تنبه الجيران لرائحة كريهة تصدر عن شقة شبه مغلقة لجارهم شبه المعتكف على نفسه لا يعامل .. ولا يصاحب .. ولا يزامل .. ولا يجامل أحداً .,. حتى أن أفراد أسرته لم ير الجيران أياً منهم دهراً طويلاً من العمر ..
طرق الجيران الباب .. لم يفتح أحد .. كسر الناس الباب.. واقتحموا الشقة .. فهالهم المنظر المأساوي !..
وجدوا جثة الأب ممددة وهي في حالة تيبس وقد بدأت في التحلل .. بينما أفراد الأسرة من زوجته وأولاده انكمشوا مرتجفين في حالة خوف وهلع من دخول الناس عليهم ..
مات الأب الذي كان حاكماً على أسرته بصرامة أشبه بالحديد والنار .. مانعاً أفرادها من الخروج .. أو الاتصال حتى بهواء العالم الخارجي .. عالمهم تحدد في جدران شقتهم ..
ضمرت أجسادهم .. ونحلت أبدانهم و.. اصفرت وجوههم .. و انحصرت علاقتهم بالناس في والدهم الوسيط بينهم وبين الحياة ..
فلما مات الوسيط انقطعت صلتهم بالحياة ولم يستطيعوا حتى التفكير في كيفية التصرف في جثة والدهم الذي توفي وسطهم !.
لم يكن هناك أحد آخر في حياتهم سوى والدهم ليستعينوا به على قضاء حوائجهم.. أو نجدتهم .. أو تسيير أمور حياتهم حال غياب الأب الوقتي أو الأبدي .. فبقيت الجثة وبقوا هم حولها جوعى ومشلولي الحركة و.. الفكر .. والتصرف !..
فزع المجتمع بأكمله لهذا الحادث رعباً وهلعاً .. وانقسم الناس بين ناقم .. ولاعن.. وساخط على الأب المتجبر المتسلط .. والمتجرد من كل معاني الأبوة والإنسانية إلى الدرجة التي يمنع فيها الحياة بألوانها عن أفراد أسرته ويبقيهم فقط على حافة العيش بالطعام والشراب ولا يعذره في ذلك حبه (المرضي) لأسرته أو احتجاجه بالخوف عليهم من التشرد أو الضياع في متاهات الحياة أو أنه كان يسعى ويكل ويتعب في سبيل توفير ما تحتاجه أسرته من طعام وشراب ومأوى وملبس ..
بينما تلوى المجتمع أسفاً وحسرة وتعاطفاً مع أفراد الأسرة (البؤساء) الذين حرموا متاع الحياة وحرموا التواصل مع العالم الخارجي من جيران العقار أو حتى جيران الشارع الذي يقطنون فيه ولا يعرفون فيه أحداً ..
علاوة على حالة التراخي .. والتواكل.. والجهل و.. الاعتلال الصحي .. والهزال البدني و.. الضعف الشديد الذي اعتراهم إلى الدرجة التي لا يستطيع أحد منهم أن يباشر أمور حياته اللصيقة والبسيطة أو أن يواجه الناس .. أو أن يتعامل .. أو أن يتفاعل معهم.. أو أن يميز الطيب منهم من الشرير.. أو أن يركن إلى صديق .. أو أن يحذر من عدو !!.. ببساطة فقدوا أدنى درجات الاعتماد على النفس ..
انقلب علماء النفس .. وعلماء الاجتماع .. والأكاديميون.. والخبراء يملأون الفضائيات والصحف ووسائل الإعلام..
يفسرون الأسباب .. ويشرحون العلل .. ويحللون شخصية الأب الاستبدادية والسيكوباتية المتسلطة والمتجبرة رغم حنانه على أسرته والتزامه بالانفاق والحفاظ عليها ..
كما ذهبوا إلى التعمق في تحليل شخصيات أفراد الأسرة وأسباب رضوخهم لسلطة الأب الباطشة .. و كذا أسباب عدم محاولتهم التبرم أو التمرد على والدهم وسر استكانتهم .. وركونهم إلى الخنوع .. والخضوع الذي تحول من الكراهية إلى الحرص على استمرار الحياة على وتيرتها في ظل تسلط وتجبر وتعسف وبطش الأب !!!
بل وانتابتهم حالة من الفزع من حدوث أي شيء يخل بآلية هذه الحياة وتلك المعيشة التي يحيونها .إلى درجة خوف ورعب الأسرة من أن يحيق ب(الأب) سوء أو شر أو مرض فساعتها تضيق بهم الحياة .. موقنين أن أرواحهم جميعاً معلقة بحبل السماء !!
راجين.. وداعين "بإخلاص" للأب (المتسلط المتجبر) بالشفاء وبزوال السوء عنه !!..
فهم لا يعرفون غيره .. ولأنهم يخشون الضياع بعده .. فهو دنياهم التي يحيونها .. وهو حياتهم التي يعيشونها .. وهو خبرهم الذي يقرأونه .. وهو صحيفتهم التي يطالعونها ..
هو باختصار مركز حياتهم وبؤرة اهتمامهم .. لذا حينما مات .. شعروا جميعاً أن أعمارهم انتهت بموته .. وأن لا حياة لهم بعده ..
لذا بقوا متحلقين حول جثته التي تمددت .. وتيبست ..و انتفخت . . حتى فاحت روائح تحللها الكريهة وزكمت أنوف الجيران الذين هرعوا ليكسروا باب الشقة عليهم ...
هذه حادثة حقيقية حدثت في أحد ألأحياء الشعبية في مصر منذ أشهر ليست بالبعيدة ..
علماء النفس والخبراء يبحثون السبيل إلى إعادة تأهيل أفراد هذه الأسرة .. و كيفية إدماجهم في المجتمع من جديد.. وحساب مدى التأخر العقلي والفكري والثقافي والحضاري والاجتماعي والتعليمي والصحي الذي أصابهم نتيجة العزلة والاعتكاف والحرمان من التواصل مع المجتمع الخارجي .. والمدة التي يتطلبها إعادة تأهليهم .. والمدة التي سيبدأ فيها عمر كل منهم الحقيقي ..
كما قلت .. هذه قصة حقيقية حدثت في أحد أحياء مصر ..
قصة تخص أسرة ربما لا يزيد أفرادها عن خمسة أو سبعة أو حتى عشرة أفراد ..
لكن أحداً ربما لم يجرب أن يضعها تحت عدسة (الزوم) المكبرة ليغطي بها مساحة أكبر ورقعة أوسع من مساحة الشقة ورقعة الحي أو الشارع الذي وقعت فيه هذه الحادثة ..
لم يجرؤ علماء النفس وخبراء الاجتماع على اعتبار هذه الحادثة أو هذه القصة ربما تصلح نموذجاً ومثالاً يتم تدراسه واستخلاص نتائجه وقياسه على حالات أخرى تقل وتزيد .. و تضيق وتتسع حتى ربما لتغطي أسراً وعائلات "كبيرة" وعديدة يتم تعدادها بالملايين تعيش في وسط أكبر من وسط الحي الذي وقعت فيه تلك الحادثة !!!!!!!!!
التعليقات (0)