مواضيع اليوم

جيل الثمانينيّين في الشعر المغربي بدون طبولٍ تُقْرع له!

محمد احمد

2009-05-29 08:34:08

0

 

الثمانينيّون بدوا في قصائدهم وشهاداتهم والنقاشات التي تحدّثت عنهم جيلاً شعريّاًّ غامضاً وسيّء الحظ!

 

عبداللّطيف الوراري

بذخ فاس وحدبها:

  كانت الأمسيات الشّعرية، التي نظّمها بيت الشعر في المغرب أيام 22 و23 و24 من مايو/أيار بقلب مدينة فاس، باذخة بكلّ معنى الكلمة، وذلك بعدما تهيّأت السبل اللوجستيكيّة والرمزية لإنجاح مثل هذه التظاهرة الثقافية التي اعتاد البيت على تنظيمها في مثل هذه الأوقات من كلّ عام، وتمثّلت مهمّتها في النّهوض بأوضاع الشعر المغربي، والتعريف بممثِّليه الأساسيّين والحديثين من شجرة نسبه الرمزية نقديّاً، بعدما انتعشت داخل التداول الصحافي القراءات الانطباعية والمغرضة، وانسحب إلى العتمة والصمت قطاع مهمّ من ذاكرة الشعر الذي لا يعرف عنه المغاربة شيئاً كأنّما هي اللّعنة تطرده، وتُطارد شعراءه بالأدواء والخيبات. لكنّ لفاس، المدينة التي ارتقت إلى مستوى الرّمز في رؤيا الشاعر المغربي تاريخيّاً، حدب الأمّ على أبنائها وحفاوتها بأنّاتهم أنّى غنّوا.

إستهلال بالشّعر وتحيّة تكريميّة إلى الفائزين بجوائز ديوان:
إنطلقت الأمسيات التي احتضنها مركّب الحرية الثقافي، بكلمة رئيس الييت الشاعر نجيب خداري الذي عبّر عن قيمة الأمسيات في زمنها، وعن أهمية الاحتفاء بالشعر المغربي الذي تأتّى له أن يدفع بحداثته إلى الأمام، لافتاً إلى الاعتراف الذي بدأ يحوزه شعراؤه بعد نيلهم جوائز عربية ودولية لها رمزيّتها التي لا تخفى. فيما حصر عميد كلية الآداب و العلوم الإنسانية بفاس الناقد عبد الرحمان طنكول كلمته في إبراز ضرورة الشعر الّذي ينتصر للجمال في زمن القبح والرداءة، وليس هناك من داعٍ آخر أكثر من هذا يدفعنا للاحتفاء بالشعر باعتباره مأوى الكائن الإنساني في الوجود الذي يعبره.

وبمناسبة فوزهما بجائزة ديوان الشعرية التي يمنحها اتحاد ديوان الشرق الغرب ببرلين، قدّم الشاعر الزجّال مراد القادري باسم بيت الشعر في المغرب إلى الجمهور، الشاعرين عبد اللطيف الوراري وإدريس علوش الّذين ألقيا نصوصاً من ديوانيهما الفائزين "ترياق" و"آل هؤلاء"، بأنفاسٍ حرّى صحبتْها معزوفات صامتة على العود.
جيل الثمانينيات في الشعر المغربي: نصوص، شهادات ونقاشات نقديّة:
ولأنّه محجوبٌ ومنفيٌّ في الأنفاق، فكّر بيت الشعر المغربي في "جيل الثمانينيات"، ذلك الجيل الشعري الذي كانت مَهمّته في سيرورة التحديث الشعري داخل القصيدة المغربية مُهمّة للغاية، ولا يمكن لأيّ كان أن يهوّن من قيمة منجزه الإبداعي في أكثر من صعيدٍ، بنائيٍّ ودلاليٍّ.
إلى جانب الشهادات المؤثّرة والنصوص الشعرية المعبّرة التي تراوحت مضامينها بين الهمّ الذاتي والجماعي بأبعاده القومية والوجودية، وألقاها أهمّ شعراء الجيل الثمانيني بمختلف حساسيّاتهم وأساليب كتابتهم الشعرية ورؤاهم للحياة والعالم من أمثال محمد الصابر، محمد علي الرباوي، محمد عزيز الحصيني، أحمد الطريبق، ثريا ماجدولين، محمد بوجبيري، بوجمعة العوفي، أحمد هاشم الريسوني، محمد بودويك، عبد السلام المساوي، محمد حجي محمد، الزهرة المنصوري وعزيز الحاكم؛ كانت قد التأمت الدورة الأكاديمية حول"جيل الثمانينيات في الشعر المغربي المعاصر" صبيحتي السبت والأحد، بمشاركة عددٍ من أهمّ نقّاد الشعر المغاربة بمن فيهم بنعيسى بوحمالة، حسن مخافي، خالد بلقاسم، نبيل منصر، عبدالعزيز بومسهولي، يوسف ناوري ويحيى بن الوليد، الّذين طرحوا في مقارباتهم تصوّرات مختلفة ومتنوّعة [تاريخية، نقدية وفلسفية] ترفي النظر إلى مفهوم الجيل وما يأتي منه في التأريخ للشعر المغربي وحداثته.

في الجلسة الأولى من الدورة التي أدارها بالناقد خالد بلقاسم، لافتاً إلى إنّ الجيل الثمانيني يمثّل "ضلعاً منسيّاً" في قراءات الشعر المغربي بقدرما أنّ نقد الشعر نفسه عموماً ليس في مستوى الإمكانات التي تقترحها القصيدة المغربية الحديثة، شارك النقّاد بنعيسى بوحمالة وحسن مخافي وعبدالعزيز بومسهولي بأوراق نقديّة توتّرت أسئلتها في تناول الموضوع، وهي تستشكل مفهوم الجيل، وتستعيده، وتعيد إنتاجه.
يرى الناقد بنعيسى بوحمالة أن "الجيل" يبقى مصطلحاً إجرائيّاً للتعرّف في القراءة، وهو ما يمكن معه أن نتحدّث عن أجيالٍ داخل الشعر المغربي، بعد أن تتبلور على رأس كلّ عقد زمني فئة أو شريحة شعريّة، معتبراً أنّ الاهتمام كان منصبّاً في السيرورة الشعرية بالأساس على الجيلين الستّيني والسبعيني، وذلك لاعتباراتِ تاريخية وأخرى ترتبط بالريادة والتأسيس والجرأة في إطلاق مسلسل التجريب الحداثي، فيما الجيل الثمانيني تعرّض لسوء الحظّ، فلم ينل شعراؤه اهتمام سابقيهم، وهو ما مثّل بالنسبة لهم "ضريبة رمزيّة". وعدّد الناقد خصائص شتّى ولافتة أتى بها المنجز الشعري لجيل الثمانينيات، متوقّفاً عند تجربتي حسن نجمي ومحمد عزيز الحصيني. ومن جهته، قدّم الناقد حسن مخافي قراءة بانورامية للشعر المغربي في الثمانينيات، قائلاً إنّ جيل الثمانينيات ترعرع وسط الخيبات والانتكاسات السياسية والاجتماعية التي عرفها المغرب، وهو الجيل الّذي واجه العالم ب"عراء إيديولوجي"، ولم يعد يحسّ بفداحة ما حوله، واجداً في قتل الأب إثباتاً للذّات. ولم يفُتْه أن يشير إلى أنّ عقد الثمانينيات حقّق تراكماً على مستوى الإنتاج الشعري غير مسبوق، وصعوداً متنامياً لشكل قصيدة النثر وإن كانت لم تُثِرْ نقاشاً مفترضاً، وصنّف الشّعر في هذا العقد إلى اختيارين: إختيار أفقي يتمثّل في النزوع إلى اليومي والبسيط الذي يرتوي من معين المعرفة، واختيار عمودي يرتقي بالقصيدة إلى ملكوت الرؤيا والتصوُّف. أمّا الناقد المتشبّع بروح الفلسفة عبدالعزيز بومسهولي فقد كان منشغلاً في ورقته بإعادة بناء مفهوم الجيل الذي يقوم، في نظره، على التجربة البينيّة أو البيذاتيّة، ولا يعني التطابق مع غيره من الأجيال السابقة أو الحاضرة، بقدرما يستمدّ قوّتَه من الحاضر في علاقته بالتاريخ وبالعالم. ورأى أنّ الثمانينيّين حرصوا على إبراز موقفهم الشعري، وذهبوا إلى تجييل تجربتهم بما تنطوي عليه من تفردُنٍ واختلاف، مستعيداً تجارب كلّ من محمد بوجبيري ومحمد بودويك وصلاح بوسريف.

وفي الجلسة الثانية التي أدارها الناقد عبدالرحمان طنكول، شارك النقّاد خالد بلقاسم ونبيل منصر ويوسف ناوري ويحيى بن الوليد بمقاربات وقراءات غلب عليها الحذر المنهجي والاستقصاء المعرفي، وذلك لاستشكال مفهوم الجيل داخل تصوُّر الشعر نفسه. في مقالته الموسومة ب"الانحراف بهواجس الكتابة: أحمد بركات نموذجاً"، أشار الناقد والشاعر نبيل منصر إلى أنّ متن الشعر المغربي موسَّع لا يسمح باستقصائه على نحو يُحيط بجُمّاع تجاربه، وأمّا جيل الثمانينيات فإنّه يُراكم الصمت على نحو أكثر مأساويّة، داعياً إلى ضرورة وصل سؤال الشعر بالمعرفة لأجل إعادة بنائه ممّا يقودنا إلى إنتاج معرفة شعريّة لا تُهادن السائد، بعد أن رأى أنّ مفهوم الجيل يعمل ك"سياج سوسيوثقافي" يحشر مجموعة من الشعراء ضمن رؤيةٍ تمنح النصوص تراتبية أكثر مما تؤمن لها تمايزاً، ويظلّ مُنْشدّاً إلى ماضيه أكثر منه إلى المستقبل. وداخل خارطة هذا الجيل بما تمثّل حداثته المختلفة من أسبقية التجربة وانفتاح الشكل والدلالة، يستعيد نبيل منصر تجربة أحمد بركات التي تكشف عن توتُّر داخلي موصول بمهاوٍ وجوديّة وإحالاتٍ ميتافزيقية، ممثِّلاً بشذرات من ديوانيه "أبداً لن أساعد الزلزال" و"دفاتر الخسران" حيث الذّات تحيا شعريّاً فيما هي تُقيم رؤياها في المجهول.
وبالحذر ذاته، رأى الناقد يحيى بن الوليد أنّ الجيل ليس مفهوماً إجرائيّاً فحسب، بل هو يعكس نمط تصوُّر للحياة والعالم، لافتاً إلى أنّ جيل الثمانينيات أتى في سياق مغربي وعربي وعالمي مختلف بالمرّة، وهو جيلٌ غير متجانس ومسكونٌ بالدهشة أمام واقع يتحوَّل، مثلما هو جيلٌ بدون طبولٍ تُقْرع له. واعتبر أنّ هذا الجيل بدأ منذ أواسط السبعينيات ولا زال مستمرّاً حتى اليوم، إلّا أنّه سيّء الحظّ لم يدافع عن نفسه كما يجب. وفي مداخلته التي تستضيء بعبارة "الأمانة بالفهم" لابن عربي، دعا الناقد خالد بلقاسم إلى "خلخلة مفهوم الجيل بالإنصات إلى الممارسة النصّية"، وذلك لأنّ مفهوم الجيل أصبح "حجاباً" يُعمّي أكثر ممّا يكشف. ومن ثمّة، رأى في تفكيك المفهوم وقلبه وتحريره من "وهم القطائع" ضرورة وليس ترفاً، لأنّ ذلك يفضي إلى الاحتراز من تصنيف شعراء ضمن هذا الجيل تبعاً لمجرّد انطباعات، أكثر من أن يُبنى ذلك التصنيف وفق استقصاء نصّي يستند على الوعي يخصوصيّة الاختلاف المدعوم بفرضيّات نصّية، وهو ما دعاه إلى استحضار "الصحراء" للشاعر حسن نجمي، مركّزاً على اليوميّ فيها وما يتخلّله من الماء والحرب، داخل لغة متعدّية تعبر إلى الخارج دون أن تهجر الذّات، ومتسائلاً: ما علاقة حسن نجمي بجيله الذي ينتمي إليه؟ وما علاقته بشعراء آخرين من الجيل نفسه مثل مبارك وساط أو مجمد بوجبيري؟. ولا يختلف خيار الناقد خالد بلقاسم كثيراً عن خياره زميله يوسف ناوري الّذي اهتمّ في ورقته بما يجعل القصيدة تخرج من جيلها ظافرةً، بعد أن رأى أنّ جيل الثمانينيات يتضمّن اختلاف الممارسات الشعرية، مستخلصاً من ديوان "على انفراد" لحسن نجمي الذي قاربه مجموع الخصائص التي تميّز أسلوبه الكتابي والتخييلي، وتنتظم رؤيته للعمل الشعري [إيقاع الذّات، الاحتفاء باليومي،البناء السردي..].
لقد وضعت الحلقتان النقديّتان ّجيل الثمانينيات في الشعر المغربي" في مهبّ الأسئلة من جديد، بقدرما أضاءته وكشفت فتوحاته النصّية. إنّنا، بالفعل، أمام جيل شعريّ مختلف وحقيقي ترك قصيدته، بمختلف تلويناتها وحساسيّاتها، تهجس بالسؤال وتستشكل واقع الذّات والناس، فيما هي كانت تصغي بشكل خاصّ ونوعيٍّ إلى الزمن الذي عبرتْهُ بزخمها وأسئلتها، زمننا نحن.

ـ لقطات مؤثّرة:
ممّا لفت الجمهور، خلال أمسيات فاس الباذخة، حضور الشاعر المغربي محمد السرغيني لكلّ فعاليات التظاهرة، وقد شُوهد وهو في الصفّ الأمامي يُغالب الهواء ليسمع ما يأتي من الكلمات، وهو يحاور الشعراء بمحبّة وصفاء نادرين، وهو يُدلي برأْيٍ شريفٍ بخصوص علاقة الشعر بالتصوّف الذي استحال استخدامه من المتهافتين "موضة". مثلما استمعوا بخشوع وصمت إلى الشاعر محمد علي الرباوي وهو يُنْشد قصيدته "أوراق ملكية" بلازمتها "لك الحمد" المفعمة بالحبّ والإيمان، والسارحة في تجليّاتها الروحية. وبنفس الأثر، استمعوا إلى شهادة محمد الصابر التي قال إنّه كان يتكلّم حتى كتب "الجبل ليس عقلانيّاً"، وإلى شهادة الشاعر محمد بوجبيري الذي بيّن، ببلاغةٍ لا تُضاهى، كيف كانت تجربته في الشعر والحياة تجربةً حدّية بين الأمازيغية والعربية وبين المشرق والغرب، وكذلك إلى قصيدة بوجمعة العوفي الصادمة "بغداد مدينة يخصبها اليورانيوم"، التي استهلّها بحكمةٍ من شعر محمد السرغيني: ” أحلى ما يفعله الهارب أن ينسى رجليه”.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !