مواضيع اليوم

حب إيه اللي انت جاي تقول عليه


حب إيه اللي انت جاي تقول عليه

قبل هذه الاغنية اعتاد عشاق ام كلثوم على الرتم الهادئ في أدائها ومطلع أغنياتها.. «هجرتك يمكن انسى هواك.. وودع قلبك القاسي».. او «حيرت قلبي معاك وأنا بداري واخبي.. قلي اعمل ايه وياك ولا اعمل ايه ويا قلبي».. او ثالثة «أمل حياتي يا حب غالي مينتهيش.. يا احلى غنوة سمعها قلبي ولا تتنسيش».

هذه هي ام كلثوم التي نعرفها، لكن ان تبدأ بأغنية مطلعها صارخ ـ من الصراخ ـ كلمات ولحنا وصوتا «حب ايه اللي انت جي تقول عليه.. انت عارف قبله معنى الحب ايه»، فهذا هو العجب بعينه.. ولو لم نسمع هذه الاغنية من ام كلثوم ونعشقها عشقا، لما كنا نصدق ان «الست» يمكن ان تغني بهذه الكلمات الزاعقة وقد فاض بها الكيل من هذا الذي يدعي الحب وهو ابعد ما يكون عنه.

لو حكيت ـ نقلا عن الموسوعة الاذاعية وجدي الحكيم في اكثر من لقاء ـ كيف كانت ام كلثوم متخوفة من هذه الاغنية لأصابتنا كلنا الدهشة.. كيف قبلت وأدركت بحسها العالي انها ستحقق نجاحا لا يقل بحال من الاحوال عن نجاحاتها السابقة والكثيرة في كل ما أمتعتنا وشدت به.

وحكاية «حب ايه» وقصة لقاء ام كلثوم وبليغ حمدي حكاها ايضا وجدي الحكيم، وبليغ حمدي نفسه حين اتصلت به «الست»، وقد كان أقصى طموحاته ان يسمع صوتها تغني عبر الاذاعة.. لكن ان يرن هاتف بيته و«الست» على الخط الآخر، واقع أفقد «بليغ» صوابه.

فلم يكن بليغ حمدي يحلم مجرد حلم أن تغني له أم كلثوم، صحيح.. هي فين وهو فين؟.. عملاقة من عمالقة الطرب والغناء، كوكب الشرق التي لم يختلف عليها اثنان من المحيط إلى الخليج، العالم كله بشرقه وغربه، وهو ملحن صغير، مبدع نعم.. لكن ان يطمح ويطمع ان تغني ام كلثوم له، فهذا من وجهة نظره وقتها كثير، وكثير جدا.

بداية الخيط «تخونوه»

كان بليغ حمدي يدرك ذلك جيدا وهو الشاب الصغير الذي لم يتجاوز الـ 25 من عمره، وأم كلثوم يلحن لها عمالقة على قدر قامتها في الموسيقى أمثال زكريا احمد ورياض السنباطي ومحمد القصبجي قبل أن ينضم إلى القائمة عبقري آخر هو محمد عبدالوهاب.

وبليغ حمدي وقتها، كان له صديق (انتيم)، هو مؤلف الأغاني الذي ذاع صيته فيما بعد «عبد الوهاب محمد»، كان يكتب وبليغ يلحن، غنت لهما مثلا فايزة احمد كثيرا وعبد الحليم ونجاة، لكن أم كلثوم لم تكن في نطاق اهتمامهما ـ ليس بالقطع تعاليا عليها ـ ولكن من منطلق «رحم الله امرأ عرف قدر نفسه».

وحدث أن قام بليغ بتلحين أغنية «تخونوه» التي غناها عبد الحليم حافظ، وكانت موسيقاها بحق غاية في الإبداع والروعة، لحن يتسلل إلى مشاعرك فيسكنها وتمتلئ به نفسك فترددها وهى تجتر ـ مع صوت عبد الحليم ـ ذكريات ومواقف مرت وأوجاع عانى منها القلب وانكسر.

سمعتها أم كلثوم وسألت: من لحن هذه الأغنية؟

فقالوا لها: شاب صغير اسمه بليغ حمدي.

فقالت: صغير في السن نعم، لكنه بكل المقاييس موهوب، وسيكون له شأن كبير.

ظن من معها أنها مجرد إشادة طيبة منها ليس أكثر، وتخيلوا لو أن بليغ سمع هاتين الكلمتين ربما لم ينم من الفرحة سنة كاملة دون أن يخطر بباله أن هذه الإشادة سيكون لها بقية.

في نفس اللحظة، طلبت أم كلثوم أن يأتوا إليها بهذا (البليغ)، فقال لها احد المقربين: لماذا يا ست؟

ردت: أريده.

قال لها: لو عرف لسقط من طوله من الخوف والفزع.

قالت أم كلثوم: ليه.. شيطان أنا ولا عفريت؟

فقال لها: أنت أم كلثوم وكفى.

كم رقم تلفونه؟.. سألت بجدية

فأعطاها الرقم.

أمسكت بالسماعة وأدارت القرص ليأتيها صوت بليغ بلا اعتناء:

نعم.. مين بيتكلم؟

أزعجتها في البداية بوهيميته فقالت: عايزة بليغ حمدي.

فرد: معاك.. مين بقى سعادتك.

ردت: أنا أم كلثوم.

ضحك وقال غير مصدق، معتقدا أن أحدا يلهو معه: أم كلثوم حتة واحدة.. مش ناقصين استظراف ع الصبح.

وهنا جاءه صوتها غاضبا: أنت يا افندي بتهزر ولا شارب حاجة.. أنا أم كلثوم وعايزة بليغ.

وانتفض بليغ من جلسته وقد أدرك أنها بحق الست، فاعتدل وقال لها: أمرك يا ست الكل، سامحيني لم أتصور ولم يخطر ببالي لحظة أن أفوز بهذا الشرف العظيم، افتكرتك واحد صاحبي بيهزر معايا.

قالت: واحد صاحبك.. ليه.. صوتي خشن للدرجة دي؟

رد: آسف يا ست.. الحقيقة أنا متلخبط، والى الآن لا اصدق أن كوكب الشرق هي التي تحدثني.

«أنا في انتظارك»

هدأت أم كلثوم من هذا الإطراء الجميل وقالت له: أنت (رغاي) أكثر من اللازم، عايزه أشوفك.. ممكن تيجيني؟

وكأن الحروف الأبجدية كلها قد تلاشت من فوق لسانه فقال لها وهو يتلعثم:

تشوفيني أنا يا ست، أنا زعلت حضرتك في حاجة لا سمح الله، ولا حد نقل لك حاجة عني بالغلط؟

أدركت أم كلثوم مدى الاضطراب الذي هو عليه، فأرادت أن تهدئ من روعه وقالت له: «أنا في انتظارك».. ثم وهي تضحك.. بكرة الساعة 9.

ولما كان بليغ يسهر الليل بطوله وينام النهار أيضا بطوله لم ينتبه إلى أن الست تعني التاسعة صباحا، معتقدا أنها كفنانة لا تنام إلا عندما يصحو الناس، فسهر الليل كعادته يفكر في هذا المشوار الذي لا يعرف سببه وفي السابعة صباحا نام على أن يصحو ويذهب إليها في الميعاد.. التاسعة مساء.

ربنا يستر

انتظرته أم كلثوم فلم يأت.. طلبته فلم يرد.. استشاطت غضبا وأرسلت إليه من يعنفه، وفعلا ذهب المرسال إليه فوجده نائما، فأصر على إيقاظه، (فرك) بليغ عينيه ونظر إلى الضيف الثقيل الذي بادره قائلا: الست انتظرتك فلماذا لم تأت؟

قال له: يا عم لسه بدري. الساعة دلوقتي 5، باقي 4 ساعات.

قال له بحدة: موعدك 9 صباحا يا أستاذ.

اعتدل بليغ وقال له بضيق: 9 صباحا، ليه.. حد قال لك إني ببيع لبن؟

لم يرد عليه وقال وهو ينصرف:

بكره 9 صباحا تكون في الڤيلا.. وربنا يستر لما تشوفك الست!

في مساء هذا اليوم قابل بليغ الموسيقار سيد مكاوي في نقابة الموسيقيين وأطلعه على الأمر وكيف يذهب إليها في التاسعة صباحا موعد نومه، رد عليه مكاوي ضاحكا: ولو الفجر وحياة والدك لازم تروح.

قال بليغ: الفجر أهون، على الأقل باكون (فايق ومصهلل)، لكن قل لي يا أستاذ العمل إيه؟

قال الشيخ سيد مبتسما: العمل عمل ربنا، ح تروح.. ح تروح!

دي خناقة..مش أغنية

لم ينم بليغ طوال الليل إلى أن جاء الميعاد فذهب إلى شارع أبو الفدا حيث تسكن أم كلثوم، ودخل محاولا التماسك خوفا من أن تخذله عيناه، فينام عندها، ودخل غرفة الاستقبال، فوجد هناك جمعا من الناس بينهم وجدي الحكيم ـ وكان يعرفه ـ وطلب بنفسه قهوة

(دبل) كي يحافظ على صحوته، وجاءت أم كلثوم وصافحته وعاتبته برقة فاعتذر على سوء الفهم، وسألها باضطراب: حضرتك عايزاني في إيه؟

فقالت له: أنت اللي لحنت أغنية حليم (تخونوه)؟

فقال: نعم.. ولو مش عاجبة سيادتك نمنع إذاعتها من أصله.

ضحكت الست وقالت: بالعكس.. دي روعة.

رد بليغ: ربنا يخليكي.

قالت: عندك حاجة كويسة لي؟

فسأل غير مصدق: لمين يا افندم؟

ردت: أنا مش بحب أعيد السؤال مرتين.

رد بليغ: أنت تؤمري وأنا أنفذ.

بدلال قالت مبتسمة: أنت (اونطجي) كبير.. لأ صحيح فيه حاجة تناسبني؟

فطلب منها بليغ عودا، وبعد أن ضبط أوتاره جلس على الأرض ومد رجليه فقال له احد الحاضرين: عيب يا أستاذ اقعد على الكرسي.

وهو يهم بالوقوف قالت له أم كلثوم: خد راحتك، وخليك على الأرض.

وراح بليغ يدندن على العود بمطلع أغنية «حب ايه اللي انت جي تقول عليه.. انت عارف قبله معنى الحب ايه.. لما تتكلم عليه.. حب ايه ايه ايه.. حب ايه اللي انت جاي تقول عليه».

وانتهى بليغ من المقدمة وسكت، فقالت له ام كلثوم وقد أربكتها البداية: معقولة ابدأ اغنية بهذا المطلع.. ثم وهي تضحك: دي خناقة..مش اغنية.

ظن بليغ انها لم تعجبها.. لكنه فوجئ بها تقول: بس حلوة.. أكمل.

رد بليغ: الباقي لسه يا ست.

ثم سأل مضطربا: إيه رأيك؟

فقالت: مين اللي كتبها؟

أجاب: صاحبي عبدالوهاب محمد.

فقالت: انتوا الاثنين هايلين، تقدر تخلصها امتى؟

فقال بليغ غير مصدق: بجد يا ست عجبتك؟

قالت: طبعا.. انت (جن مصور)!

رجع بليغ إلى البيت يبحث عن أقرب سرير ليضع رأسه وينام، لكن من أين يأتيه النوم بعد كل هذه الفرحة وتلك المفاجأة. اتصل بصاحبه عبدالوهاب محمد وطلب منه أن يأتيه على الفور، وعندما حضر قال له بليغ: ام كلثوم.

فرد: اشمعنى؟

فضحك وقال: جرى ايه يا بوحميد انت (ح تخشلي) قافية.. وصمت لثوان ثم قال: المهم الست ح تغني «حب ايه».

لم يصدق عبدالوهاب محمد وقال له: معقول يا بليغ تجبني ع الصبح عشان تهزر معايا؟

فأقسم له انه لتوه عائد من عندها قائلا: طاقة السعد وانفتحت.

«انت فين والحب فين»

وكان عبدالوهاب محمد قد كتب الأغنية كاملة وأعطاها لبليغ ليرى اي صوت من الأصوات ـ غير ام كلثوم طبعا ـ يصلح لغنائها، أما بليغ فقد تحمس حماسا غير مسبوق وراح يكمل اللحن الذي شدت به أم كلثوم ليعيد إلى صوتها شبابه وهي تغني وكأنها ابنة العشرين..

«أنت ما بينك وبين الحب دنيا.. دنيا..

دنيا ما تطولها ولا حتى بخيالك..

وكانت هذه الأغنية التي تعتبر من أجمل أغاني الست بداية موفقة وناجحة بين بليغ وام كلثوم ولحن لها بعد ذلك انا وانت ظلمنا الحب ـ الحب كله ـ انساك - سيرة الحب ـ فات الميعاد ـ الف ليلة ـ كل ليلة وكل يوم - حكم علينا الهوى - بعيد عنك - وهذه الاغنية من الاغنيات القريبة جدا من قلب ام كلثوم شخصيا، وكانت تؤثر فيها كلمات النهاية:

عيون كانت بتحسدني على حبي

ودلوقتي بتبكي عليا من غلبي

وفين انت.. يا نور عيني

يا روح قلبي.. فين فين

فين اشكيلك فين

عندي كلام وكلام وحاجات

فين دمعك يا عين

بيريحني بكايا ساعات

بيريحني بكايا ساعات.

وماتت ام كلثوم ومات بليغ والشناوي وعبدالوهاب محمد، لكن الابداع أبدا لا يموت.. الصوت الرائع يخلد والموسيقى الحالمة تبقى والكلمات التي تخرج من القلب تظل عامرة في كل القلوب.

«أنا وانت ظلمنا الحب»

كان اللقاء الثاني الذي جمع الثلاثة: ام كلثوم وبليغ وعبدالوهاب محمد «انا وانت ظلمنا الحب»، وهى اغنية من اغنيات الست الرائعة، وقد حكى عبدالوهاب محمد يوم ان جلس مع ام كلثوم يقرأ لها الكلمات ان اوقفته حين قال «وضاع الحب ضاع ما بين عند قلبي وقلبك ضاع» وقالت له: احذف الياء والكاف.. فقال لها: مش فاهم.. ردت:.. خليها ما بين عند قلب وقلب ضاع.. فسألها: ليه يا ست؟ ردت: مادام العناد وصلنا لهذه المرحلة يبقى لا ده قلبي.. ولا ده قلبك.. ملحوظة بسيطة، لكنها في غاية الذكاء والفطنة من فنانة عظيمة.. حذف ياء من الاولى وكاف من الثانية غيّر المعنى وجعله اكثر تعبيرا وجمالا ومصداقية.


«أنساك.. ده كلام»

وهذه الاغنية التي لحنها بليغ عاد بها الشاعر الجميل مأمون الشناوي الى ام كلثوم بعد تباعد سنوات طويلة، حين عرض عليها اغنية «الربيع» التي غناها فيما بعد فريد الاطرش وارادت ان تغير بعض كلماتها لكنه رفض، وعاد اليها بعد سنوات بأغنية «أنساك»، وكان قد ادرك كم خسر كمؤلف ان يخلو تاريخه من غناء ام كلثوم له، وحين سمعت ام كلثوم «انساك» اعجبتها جدا ولم تطلب حذف او تعديل كلمة واحدة منها فقال لها مأمون: معقولة يا ست.. مفيش حذف او اضافة؟ فقالت له: لأ يا مأمون.. حقيقي غنوة حلوة وكلها احساس.

وكان زكريا احمد قد بدأ في تلحين هذه الاغنية، الا انه رحل ولم يكن قد وضع الا موسيقى المقدمة فقط، فطلبت الست من بليغ ان يكمل اللحن، فحافظ بليغ على البداية الموسيقية وأكمل من ابداعاته بقية الاغنية

الأنباء الكويتية
GMT 0:24:00 2010 الأربعاء 16 يونيو

القاهرة - أحمد عفيفي

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !