يتوسط القرص الذهبي سماء قريتنا الصغيرة، مسدلاً ستائره علينا بلون يميل لاحمرار، الصمت يخيم علي الأجواء ، لا صوت سوي زقزقت عصافير مازالت تري النور لأول مرة ، تغرد بصوتها الصافي معلنه عن مجيئها .
فجأة من بعيد يعلو صوت ضحكات بنت وصبي صغار لم يتراوح أعمارهم السابعة، يتبادلوا اللعب بكرة حمراء صغيرة .
يمرحوا في سعادة لم يحملوا عبء الحياة بعد ، الحياة عندهم لعب وأكل الحلو ، يشاهدوا الكرتون ويناموا في أحضان أمهم في المساء. فجأة وبينما كانوا يلعب سقطت جارحه قدمها،أسرع نحوها وعينه تملأها الخوف، يمسك الجرح وهو مقطب الجبين .
ساعدها علي النهوض ، حينما رآها تسير عاد الابتسامة لعينه علي الرغم من الألم ،سلبت أمها ابتسامته حينما طلبت صعدها، صعدت وتركته عيونه معلقة علي الشرفة .
ذكرتني عيونه بنفسي أنا ورامي، بيوم كنا نركب الدراجة فجأة سقطت وجرحت قدمي ، حملني يومها للمنزل وهو يبكي ، رأيت نفس الخوف في عين الصبي .
كنا نلهو معاَ ونتشارك أوقات الحزن والفرح، لا نفترق عن بعضنا البعض، لم أتخذ انه قرار بمفردي قط، حتى أصدقائي لم أنكن أخرجي معهم بمفردي، كنا معاً باستمرار، حياتنا واحدة.
رغم دراستي في كلية التربية، ورامي في كلية الهندسة، إلا أننا لم نكن نذهب للجامعة إلا معا ً ، رغم كونه يكبرني عامان، لكن العمر لم يكن عائق أمام صداقتنا.
الأيام تمر كالمعتاد ، وفي يوم لم يكن في الحسبان ، اجتمع أهلينا وبعدما تناولوا قدح من الشاي الساخن ، بهدوء شديدة قال عمي لقد طلب يد أميرة لك ، سيتم الزفاف بعد ثلاث أسابيع .
تملكتنا الدهشة لتكاد توقف قلوبنا، لم يخطر في ذهني يوما ً بأن الزواج هو جامعنا ليس الصداقة والأخوة، الأخوة لا تتحول في يوم وليلة لزوج وزوجة.
جمدت أعيننا تترقب رد فعل الآخر، لم يرفض ..لم يستطع ، فالتقاليد الغبية زجت بنا في بحر عميق ليس له نهاية ، لا أعرف هل سننجو ونكون حياة جميلة ، حياة يملأها الحب والسعادة ، أم حياة فاشلة بلا مشاعر ولا تقبل لوجود الأخر.
مرت الأيام علينا لا نحدث بعضنا ، يهرب كلاً منا من الآخر ، وإذا تلقت الأعين نصمت ، أهذا قدرنا لذا الصمت هو سيد الموقف .
الفستان الأبيض لكم تمنيت ارتداءه، لكني حينما رأيته كأن أمامي سبح الموت، وحينما ارتديته كأنه جم من نار يحرق جسدي.
لم تتوقف عيوني عن البكاء ، كنت أتسأل أحيانا ً لما لم أعشق من قبل ن تودد إلي ِ الكثير فلما كنت أرفض ، أمعقول أني أحب رامي كما تقول أمي ، وأن كان فلما لم أشعر بذلك .
.. .. .. ..
جاء اليوم الموعود أقام والدانا حفل لم نشهد مثلها من قبل، وجوهنا مرسوم عليها سعادة زائفة، لم أنظر إليه.. كنت خائفة .
لم أكن أرغم في تصديق ما يحدث ، تمنيت الوقوف والصراخ ، تمنيت أهرب من هذا الزواج، لما سكت ولم أتكلم ؟! .
الموسيقي تعلو ويرقص الجميع برحاً بموتي ، ألهذه الدرجة لا يشعر أحد بي ، ألهذه الدرجة مستقبلي لا يهم أحد .
فجأة وقفوا وساقونا لموكب جنازتنا ، خلفنا الأهل إلي أن أدخلونا لقبرنا ،غريبان في مكان يملأه الخوف والفزع .
أسأستطع التأقلم مع الوضع الجديد ، أم هناك أحداث ستغير وجهة نظري ، ستجعلني أتقبل كوني زوجة لأعز صديق وأخي الأكبر.
كيف ؟ .. لا أعرف لكني لا أستطع التفكير فعقلي أنهك من كثرة الأحداث، جهزوا الشقة وحفل الزفاف بسرعة ، كانت علي أحسن وجه ، لو كان أحد غير رامي لكنت أسعد فتاة .
كنت مرهقة من الضجة والأهل، مبارك.. مبارك كرهتها من كثرة تكررها ، بمجرد دخولنا هربت للغرفة ، كانت بالنسبة لي حصني من العدو القادمة ، لكن عدوي لم ييأس ، تتبعني ووقف خلفي في صمت مطول .
تشجع وأقترب بهدوء قائلاً: أميرة.. لم أعرف أبداً بأن الزواج هو جمعنا .. أرجو كي أنظري لي ِ.. ثقي بي لا تخافي .. ثقي بي سنظل كما كنا منذ طفولتنا.. أرجو كي أنظري لي ِ .
وضع يده علي كتفي محاولاً طمئنت ،لكن هذا لم يجدي، خفت وارتعشت، لكني تملكت نفسي قائلة بغضب : ابتعد عني .. لا تلمسني فهمت .
فرد قائلاً وهو يبتعد: اطمئني لا تخافي .. لن ألمسك أبداً .. صدقيني لن يحدث إلا إذا تحولت الأخوة لحب.. حبا يدخل هذه الأركان الحزينة.. وإن لم يحدث سأتركك إن أردتي .. لن أجبرك في يوم علي شيء .
اطمئنيت قليلاً وجلست أرتاح لبرهة علي السرير ، بينما جلس رامي علي الكرسي ينظر للسماء أمام النافذة ، يحاول الهرب من النظر إلي وأنا أيضا ً.
لم يتوقف عقلي عن التفكير معقول سينفذ ما قاله، ألن يغير كلامه معي مهما كان، هو رجل وزوج.. معقول !! .
الهدوء والتعب أثقل عيوني، أغرقني في بحر الهروب والنسيان، لتمر ساعات الليل دون أن نشعر، كلاً منا يهرب من الآخر ، لم أري حتى ما تحويه الشقة ، لم يكن يهمني هذا قبري ، لا يهم أن كان مزين أم قاتم .
طرقات الأهل، ضحكاتهم تعلو للأفاق، سعادة تعطلي الوجوه، أتوا ليهنوا علي الزواج الميمون .
أيقظنا علي لأسوء كابوس ، كابوس الزواج كنا نتمنى يكون مجرد كابوس،وحينما نستيقظ نشرب رشفة ماء وننسي ما رأينا .
أسرع نحوي ليوقظني، استيقظت لأجده أمامي، بدأت يوم لا أعرف نهايته من بدايته، تملكتني الرعشة مرة ثانية، في خاطري يجول ماذا يريد مني الآن أتغير كلامه ؟.
انكمشت خائفة منه فقال : لا تخافي .. اطمئني .. سآخذ ملابسي وأبدلها في الغرفة الأخرى .. وأنتي غيري هنا .. أرتدي ملابسي مناسبة لنكمل التمثلية.
نزعنا ملابسنا المزيفة لنرتدي أخري ، ارتديت كأي عروس ولكن لم أكن هكذا ، السعادة لم تكن نابعة من القلب .
هم من أوصلونا لهذه الحالة ، لم يأخذوا في اعتبارهم ما سيحدث لي ، خوف وألم قد يدمرني، يالني من ضحية مجهولة المصير .
سرنا نحو الباب ونحن نرسم ابتسامة مزيفة، دخلوا وضحكاتهم وكلمة مبارك لا تتوقف عن التردد.
جلست بجانبه مبتسمة ابتسامة خفيفة ، خائفة من كل شيء ، ليس من رامي وإنما من مفاجأة هذه الجدران المغلقة ، رامي بالنسبة لي أخ فكيف يكون زوجي .
قال عمي : أأنتم بخير ؟ ! .
فرد رامي : أجل لما أبي ؟! .
فقالت والدتي : وجوهكم شاحبة .
فقال أبي : ما بكي صغيرتي ؟!.
فقالت والدته : من الواضح أنهم متعبين .. هيا بنا كي نتركهم ليرتاحوا .
توقف الكلام فجأة، انصرفوا كأنهم غير مدركين لما فعلوا، ألم يتوقعوا وجودي في فراش المرض.
فقال رامي: لما لا نتناول الفطور معاً؟! .
ــ حسناً سأعده معك .
بينما أتناول الشاي مسك يدي قائلاً: أميرة.. من اليوم سأنام بالغرفة الأخرى .. لكن أرجو كي أبقي الملابس كما هي .. كي لا يشكوا في الأمر.
.. .. .. .. ..
لم تتغير حياتنا لكننا أصحبنا متواجدين معاً أكثر من ذي قبل ، أراه قبل نومي وأول وجه يصبح علي ، نعد معا ً الطعام ، لم أتخيل أن يكون رامي بهذا التعاون .
أحياناً كان يهز قلبي حينما تتلامس أيدايننا ، وحينما شعرت باهتمامه بي في مرضي ، لم يكني أخي الذي اعتدت عليه ، لو تأخر في العودة يقلق قلبي ولا أنام إلي أن يأتي .
ربما كل هذا مجرد مشاعر افتقده ، تخيلت رامي حبيبي وانغمست في الأحلام ليس أكثر ، رامي مجرد أخي ليس إلا .
مر شهر والحال كما هو، لم يتغير سوي استئنافه للعمل، وكان أولي أعمله بعد شهر العسل المزيف تعديلات لسيدة بالقرب.
كانت التعديلات بسيطة لكنها لم تنتهي في الوقت المحدد، لم أسأله عن السبب كلاً منا في وادي.
عيونها لم تتوقف عن ملاحقته، كلماتها ناعمة يصعب تحملها، تتمايل بلا خجل، لا تعرف الحياء، ملابسها تفتقر الوقر.
جاء اليوم الموعود، أخر لقاء نتج عنه كارثة، كارثة ستخلصني من تمثيل الزواج.
تحملق برامي غير مدركه للوقت، تصاعد الدخان من المطبخ، أحترق الطعام، مع الدخان جاءت فرصتي كي أنفصل عنه بسهولة.
هرولت خارجه من المنزل تنادي علي أحد ليساعدها : النجدة .. رامي يحاول الاعتداء علي ِ .. أمسكوا به .
تجمعوا حولها يستمعوا لما ترويه ، مصدقين روايتها الكاذبة ودموع التماسيح ، انتظروا خروجه لكنه لم يخرج فكروا أنه يخاف مما فعل، انتظروا لعل الدخان يجبره علي الخروج لكنه لم يخرج ، لم يكن أمامهم سوي الدخول إليه .
بحثوا عن نافذة ودخلوا، فمحاولاتهم لدخول من الباب فشلت، الباب موصد بقوة، كسروا الزجاج و قفزوا باحثين عنه، ليجدوه فاقد وعيه أمام الباب، حمله أحدهم وأخرجه.
جاء الإسعاف وأخذوه منطلقين ، دوي الخبر وصل إلي ،أسرعت لأطمئن عليه ، أثناء الطريق فكرت في الخبر صدقت ما سمعت.
هو شاب وله طلبات لم أوفرها له ، لما أنا مستاء لهذه الدرجة ،جاء الحل لأنفصل عنه ، كفا تمثيل حياة كل يوم كذبة .
.. .. .. .. ..
يومان من الصمت يرفض الكلام ، تأكدت وقتها من صدق كلامها ، أصريت عليه لم أعد أحتمل صمته .
تكلم وعينه مدمعة ، جسده يرتعش يفتقد الحنان : لم أفعل ما تزعمه هذه السيدة .. رأيتها تجري والدخان يتصاعد من المطبخ .. أردت الخروج معها لكنها ضربتني علي رأسي .
لما فكرت بأنه ممكن يفعل ما قالته ، نحن معا ً بنفس البيت وأنا زوجته مع ذلك ملتزم بعهده معي ، ليس من صفاته الخيانة ولا الغدر، بقيت معه إلي أن أتم شفاءه ، خرج لينتشر إشاعة رامي يغوي السيدة ميرفت ، قبحها لم يمنعه من محاولة الاعتداء عليها .
كنا في طريقنا للمنزل لكنهم أوقفونا ، يلقون علينا كلمات وقحة يندي لها الجبين ، نظرت إليه وأنا عاجزة عن فعل شيء ، فنظرت إليهم وقلت : ماذا يحدث هنا ؟ ! .
رد أحدهم قائلا باحتقار : رامي ألحق العار بنا .. لابد من سجنه.
لم أشعر بنفسي فقلت : سجنه ؟ ! .. هذه السيدة كاذبة .. أعرف رامي مستحيل يفعل ذلك .. مستحيل أنا متأكد.
نظرت إليه لأجد الدموع تتصارع من عينه الحزينة فقلت بصوت منخفض: رامي سأخبرهم بالحقيقة.
فقال رامي : لا تفعلي أرجو كي .. لا تقولي شيء .
فقلت : إذاً أخبرهم أنت .
فقال رامي : لن أقول .. أفضل الموت عن الكلام .
فقلت : أنا سأخبرهم .
فقال رامي : لا تخبريهم .
فقلت بصوت عالي : سأخبرهم ..اسمعوا هذه ظلم .. رامي أنبل رجل رأيته وعرفته .. رامي لم يلمس هذه السيدة .. ليس لأنها قبيحة الوجه .. أنما قبيحة الطباع .. كان .. ..
قطع كلامي محاولاً الحفاظ علي كرامتي : لا أرجوكي .. لا .
فقالت السيدة تحاولي الدفاع عن زوجك .
لم يكن حبي لرامي حب طفولة فقط ، أنما حب العمر الأبدي حب بحثت عنه لكني لم أتخيل وجوده بجانبي .
فقلت بصوت عالي : كان لمسني أنا زوجته .. أنا أجمل منها كما تقولوا .. مع ذلك حافظ علي وعده معي .. تركني في حالي .. كلا ً منا في غرفة .
فقال رامي : كفاية .. أميرة أرجوكي .
فقلت : أتركني .. لم يفكوا حينما أصروا علي تزوجنا .. لم تفكروا في ِ .. كنت خائفة منه .. كان في نظري وحش يريد جسدي فقط.
لكني كنت مخطئة .. في هذه الليلة حينما أغلقتم باب الجحيم علينا ..وعدني نظل أخوة .. وعدني آلا يلمسني إلا حينما نحب بعضنا .. وإن لم يحدث سيتركني .
أما الآن أعلن أمامكم أني أحببته .. أجل تحولت الأخوة لحب أبدي كما أري في عيونه .. حب لن أتركه مهما حدث .
وقف الجميع مندهشين ،حاولت السيدة الهرب خلسة لكنهم أمسكوا بها ، وطلبوا منها أخبارهم بالحقيقة ، رفضت ونظرت للأرض من كثرة الخجل .
بالضغط أخبرتهم بما حدث وهي ترتعش : كنت مدمرة .. فأنا قبيحة ولا يقترب مني أحد .. فكرت ألعب علي رامي .. فعلت كل شيء له .. لبست ملابس شفافة .. جربت الكلام ناعم .. لم ينفع معه أي شئ .
رأيت الدخان فخطر في ذهني هذه الخطة .. لو قلت عليه ذلك وهو متزوج من أجمل فتاة .. أكيد ستتغير نظراتكم لي .. أنتم السبب تعتقدوا بأن الجمال جمال الشكل .. ليس جمال الروح .
شعرت بالإحراج فجريت هرباً منهم ، لم يقف مكانه بل جري ورائي ، قلبه يخفق بشدة لأول مرة ، تغازله الأفكار والمشاهد حول حياتنا السعيدة القادمة .
حياة يغمرها الحب بعد الفراق والألم ، تمنيت الطيران والاختفاء لأبعد مكان معه ، نتمتع بكل لحظة فرت مني بالكره له .
دخل باحثا ً عني ليجدني واقفة أمام الشباك ، أقترب ووضع يده علي كتفي ، أول لمسة تشعرني بالأمان ، لم أخف .. لم أرتعش .. لم أصرخ ، نظرت إليه والدموع تهرول علي وجنتي ، فأرتفع منديل الحب ليمحو حزني .
قال بحنان لا يقاوم : من اليوم هذا الخد لن يعرف البكاء .. لن يعرف سوي لمسة يدي .. ووردة تعانق بشرتك برفق لتزين حياتك .. حينما شعرت بالحب خفت أن يظل من طرف واحد وننفصل عن بعضنا .
فقلت : كلا منا عشق الأخر منذ الصغر لكنه ظن أنه حب طفولة .
التقطت وردة ووضعها بين شعيراتي قائلا ً : بحـــــــبك ..بحـــــبك .. تمنيت قولها حينما شعرت بالحب يخفق بقلبي .. فأقلامي جف الحبر منها من كثرة خطابتي .. لكن لأسف لم تشاهد عين غيري .
فقلت وأنا أنظر للأرض : بحـــــــــبــــــــك .
أسرعت لأعانق أحضانه الدافئة ليشعرني بالأمان ، لتمتزج دقات قلوبنا وتبوح بما عجزت عيوننا وألسنتنا عن ذكره، لحظات تتدفق فيها المشاعر تولد لأول مرة ، طفل بكر يبكي معلن مجيئه لهذا المكان الحزين ، ليحوله لجنة حب .
سبحت في بحر عيونه ونسيت نفسي لأقول : أعرف أنك أجمل حلم رأيته .. وأحلي صدر ضمته .. وأغلي حب دخل قلبي .. فمن اليوم سأكتب شهادة حبنا .. بحـــــــــــــــبــــــك .. ..
التعليقات (0)