لاريب ان السعي لتشبيه الحالة البعثية في العراق و بمختلف عواملها و خلفياتها و تداعياتها السلبية بالحالة النازية في المانيا، وان يك هناك ثمة تطابقات محددة لکن التمعن في أساس و جوهر الحالتين، تثبت لنا بأن الحالة النازية قد جوبهت برفض عالمي مطلق و حتى انها في المانيا ذاتها قد جوبهت بنفس الدرجة القطعية من الرفض، أما فيما يتعلق بالحالة البعثية في العراق، فإنها وإن جوبهت بنوع من الرفض العالمي لکنه لم يرق الى درجة الاجماع وبقيت العديد من الدول و التيارات السياسية بين متحفظة او رافضة لذلك التعامل، کما ان النظر و التدقيق في المشهد العراقي نفسه، نجد انه وماعدا الکورد، فإنه ليس هناك إجماعا عراقيا کاملا لرفض حزب البعث و الاتفاق على سن ثمة قانون معين يضع حدا نهائيا له و للأفکار و القيم التي يدعو إليها کما هي الحالة في المانيا، بل وان هناك من بين الشيعة أنفسهم شرائح إجتماعية کبيرة مازالت تٶمن بالبعث و تفضله على کافة الاحزاب الاخرى و ترى فيه منقذا و سبيلا وحيدا للخلاص من حالة الفوضى السياسية الحالية التي يشهدها العراق ناهيك عن ان السنة تکاد ان تکون و بغالبية شبه مطلقة تنحاز للبعث و تٶيده بلا هوادة، أما النظر في الدول العربية و الاقليمية، فإن الوضع يلفه شئ واضح من عدم التطابق و الاتفاق مما يمنح الحالة البعثية مزيدا من المرونة و الثبات لحيازة بطاقة التأهيل من جديد.
لقد کانت فکرة إجتثاث البعث من أساسها فکرة غبية و فاشلة ولم تقد إلا الى تقوية و دعم هذا الحزب و رفعه من قفص الاتهام الى واجهة المجني عليه، والذي ساهم اکثر في الاخفاق الذريع لهذه الفکرة الانفعالية، هو انها کانت اساسا فکرة سطحية و فوقية ولم تتم صياغتها وفق سياق تشارك فيه مختلف شرائح الشعب العراقي وليس تيارا سياسيا او شخصية سياسية محددة هي اساسا موضع الاتهام و الشبهة، وبتصورنا ان النظر المجدد بإعادة إحياء لهذه الفکرة من خلال إعادة صياغتها هو المستحيل بعينه لأن الظرف المٶهل و الملائم لذلك الامر قد کانت فرصة ولم تنتهز بطريقة حکيمة ولذلك فهي قد"مرت مر السحاب"کما يقول علي ابن ابي طالب. هذا من جانب، من جانب آخر، يکاد ان يکون هنالك إجماعا من مختلف التيارات و الاحزاب السياسية العراقية على أن مسألة إجتثاث البعث لم تعد عملية و لم تحقق أهدافها المطلوبة على الارض ولأجل ذلك فإنه وعلى النقيض من ذلك تماما تقفز فکرة إعادة تأهيل البعث محلها وهي قضية باتت تطرح على أکثر من صعيد و تلاقي نوعا من الترحيب، لکن قوى و تيارات سياسية عراقية(شيعية و کوردية بوجه خاص)، مازالت ترفض هذه الفکرة و تعارضها بشدة متناسية ان قوة هذه الفکرة هي تماما بنفس قوة النفوذ الايراني في العراق وهي قد صارت خيارا قويا لمواجهة هذا النفوذ و إحتوائه او على الاقل ورقة ضغط يمکن أن تٶدي دورا کبيرا و فعالا في المعادلتين السياسيتين العراقية و الاقليمية، وان فکرة إعادة تأهيل البعث و إشتراکه في العملية السياسية، عملية و تخدم القضية العراقية من النواحي الامنية و غيرها أکثر من بقاءه ممنوعا و خارج العملية السياسية، وانه من المفضل و المستحسن منطقيا ترك الشعارات البراقة و الافکار الانفعالية جانبا و التفکير بهدوء و روية في القضية والاعتراف بأن حزب له جذوره التأريخية الطويلة و الراسخة في العراق و مازالت شرائح کبيرة من المجتمع العراقي تٶمن به، ليس من المنطق حذفه او إقصائه بهذه الصورة الفوقية وغير العملية من الواقع العراقي، وان الوقت قد حان لتفکير عقلاني واقعي يستمد اساسه وقوته من المرتکزات الوطنية لإعادة هذا الحزب الى الساحة وان إلقاء الکرة في ملعب البعث أفضل بکثير من بقائها متراوحة في مکانها في ملعب القوى السياسية العراقية الرافضة للبعث.
ان دعوتنا لمحاورة البعث ليست دعوة إنفعالية او کلام عرضي نطرحه لمجرد معالجة حالة طارئة وانما هي دعوة جدية ستفرض نفسها عاجلا أم آجلا وکلما تقادم الزمن کان الامر في صالح البعث من حيث التفهم و المساندة الجماهيرية لموقفه، ولو کانت القوى الشيعية قد نجحت في تقليم الاظافر الايرانية و حددت مسافة واضحة و بينة بينها و بين النفوذ الايراني و إتبعت نهجا أکثر إنفتاحا على السنة، فإن الوضع کان سيکون حتما بصورة مغايرة تماما وحتى لم يکن للبعث أي منفذ او رئة يتنفس منها، لکن حدوث العکس و مانجم عنه من أحداث و تداعيات و مستجدات أضفت تعقيدا و ضبابية على المشهد الوطني العراقي قاد و يقود الى الدعوة الى إعادة تأهيل هذا الحزب و إشراکه في اللعبة السياسية ويقينا ان ذلك الامر يجب أن يسبقه کما أردفنا في القسم الاول من مقالنا هذا، إجراء حوار مفتوح بين الجانبين، إذ ان کل منهما يدعي أنه يمثل طموحات و امان الشعب العراقي، ومن کان کذلك حقا فإنه يجب أن تکون لديه الشجاعة الکافية لإجراء حوار مکشوف و يبث للشعب العراقي بصورة مباشرة وهناك ليطرح کل طرف دعاويه بأسلوب المنطق والحجة و الدليل وليس بالتفخيخ و القتل و التفجيرات الدامية او بالتضييق و القمع الطائفيين.
حاوروا البعث وامنحوه تلك الفرصة التي منعها و حجبها عنکم، وان کنتم تٶمنون بالديمقراطية حقا فيجب أن تمنحونه هذه الفرصة بدون شروط تعجيزية مسبقة(والحالة نفسها للبعث من حيث مايدعيه من وطنية و حرص على المصلحة الوطنية)، وسوف تدرکون جميعا أنکم للمرة الاولى في تأريخ العراق تحققون منجزا وطنيا بمعنى الکلمة وقطعا کلما کانت النية من أجل العراق و شعب العراق فسوف تکون النتائج باهرة و مفيدة و عملية.
لم أکن ولو للحظة واحدة في حياتي بعثيا وافتخر بذلك، وبالنسبة لي هذا الحزب يمثل شيئا و حالة مضادة لکل ماأحمله وأٶمن به من أفکار و قيم، لکنني لاأتمکن أبدا من سحب حالتي على المشهد العراقي وإدراکا مني لما أستشفه من سياق الاوضاع و تداعياتها ومن مسٶوليتي أمام وطني العراق، وجدت نفسي مٶمنا بطرح هذه الفکرة التي باتت مختلف القوى الاقليمية و الدولية تفکر بها وتجدها واحدة من الخيارات المناسبة لحل القضية العراقية من جذورها.
التعليقات (0)