حاجة العرب إلى الدعاة
الدّاعية-على ما أعتقد-هو حامل فكر غالبا ما لا يكون من إبداعه،لكنّه يؤمن به ويتحمّس له ويعتنقه رسالةً يُناضل من أجل تبليغها والترويج لها بقدرات مشهود له بها في الخطابة والتواصل مع الآخرين والتأثير فيهم والانتقال بهم من حالة التساؤل والتردد أو اللامبالاة إلى حالة الانخراط في مضمون رسالته والاسهام في تجسيمها...
في مجتمعاتنا العربية يعلو صوت دعاة السلطة الحاكمة مقابل صوت رافض لها لدعاة لا يعكسون في غالبيتهم إلا ظاهرة الاحتقان والاحباط وانسداد الأفق التي عليها الشعوب...هؤلاء الدعاة الرافضون يتحلّون بقدر وافر من الشجاعة والثبات والصبر والتضحية وبمواهب تمكّنهم من النفاذ إلى جمهور عريض من المهمّشين والمحرومين والمظلومين والحاقدين وإلى نخبة محدودة من المثقّفين،لكنّ فكر رسالتهم أو بالأحرى رسائلهم المختلفة ينشغل،أساسا،بأدبيّات الرّفض والتمرّد والثورة على الأوضاع القائمة دون الاهتداء إلى أطروحات متماسكة تُرسي قواعد الانتقال من المرفوض إلى المنشود،فيتحوّل الرفض،في حدّ ذاته،إلى هدف والحال أنّه مطلوب ليُمارَس من أجل هدم بناء ثبت أنه ليس آمنا من أجل تشييد بناء آمن...هذا البناء الآمن المنشود هو الذي يُبشّر به الدّعاة الرافضون عن طريق خطاب دعائي لا يختلف في جوهره عن خطاب دعاة السلطة المهينمة الحاكمة إلا على مستوى أنّ هذا الأخير معاش فاقد للمصداقية(خطاب السلطة) وأنّ الأول مؤمّل يستمدّ مصداقيته من المؤجّل تنفيذه(الخطاب الرافض)...ومن هنا تنشأ مشكلة الالتباس في خطاب الدعاة المعارضين للسلطة القائمة وتختلّ موازين القوى بينهم،أنفسهم،وتميل كفّتها،غالبا،لمن يكونون منهم أكثر تطرّفا في شحن دعاويهم بظلال عقائدية مقدّسة أو وضعية،وهو شحن يجد ما يُبرّره للجمهور المتقبّل للرسائل الدّعوية وللدّعاة أيضا،ذلك أنّه:
-بحكم العطب الذي تشكو منه قنوات حرية التعبير والحوار الجدي،وبحكم العطل الذي عليه نسيج مؤسسات المجتمع المدني،تتضاءل فرص فرز وانتقاء الجيّد مما ينتجه الفكر الانساني عامة والفكر العربي تخصيصا لاتصاله بالبيئة والقضايا العربية،فلا يطفو على السطح ليستقطب إلا الفكر المتّسم بوصفة "المنقذ من الضّلال" من جهة أو الفكر "المنقذ من الاستعباد" حتّى إن كان استعبادا مقدّسا من جهة أخرى.
-بحكم حالة التأزّم التي عليها الشعوب العربية،فهي أميل إلى الاصغاء للدعاة المعارضين الراديكاليين المتطرّفين منها إلى العقلانيين الواقعيين.
-بحكم ما يتعرّض له الدّعاة المناوئون للسلطة من تضييقات واضطهاد وتنكيل فإنّ حالتهم النفسية تدفعهم إلى أن يكونوا أكثر ميلا لاعتناق الخطاب الراديكالي والاحتجاج العنيف،في حين أنّ الذين يتحمّلون الأذى وهم صامدون على قناعاتهم المتماسكة بعقلانية مستنيرة-على قلّتهم-غالبا ما ينهارون تحت وطأة جحيم الأعداء وخيبة الأمل من خذلان الأنصار والأصدقاء،فينكفئون على أنفسهم،أو يتنكرون لقناعاتهم ليتحوّلو إلى دعاة للسلطة أو للمعارضة المتطرّفة(لا خيار آخر متاح لهم).
الدّعاة ليسوا بالضرورة مفكّرين بل هم غالبا ما يكونون حمَلة أفكار ليست من إنتاجهم،لكنهم يعتنقونها وبفضلهم تنبض بالحياة وتنمو وتُثرى...والأفكار،مهما كانت عظيمة وعميقة،تُولد ميّتة ما لم تجد من يعتنقها ويناضل من أجل تسويقها وتجسيمها،وأحسب أنّ الفكر الإنساني والعربيّ تخصيصا ليس عقيما بل هو ثريّ بالإبداعات الرّاقية القادرة على فتح أفق نهضة عربية حقيقية...المشكل،أغلب الظنّ، ليس في الإبداع الفكري كما أنه ليس في الجماهير العربية،إنّما هو في جسر الوصل بين تلكم الأفكار العظيمة والشعوب الرافضة لواقعها البائس المتعطشة للتغيير-والتغيير قد يقود إلى المجهول-
الدعاة المناضلون هم جسر الوصل بين المفكرين والجماهير،ومكانة الدعاة حساسة ومتقدمة وخطيرة،فهم صانعو التحولات والثورات...وكي تأتي جهودهم الخارقة والحماسية أكلها المرجوّة،يجب أن تتوفّر لهم في بيئتهم ظروف ملائمة لانتقاء ما يصلح من أفكار لتطلّعات شعوبهم،وهو ما اهتدت إليه،أو إلى بعضه،الدول المتقدّمة من آليات محفّزة تُجْملها في تسميات كالديمقراطية وحرية المعتقد الديني والفكري ومؤسسات المجتمع المدني...وحيث أنّ مجتمعاتنا العربية لم تفلح في استيراد هذه الآليات أو في إنتاج آلياتها التي تؤمّن شروط التعايش السلمي بين الأفكار وفقا لقاعدة الغلبة منها للأصلح أو الأفضل أو الأقلّ سوءً بقرار الأغلبية أو أهل ذكر تختارهم الأغلبية،فإنّ دعاتنا "المضطهدين" يُرجّح وأنصارهم أن ينحازوا لفكر جهادي تحت غطاء ديني أو علماني،والفكر الجهادي قد لا يكون شرّا كلّه متى انبنى على رؤية لا تُحوّل التطرّف والعنف إلى ممارسة عبثية تهدم وتوفّر الضمانات اللازمة لأسس بناء يقوم على تعايش الأفكار بغثها وسمينها دون غبن وقرصنة واحتقان،وهي ضمانات ليس من الهيّن توفيرها...
ماذا والحال تلك في الوطن العربي الكبير؟..
لم أرصد إجابة متفائلة غير التخمين في أنّ يظلّ الأمل معقودا على أن تتحوّل غالبية أفراد الشعوب العربية إلى دعاة مناضلين يحملون همّ التغيير للأفضل ويدفعون ثمنه كما تدفعه إليه أقدارهم ناهلين من الفكر العربي والإنساني المستنير ما يُسلّحهم بفضائل التضامن والتسامح والصبر ومغالبة شرّ الظالمين بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والمقاومة السلمية والاصرار على الإصلاح،أي اعتناق فكر جهادي سلمي يبدأ بتغيير ما بالنفس بتعويدها على المجاهرة برفض الاستبداد والدفاع عن حرية الخصم توازيا مع الدفاع عن حرية الأنا...
للشعوب العربية اليوم ما يكفي من الدعاة المتوترين الرافضين لواقع مجتمعاتهم المكفهرّ الذين يُروّجون لفكر عنيف متطرف في مواجهة فكر قامع داخليا ومنافق عالميا،مما بات إزاءه لزاما معالجة هذا الوضع الرهيب بتنامي الدعاة الذين يدْعون أنصارهم إلى إنفاق الجهد النضالي من أجل تدبّر الأمر بأسلوب آخر غير أسلوب التحريض على الكراهية والحقد والعنف،وأزعم أن في تراثنا العربي كما في إبداعات مفكرينا الحداثيين والمعاصرين ما يُمْكن التّزوّد به.
التعليقات (0)