بقلم/ مـمدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
في مواجهة الترهيب تكون هناك حاجة إلى إسناد الآراء التي يمكن أن تستفز الطغاة إلى اسم كبير، وفي رائعة ثروت أباظة "شيء من الخوف" اضطر مأذون القرية الذي عقد قران "عتريس" و"فؤادة" الباطل إلى الاختباء خلف اسم الإمام أبي حنيفة ليقول لعتريس إنه هو من يقول إن "جواز عتريس من فؤادة باطل".
وفي مواجهة مختل شديد الخطورة هو وضع الفن في الواقع المصري: السياسي والثقافي والأخلاقي قد لا يكون هناك مفر من الاختباء وراء فيلسوف أمريكي كبير، وهو ليس من جماعة الإخوان المحظور ولا من جمعية التغيير الشريرة ولا من حركة 6 إبريل المشكوك في نواياها ولا....
وقد أرسل الناشر المتميز الأستاذ منير يس جزر كتابه "الحرية والثقافة" راجيا مني تقديمه والتعليق عليه ليعاد نشره مرة أخرى، وهي مهمة أظن أنها ستحسب لهذا الرجل الذي أعاد للحياة بعض عيون الأعمال الفكرية التي صدرت قبل عقود.
طالعت الكتاب فإذا هو تحفة فكرية ممتعة، لكن الأهم أنه يعالج قضايا نطروحة بقوة في واقعنا المصري الراهن، فضلا عن أنه يجيب عن أسئلة طالما أثارت جدلا ورفضت كل الإجابات الاجتهادية التي قدمت لها بوصفها إجابات ظلامية معادية للحرية والتنوير والفن والتقدم والإبداع وحرية التعبير..... وحدث ولا حرج!
ومن الحقائق المهمة التي يقرها جون ديوي قوله: "لقد أخذنا نُدرك أنَّ الانفعالات والخيال أقوى أثرًا من المعلومات ومن العقل في تشكيل الرأي العام وتكوين عواطف الناس وميولهم". وبالتالي فإن مناقشة الأعمال الفنية بوصفها أحد العوامل الرئيسة في تشكيل الرأي العام ليس محاكمة للفن ولا عداء للفنانين ولا عدوانا على أية حرية بل هو منظور للمحاسبة تؤكده تجربة الأمم.
ويقول جون ديوي أيضا إنه: "لم يكن من المألوف اعتبار الفنون الجميلة جزءًا هامًا من الأحوال الاجتماعية التي تؤثِّر في المؤسسات الديمقراطية وفي الحرية الشخصية.....ومع هذا فقد تحمَّلنا الأوضاع القائمة في الدول الاستبدادية الجماعية على مراجعة أنفسنا بشأن هذا الرَّأي، فهي تُبرهن لنا على أنه مهما كانت آراؤنا في الدوافع والقوى التي تُحفِّز الفنان المُبدع على مزاولة عمله، فإنَّ آيات الفنِّ وروائعه إذا خرجت إلى حيِّز الوجود كانت من أقوى وسائل الاتصال في استثارة الانفعالات وتكوين الآراء؛ فالمسرح والسينما ودور الموسيقى وعارض الصور والفصاحة والاستعراضات الشعبية والألعاب الرياضية الذائعة بين أفراد الشعب، وكذلك عوامل الترفيه والتسلية والاستجمام؛ كلّها أُدخِلت ضمن التنظيمات واللوائح بوصفها أجزاء من عوامل الدعاية التي تُستغَل في إبقاء الديكتاتوريات قائمة من غير أن يعدَّها جمهور الشعب طاغية قامعة .. لقد أخذنا نُدرك أنَّ الانفعالات والخيال أقوى أثرًا من المعلومات ومن العقل في تشكيل الرأي العام وتكوين عواطف الناس وميولهم.
والعبارة الأهم في كلام ديوي هو قوله: "لو استطعنا أن نُشرف إشرافًا صحيحًا ناجعًا على الأغاني التي تنتشر في أُمَّةٍ ما ووجَّهناها التوجيه الصحيح لَما كنا بحاجةٍ إلى أحدٍ يضع لنا القوانين!"
إن السطوة الكبيرة للفن في الثقافة المصرية خطر يجب أخذه بجدية أكبر والأدوار السياسية المباشرة وغير المباشرة التي تلعبها الأعمال الفنية هي مما يجب أن يكون في قلب أي حوار في الشأن العام وأي مسعى للإصلاح السياسي. والمطالبة بتقييم الأعمال الفنية بالمعايير كافة الأخلاقية والمعرفية والسياسية والتربوية ليست حقا وحسب بل هي واجب، غضب من غضب ورضي من رضي.
وعملية الإزاحة الضخمة التي شهدتها مصر ليصبح الفن المرشد الأول والمعلم الأول والمصدر الرئيس للخيال الاجتماعي والسياسي هي عملية تحكم سياسي في المجتمع. وقد تمت عملية تفكيك لدور المدرسة والأسرة والمسجد (وقد أفلتت الكنيسة إلى حد كبير من هذا المصير بسبب استقلاليتها عن الدولة). وإلى جانب التفكيك تمت إزاحة المقروء (الكتاب) لحساب المرئي والمسموع (الأغنية والدراما) بشكل كاسح، ومن فعلوا كانوا يعرفون أنهم بذلك يحكمون قبضتهم على عقولنا وأخلاقنا وحاضرنا ومستقبلنا. وكل من حاول التساؤل عن مشروعية ما يحدث تكفَّـل به "الإرهاب التنويري" الذي استطاع أن يجعل الفنان في مرتبة من "لا يسأل عما يفعل"، وحاشا لله أن يكون!
وعلى فكرة.. .. .. جون ديوي هو اللي قال!
التعليقات (0)