامن الإبداع لدى الفرد والجماعة، وتحريضه على أن يكون جزءاً من عصره، لا عالة على ماضيه.
حتى لا تشيخ الأفكار لابد من ارتباطها ارتباطا وثيقا بالحاضر ومعطياته ومتطلباته، دون نسيان للماضي، ودون تجاهل ما يتطلبه المستقبل من عمل لترسيخ قيم الحرية والإصلاح الدائم والمتواصل لاجتثاث كل ما يعرقل نمو وازدهار المجتمع، والتسليم بوعي أن التطور هو سنة الحياة، وهو التطور الواعي والمفيد للجميع.
التعليقات (0)