حب من قصص الحلاج و مريده ابو منصور المغربي4
من علٍ ، ينزل للمشي على الترب
يمرٍّغ ألوان الماء في الماء
يعدو إلى نجدة الشَّمس و هي تكمل دوَّامة اليوم
ذاك المسمَّى و لا اسم غير التيه و السفرِ
من علٍ، يقصد الجهّة ، يؤرخ فيه مقتل الموت
ذُب عن حصنك ، ترقب في المساء دمعة النجم
الشاهد عين، و عين الشُّهود لم تر غير ظُلمة البدر
توجَّس و ارتقب سلاما في لوثة العقلِ
ذاك تيهٌ و تيه النور في عكس المرايا و في فلقة الفجر.
..................
قال السَّالك:
……ثم أن حازما الحجازي أبلغني أن أبا منصور المغربي سيدخل مصر، فأمسكت عن السفر ورابطت في الميناء انتظر عودته، وكان الناس مثلي في اشتياق إليه بعد أن كانت أخباره تصل القاهرة .
وكان مما حمل الناس على الشغف به والتعلُّق . أنَّ سير المتكلمين انعقدت فيه، وجرت الأخبار انَّه قد قارع طائر العنقاء و أرجع الخصب في أرض كانت جدبا وأنَّ أميرة دمشقية فتنت به فحبسته عندها، عقدا لا يغادرها حتى اشتاقت نفسه الرحيل وبطُل ما كان قد أصابه منها من سحر. فعزم على الفِرار في غطاء الليل، وأوعز إلى من اصطفاه من ثقاته أن يجهز له قاربا و إسطرلابا. وقد كان له ما أراد فأبحر وكان البحر نجاتَه، حتى حطَّ على أرض الشِّعر فأصابه فيها داء القول ومحنة المجاز فصار لا يرى الأرض أرضا ولا البحر بحرا، فكان يرتب مكنونات العالم ويركبها و يعيدها في ديباجة الإنشاء و يعيد تسمية الأشياء.
ووصلني مما طفق من الإخبار أن والي القاهرة أرسل في طلبه، لمَّا شح نهر النيل، وأجدب الزرع وكان وصله انه قد لا قى الحلاج في سفر بعيد، وأقام عنده خادما يتبعه حيثما رحل ،.يحرسه ليلا و يأكل فضلة طعامه و يلبس من صوف الخرفان ولا يتزين إلا في العيد حتى أعطاه الشيخ بركته و مسح على وجهه بيده فأصبح يرى مسافة يومين على ظهر بعير، وأشربه لبنا صافيا حتى ابيض منه اللسان، فأصبح لا يقول إلا قليلا و لا يتكلم إلا لماما و لا يحدث إلا إشارة لكنه كان لا يرد إلا سلاما..سلاما.
وصلت بركته الوالي، و علم من ثقاته أن كلامه يفجر الينابيع الغائرة و يجري ماء الأنهار المجدبة ببركة من الله و كرامات هوامه مع السباع وحراسته للخلاء و تمرسه بعراك الجنِّ و كلِّ ذي أيد و بطش واقترابه من الخارقة في بنائه الأبيض الصادح ، فلما ووصلته رسالة الوالي أطاع الرسالة و حن إلى ارض الكنانة و بكى حتى ابتلت ثيابه، و قام في ساعته يمشى إلى مصر على قدميه و رفض أن يسير في راحلة القصر، لكنه أخبرهم انه سيدخل مصر من البحر في الخميس الأول من ربيع الأول....
لكن الناس أقاموا في الميناء الخيام ينظرونه، و تنافسوا أن يكونوا قريبين من رصيف الميناء ليلمسوه و ينالوا بركته ، وكان الناس يفدون كل يوم حتى أن الوالي أمر أن يقطعوا الطريق على الوافدين و يغلقوا أبواب القاهرة بعد أن ضج الخلق .
كنت قد حدثتكم أني قد ألغيت مسيري و قررت في داري أحاول الشعر لمدحه و شكره على كرمه و قيافته أن لب النداء، وجاء في عجل ليروي هذه الأرض ببركته و كراماته، لكني كنت كلما سودت ورقي بالمدح تبخر الحبر و انقسمت الريشة حتى أني جزعت ليلة كاملة لما سرى من خدر في يدي و تبدل الريق في فمي حنظلا ، لكني مكثت على عزمي في مدحه، و قومت شعري سبعا من الليالي احككه و أصلح قافيته، حتى استقام بما قدرني ربي و أعانني ثم حفظته عن ظهر قلب كآني يوم القيه يكون ابن ساعته، حديثا، سلسا. و كانت تلك عادتي لآني لم أكن استطيع الشعر على عواهنه فلم يكن لي فيه طبع.
كان يوم عودته يوما لم تره القاهرة من قبل، ولم تمتلئ فيه الساحات بمثل ما امتلأت ولا غصَّ شارع قبلاً بمثل ما غص، حتى منعت الراحلة و الجمال و الخيل الحمير و البغال عن التجول .
اصطف الناس على مشارف الميناء، و صلوا الفجر جماعة في أماكنهم ثم بدؤوا جميعا التكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وحملوا جرائد النخيل و عمموا ما استطاعوا من عطر. و تزينوا بأحسن أسمالهم
أمر الوالي بخيمة له عظيمة فأقامها عند أول الميناء، و جهزها بالزَّرابي و الطنفاس، و أقام فيها حوض زئبق يبهر البصر و يخلع الفؤاد. وجمع الخاصة من رجاله وأمرهم أن يحسنوا الاستقبال و يكثروا الثناء و يمتنعوا عن الخمر و الجواري و الغلمان أربعين ليلة يقومون فيها الليل إلا قليلا و يصوموا الاثنين و الخميس لان له فطنة و فراسة... .
فلما استوت الشمس في السماء و استقر ت الظلال أسفل الأجسام ،رأى الناس في أفق البحر نورا عظيما، زاد في نور الشمس وسطع فكاد و هو يقترب أن يخفي الشمس في نوره، فبدأ الناس التكبير وهلل الصغار وأطلقت النساء الزغاريد و دق الدف في مدح النبي .
لم يعرف الناس هذا النور وظنوا أنها سفينة مزجت من قوارير و زجاج صلد يعكس الأنوار، لكنهم عجبوا و كادوا أن يفروا من الميناء حين رأوا رجلا شديد بياض الشعر يمشي على الماء و يرسل النور من وجهه. فزادوا التكبير و هللوا وتأخر أهل الحيطة و الشيوخ وراء الخلق واستكانوا إلى الصمت.و قد هلعت قلوبهم من أن يكون القادم الدابة و خافوا أن تكون القيامة قد قامت، فسلم بعضهم على بعض و تمنوا النجاة من فتنة الدجال وأن يلتقوا في الجنة....
...لكن فزعهم غلب طبعهم الخائف، فبدؤوا بالصراخ ورددوا الشهادتين، فلما سمعهم باقي الخلق سرى فيهم الرعب والإشاعة وخافوا سوء المصير فبدؤوا الصياح، وتركوا جرائد النخل و بدؤوا الفرار من المكان واختلط الجمع وتدافعوا حتى داس كبيرهم الصغير و صغيرهم الكبير ومات منهم خلق كثير...
أصبح الميناء مثل ساحة حرب، وأقفر في سرعة غريبة ، وشبح المريد يقترب في بطأ كأنه يمشي و لا يمشي ، يقبل ولا يقبل، و يظهر و لا يظهر. وآثر الوالي أن ينسحب إلى قصره و أمر و زيره بأن يستقبله لكنه تمارض و أغمي عليه من الهلع و الرهبة ...بقي ممددا على الأريكة خوفا من بطشه و من الموت.واخذ أعوانه بيده وأقاموه وهو لا يكاد يبين في كلامه. حتى جاءه الحاجب بأنه قد وصل الميناء فكاد يبكي .
لا يمكن أن أنسى هامة ذلك المريد العجيب. كان حين رأيته كأنه هو ...لا طويلا و لا قصيرا، نحيفا لا يرى عليه أثر الغبار. وكان أول كلامه أن طلب ماءا للوضوء ثم سجد سجدة شكر و قبل تراب مصر، ثم صلى الظهر صلاة فرد و سفر...
أطال الصلاة، ونحن ننظر إليه في لهفة و العساكر يدفعون من بقي من القوم عنه. حتى إذا أكمل الصلاة و دعا تقدم الوزير إليه و البغتة على محياه و طلب منه أن يقوده إلى قصر الوالي لكنه عاجله أنه سيزور قبر أبيه ثم يذهب إلى القصر.
ضل يمشي، و الناس يباعدون له الطريق، و يتركون له السبيل .كان يمشي الهوينى، و لا يسرع الخطى و الناس في حيرة زادها بزيارته المقابر، لما في ذالك من إشارات الموت و البعث ويخافون النفير.
صرت اتبعه، أراه ولا يراني...أو هكذا حسبت، حتى وصل أول القبور، فالتفت إلي وأشار لي و طلب مني أن آتي برجال ليخدُّوا في قبلتها حفرة، وان لا يستعملوا في ذلك لا فأسا ولا معولا وأن يكون ذلك بين العصر و المغرب فانطلقت في ساعتي و جمعت خمسين رجلا ليحفروا بأيديهم فانتظرنا العصر و انطلقوا في الحفر بهمة بعد أن أزجلتُ لهم العطاء .
أما هو فكان قائما على قبر أبيه يبكي بدمع غزير، و يقرأ القرآن وهو لا يكاد يبين من شدة البكاء .حتى إذا جاء وقت العصر صلى و قام يدعوا، ثم سار إلى قصر الوالي فلم يطل عنده المكوث،و طلب منه آن يحسن رعاية أهل مصر و يجزي لهم العطايا و لا يمنع عنهم خراجا و أن لا يخرج للنيل احد، و أن يجمع الناس الأواني على جبل المقطم و يلزموا دورهم يصلون صلاة استسقاء.
ثم عاد إلى المقبرة وكنَّا قد أكملنا الحفر، فدعاني إليه و قبض على يدي ثم أرسلها. و قال : إذا كان يوم غد فاجمع رجلين و أعد ردم الحفرة قبل صلاة الفجر و سوِّها بالأرض فلا يعرفها أحد ولا تلمس رداءا ابيض ستجده هناك....
ضل الناس في ترقب حتى إذا بان خيط النهار أرعدت السماء فجأة، وتجمع السحاب على جبل المقطم و نزل مطر غزير و الناس في دورهم يهللون و يشكرون الله أن أنعم على هذه الأرض بالخير،وحناها بكرامة ابنها ...
أما أنا فاني سهرت الليل أسوي الحفرة حتى استوت ، لا انظر ما فيها من خيفة و إطاعة لأمره حتى إذا أصبح الصبح و تنفس النهار و كف المطر و علا نهر النيل و أتى بطميه؛ خرج الناس في فرح و بهجة وكأن النهار نهار عيد، و طفقوا يبحثون عن ابي منصور المغربي لكن أحدا لم يره بعد ذلك اليوم.
أما أنا فاني رجعت إلى الحفرة فإذا المكانُ ليس المكانْ إذ اختلط علي و لم أجدها، و كان الرجال قد سبقوني مع الناس إلى هناك، وقد سرت الإشاعة أنه قد مات ودفن ، ولكن أحدا لم يعرف مكانها، فمن قائل كانتْ هنا و قائل كانت هناك، وكادت تحدث فتنة لولا أن الناس راو في الأفق نورا يزيد في نور النهار و أدركت بحدسي أنه في سفر جديد...يتبع
..
سعيف علي
تونس 2009
التعليقات (0)