عزمنا نحن الصحبة من الجيل القديم أن نذهب يوما (منذ ثلاث سنين تقريبا) إلي صيد السمك من بعض المصارف الزراعية ومساقي الماء بعد أن تركنا هذه الرياضة أو الفسحة أو التسلية سمها ما شئت منذ أكثر من ثلاثين عاما...خططنا أن نذهب إلي نفس الأماكن التي كنا نمارس فيها هذه الرياضة ...كان من بيننا صديق يتمتع بالذكاء المشهود فرأي أن نصطحب بعضا من الشباب.... حين تحركنا من مدينتنا الصغيرة توقعنا أن نري بعض التغيير في هذه الأماكن بحكم التطور واتساع المدن والقرى ....سلكنا الطريق المؤدي إلي خارج المدينة والذي كان لا يزيد عن كيلومترين من آخر بيت في مدينتنا ...وآخر بيت صار الآن في وسط المدينة... ونظرا لأننا ابتعدنا سنين عن موطن الميلاد وجبنا الأرض شرقا وغربا بل وخارج الدولة لم نكن علي علم بأن مدينتنا الصغيرة أصبت مفرودة علي سطح الكرة الأرضية كأنما دهسها كل معدات نقل الأتربة والمداحل (المداحل في الخليج هي الهراسات في مصر) أو (وابور الدكة) في لغتنا القروية القديمة...نعود إلي المدينة التي دهستها المعدات .. كنا بالطبع في حاجة إلي دليل من الشباب لنتمكن من الخروج من المدينة لتعدد المخارج وتغيير المعالم فقد اندثرت بعض الشوارع واستجدت أخرى وتحولت بعض الطرقات الترابية إلي شوارع مرصوفة تكتظ بالسيارات والمحلات وورش السيارات ومحلات البقالة والخضر وكل أنواع الدكاكين والحوانيت(جمع حانوت ) وهي كلمة قديمة معناها باللغة الحديثة دكان أو محل صغير....بعد أن تجاوزنا آخر مبني في البلد فوجئنا باندثار كل المصارف التي نعرفها في محيط بلدتنا العزيزة لتحول أكثرها إلي منازل وعمارات أسمنتية حلت محل المصارف والمزارع كما أن المزارع أخذت شكلا آخر يفتقر إلي جمالها الساحر وجوها الصافي وهوائها النقي وخلوها من أكياس البلاستيك التي تسافر مع الريح إلي كل بقعة من الأرض كما تمتلئ بمخلفات المباني في القرية السابقة ولا نري شجرة التوت التي كنا نجلس تحت ظلها الوارف ولا شجر الصفصاف علي النهر الكبير الذي يأتي من القاهرة متفرعا من النيل العظيم ...لقد تغير كل شيء...ولما رأينا أن ما في ذاكرتنا ليس له وجود تقريبا, سألنا الشباب ...يا شباب أين المصارف والمساقي التي تصطادون فيها نحن لا نري شيئا مما كنا نعرف...فقالوا سوف ترون سريعا مصايد جيدة فلا تستعجلوا ... رضخنا للنصيحة وتابعنا السير ساعة كاملة تقريبا حتي لم نعد قادرين علي مجاراة الشباب في السير ويبدو أنهم لاحظوا تباطأنا في السير فتمهلوا قليلا حتي لا نشعر بالإحراج أو نتراجع عن الصيد في ذلك اليوم ...وصلنا بعد جهد كبير إلي ترعة (نهر صغير) تتفرع من النهر الآتي من القاهرة العزيزة ...قالوا لنا هنا السمك....وهنا الصيد.... فاستبشرنا ثم بدأنا في فرد المعدات وتجهيز الطعم لنبدأ الصيد الممتع كما كنا في السابق ونحن نتخيل السمك وهو خارج من الماء معلقا في السنارة لنفرح ونسعد كما كنا في شبابنا.... بدأ الشباب بجوارنا في الصيد ..ونحن بدأنا كذلك...ولشدة العجب رأينا السمك الخبيث يذهب إلي الشباب فيخرج مع سناراتهم يرقص.... ونحن الكبار جالسون ننظر في تأمل !!..... لماذا لا يأتي السمك عند سناراتنا نحن الكبار؟..... أليس عنده احترام لشيباتنا؟.... كانت السنارة في يد الشيخ تتحرك أحيانا بما يعني أن السمك يأكل الطعم وللأسف تخرج كل مرة خالية...آه ...السمك ليس كما كنا نعرف... لقد تعلم وأصبح ماكرا يصعب صيده إلا بيد هؤلاء الشباب الذين تطور علمهم مع علم السمك....بل إن مكرهم يفوق مكر السمك..... وتوسعت خبراتهم للتعامل مع هذا السمك الذي لم يعد سليم النية كما كان أسلافه ... هكذا تطور السمك والبشر معا ....فلا السمك مثل سمكنا القديم...... ولا الشباب مثل ما كنا في شبابنا القديم..... ثم عدنا من صيدنا جميعا نتسامر ونهنئ الشباب الذين لم ينسوا أن يهدونا صيدهم إكراما لنا وعطفا
التعليقات (0)