أهديها إلى الأخ: جمال الهنداوي، عرفاناً بإشارته الجميلة لشخصي في إحدى تدويناته.
أصرّت مريم على أن أزورها وأجلس معها لدقائق في بيت أختها، لتتعرف عليّ أكثر. كانت قد أعدّتْ لهذا اللقاء هي وابنة خالتها لطيفة وأختها:
- سيذهب زوج أختي إلى المدينة المنورة بعد المغرب، وقد أخبرتُ أختي عنك. هي لا تُمانع في مجيئك.
وبذات الهدوء الذي صعدتُ به سلم بنايتهم في المرة الأولى كنتُ أصعده هذه المرّة بعد أن تأكدتُ أن زوج أختها قد رحل. حين وصلتُ إلى الباب الموارب قامتْ بسحبه لتدخلني، كانت تلبس بلوزة زرقاء شفافة وتنورة قصيرة سوداء. أتذكر أنني قلتُ لها إن خمسين ألف امرأة يتم اغتصابهن سنوياً في جنوب إفريقيا لأنهن يلبسن تنانير قصيرة، ثم طمأنتها أن الأمر لا يحتاج في شرقنا إلى تنورة قصيرة بل إن جلباباً أسود طويلاً لا يمنع من حدوث شيء كهذا. ضحكت وعانقتني، ثم تقدمتني لتدلني على المجلس. أجلستني وانصرفت، لتعود حاملةً حذائي الذي قامتْ بوضعه تحت إحدى الطاولات المجاورة لباب المجلس، وانصرفت من جديد لتعود مع ابنة خالتها لطيفة.
لاحظتُ طولها قياساً إلى ابنة خالتها الثلاثينية التي لم تُطل الجلوس، ثم خرجت. التصقتْ مريم بي بعد أن تأكدتْ من إغلاق الباب، شعرتُ للحظة أن أنفاسها تعبر قلبي، تلاشى صوتُ رفيقاتها اللواتي كنّ في الغرفة المجاورة عندما همستْ:
- لم أتوقع أن تغامر من أجلي.
الحق أنني لم أكن أعلم من منا كان يغامر في تلك الليلة، أنا أم هي، أم أن أختها هي من تضع زواجها في مهب الريح:
- كنتُ واثقاً من أنك جميلة، لكن لم أكن أدري أنك جميلة إلى هذا الحدّ.
ابتسمت وهي تقول:
- لم ترني جيداً تلك الليلة؟.
- رأيتُك بوضوح، لكنني لم أتذكر بعد أن غادرتُ إلا شعرك الطويل، كان يمتدّ من منزلك إلى يوم ولادتي.
اقتربتْ منّي أكثر وقبّلتني، نعم، بلا مقدماتٍ وبلا عواصف تمنع شفتيها من أن ترسو على شاطئ شفتيّ المطبقتين، كانت قبلتها حارقة وطويلة إلى درجة أنني احتضنتها وأنا أحاول الاحتماء بصدرها من هذا الجنون. كانت المرّة الأولى التي تُقبلني فيها فتاة. لا، مريم لم تكن فتاة، إنها أشبه بأسطورة فتاة في قصيدة رعوية، تماماً كجيني التي كانت تتخلّق في خيال الشاعر الإنكليزي جيمس هنت:
"عندما تقابلنا قبلتني جيني،
قافزة من المقعد الذي كانت جالسةً عليهِ؛
الزمن, أيها اللص, يا من تحب إضافة
الأشياء الحلوة إلى قائمتك, أضف تلك كذلك!
قل أنا مرهق , قل أنا منهك , قل أنا حزين,
قل بأن الصحة والثروة كم ضلتا طريقهما عني,
قل بأن العمر يركض بي نحو المشيب,
لكن أضف,
بأن جيني قد قبلتني".
كنتُ أغيب عن العالم إلا عن ارتعاش ورطوبة شفتيها، وكان قلبي قد توقف طوال اشتعال هذه القبلة الأبدية التي لم يغادر طعمها فمي منذ تلك الليلة إلى هذه اللحظة. لا أدري إن كانت قد قبلتني من جديد أم أن قبلتها الوحيدة تلك هي ما تمدد ليشغل زمناً كان خارج الزمن قبل أن يُطرق الباب. حين فتحتْ الباب كانت لطيفة تقف وفي يدها كأسين من عصير البرتقال، حاولتْ بشغب أن تدخل لكن مريم تناولت العصير وشكرتها، ثم أغلقتْ الباب.
وضعت البرتقال على الطاولة، وتنهدتْ:
- مسكينة لطيفة، حظها سيء.
- لماذا؟
هذا ما قلته لأبدو متعاطفاً معها، والحق أنني بالفعل أتعاطف مع لطيفة لأنها فتاة "إشارات مورس" كما كنتُ ومريم نسميها.
- تزوجتْ ابن عمها، لكن..
سكتت، وبدا أنها تختار الكلمات المناسبة لتكمل:
- في أول ليلة اكتشف زوجها أنها غير عذراء!.
لم أعلق، لتواصل حديثها:
- لم ينزل منها قطرة دم واحدة، تعرضتْ للضرب من زوجها ومن أبيها الذي صعقه الأمر.
سألتُ:
- هل ذهب بها أحد إلى الطبيب ليتأكد من أنها بالفعل ليستْ عذراء؟.
- زوجها لم يبال بكلام الطبيب وطلقها بعد أيام قليلة من الزواج, ونتيجة لهذه الحادثة وما لحقها من ضرب مبرح أصيبت لطيفة بمرض نفسي, كانت عائلتها كلها محطمة, أما هي فأصبحتْ تحمل العار, وتتمني الموت.
ثم أضافت:
- أختي هي صديقتها المقربة، تقول إنّ لطيفة كانت متدينة جداً قبل الزواج، وتحفظ ما يزيد عن عشرة أجزاء من القرآن. لكنها الآن على ما تراه من حال.
قاطعتها قائلاً:
- لا أدري، فقط أراها لطيفة مثل اسمها تماماً، وأحبها لأنها عرفتني إليك.
قالتْ مريم:
- منذ سنوات وهي لا تعبّر إلا عن نقمتها على هذا المجتمع واستهتارها به، وبالمناسبة هي مطلقة منذ أكثر من عشر سنوات وتعيش مع أخيها المتزوج. لقد صارتْ لا تهتم بـ مع من تخرج، ولا بما سيوصلها إليه هذا الطريق.
حينها فكرتُ أن الأخلاق هي أداة القتل لأرواحنا اللطيفة، إنها أبجدية من يصنعون شقاءهم بأيديهم. أفكر أنني كنتُ مهتماً بهذا الجانب أكثر مما يجب. كل رفيقات مريم استمعتُ إلى قصصهن التي لا تختلف عن قصة لطيفة إلا في بعض تفاصيلها. فتياتٌ حالمات وبريئات، جميعهن يعتقدن أن الحياة طريق مستقيمة واحدة منذ الولادة وحتى الممات، إلى أن يتزوجن بطرقٌ غبية ومتشابهة، عندها يدركن أن الدائرة هي الطريق الأصلح لإكمال حياتهن بلا مشاكل. نعم، الدائرة هي أكثر الطرق أماناً بالنسبة للفتيات في السعودية، حين يكتشفن أنهن مجرد ملكية تتناقلها الأيدي، وأن أدق ما يخصهن كفتيات ليس أكثر من جواز مرور بين عالمين، عالم ريبة وظنون ما قبل الزواج، وعالم اليقين المطلق بعد الزواج، هذا اليقين الذي لا يحمل إلا خيارين اثنين، إما أن تكون شريفة أو أن تكون عاهراً، بغض النظر عما كانت تفعله قبل زواجها، أو ما ستفعله بعده.
قلتُ معلقاً على عبارتها الأخيرة:
- إذن صارتْ تواعد الشباب وتخرج معهم؟
ضحكتْ بأسى وأجابتْ:
- ما الغريب في ذلك، لطيفة ليستْ أكثر من عاهر في نظر كل من يحيط بها، حتى لو نزل عليها الوحي لن تكون إلا عاهراً. ولأنها لا تتوقع أن يغفر لها أحد خطيئةً لم تقترفها أبداً فإن الأمر وصل بها إلى درجة أنها قامتْ بوضع قوائم لأصدقائها من الشباب، قوائم قصيرة بالطبع. منها قائمة لذوي المال، وأخرى للوسيمين، وثالثة للظرفاء، وهكذا.
تساءلت بدهشة:
- كل هؤلاء أصدقاء لطيفة؟
- لا، بعضهم أصدقاؤها، أما البقية فوضعتهم في القائمة عن طريق صديقاتها. ألا تدري أن بعض الفتيات يتبادلن أرقام هواتف الشباب ويقمن بتصنيفهم حسب ما يتمتعون به من صفات. ويصل الأمر إلى درجة أنهن يبعن مثل هذه القوائم إلى بعض المهتمات ممن هن خارج دائرتهن.
ضحكتُ وسألتها:
- في أي القوائم ستضعينني؟، وهل ستمنحين لطيفة حق الاستفادة من رقم هاتفي؟.
ردتْ وهي تمشي باتجاه جهاز التسجيل:
- لا، أنت خاص.
وقبل أن أسأل عن معنى "خاص"، أضافتْ:
- يعني لي وحدي.
وأدارت جهاز التسجيل، كان صوت محمد عبده يتدفق حاملاً أنشودة المطر إلى الفضاء الذي كان مُشبعاً بعطر أنفاسها اللاهثة وهي تتمايل مع موسيقى عميقة كزخَّات المطر.
امتدتْ الدقائق التي كانت مريم قد قررتها للقائنا إلى أكثر من ثلاث ساعات. علمتُ منها، فيما بعد، أن زوج أختها عاد لأمر ما إلى المنزل بعد دخولي إليه بأقل من نصف ساعة، وأن أختها أخبرته أن هنادي تستقبل صديقاتها في المجلس. عندها فهمتُ سرّ وضع حذائي تحت الطاولة، كما أدركتُ مدى ما كنا نقوم به، أنا ومريم وأختها، من مغامرة.
فصل من كتابي "الرواقي" الذي سيصدر قريباً عن دار جدار للثقافة والنشر.
التعليقات (0)