جودي فوستر وميريل ستريب وأشياء أخرى . للكاتب / إبراهيم أبو عواد . جريدة القدس العربي اللندنية 6/3/2012
1
عندما كنتُ مراهقاً شاهدت فيلماً أمريكياً بمحض الصدفة. وكان عنوانه " صمت الحِملان " بطولة جودي فوستر وأنتوني هوبكنز . وعرفتُ فيما بعد أن الفيلم حصد خمس جوائز أوسكار . وقد أدهشني الفيلم بسبب قصته المعتمدة على التحليل النفسي ، والعلاقة بين العبقرية والأمراض النفسية من جهة ، والعبقرية والجريمة من جهة أخرى . فالنظرةُ النمطية السائدة عن الأفلام السينمائية أنها تعتمد على الغريزة والعُري وتخاطب الجسد لا العقل . أمَّا هذا الفيلم فكان فكرياً بامتياز .
وفي تلك الفترة بدأتُ جمع المعلومات عن جودي فوستر ( وُلدت عام 1962م /فازت بالأوسكار مرتين )، وقررتُ أني سأتزوج جودي فوستر عندما أكبر من أجل الوصول إلى العالمية_ رغم أنها تكبرني بعشرين عاماً _. فقد كنتُ أعتبر نفسي خليفة دودي الفايد وحامل لواء الرومانسية العربية في المحافل الدولية . وبالطبع كنتُ ساذجاً وغارقاً في أوهام فترة المراهقة والانبهار بأضواء الشهرة والمجد . ورغم كل هذا لم أفكر في مطاردة جودي فوستر بأي شكل ، لأنها كانت تطاردني في المنام .
2
وقد اكتشفتُ أن الطريق إلى العالمية لن يتم بالسير على خطى دودي الفايد ، بل بالسير في درب العلم والفكر والفنون الإبداعية الراقية . فالكاتب اللبناني الشهير جبران خليل جبران يقول إنه رأى صورة الإمام الغزالي في إحدى كنائس فينيسيا لأنهم يعتبرون الغزالي من أعمدة الفكر الإنساني الروحي . وفي إحدى المقابلات التلفزيونية قال الروائي البرازيلي العالمي باولو كويليو إن أفضل وسيلة لتعريف العالم بالحضارة العربية الإسلامية إنما تكون من خلال فنون هذه الحضارة . وهذا الكلام صحيح تماماً ، فالفن هو القوة الناعمة التي تفتح قلوب وعقول الآخرين بلا حرب ولا قتال .
3
إن هذه الخواطر تداعت على ذهني بعد حفل الأوسكار الأخير . فحصول الممثلة السِّتينية ميريل ستريب على جائزة الأوسكار الثالثة في مسيرتها عن تجسيدها لشخصية المرأة الحديدية مارغريت تاتشر ( رئيسة وزراء بريطانيا بين عامي 1979م _ 1990م ) ، جعلني أفكر في زعمائنا السياسيين وعلمائنا وأدبائنا الذين صنعوا حضارتنا على مر العصور ، لكنهم لم يجدوا من يُجسِّدهم في التلفاز والسينما ، فظلت إنجازاتهم بعيدة عن الجماهير .
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فإن المخرج العالمي مصطفى العقاد قد جاب عدة دول عربية باحثاً عن تمويل لفيلمه "صلاح الدين" لكنه عاد صِفر اليدين، لأن العقلية العربية لم تجد في هذا الموضوع وسيلة لجني الأرباح !، ولم تهتم بالأبعاد الحضارية لهذا الموضوع وتعريف العالَم بإنجازات القادة العرب والمسلمين . وهكذا نجد أن حضارتنا تنعى حظها بين أهلها العاجزين عن تقديرها ومواكبة تأثيرها .
4
إن الأمة العربية عاجزة عن تقديم حضارتها وقضاياها وثقافتها للعالَم لأنها لم تهتم بتمويل المشاريع الإبداعية، فهي تنظر إلى الثقافة والفنون على أنها تسلية ومضيعة للوقت ، وهي تتجاهل الرسالة الحضارية الكَوْنية الموجودة في الثقافة بكافة أشكالها . وهذا يُفسِّر الغياب الكارثي للأمة العربية عن الساحة العالمية ، في الوقت الذي نجد فيه أن السينما الإيرانية _ رغم كل القيود _ تحصد جوائز عالمية في أكبر مهرجانات العالَم . فالفيلم الإيراني " انفصال " حصل على جائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار ( 2012م ) . والفيلم الوثائقي الباكستاني الذي يتحدث عن سكب الأحماض على وجوه النساء ، قد حصد جائزة كبرى هو الآخر في نفس الحفل . والسؤال الذي يطرح نفسه هو : أين السينما العربية التي تُعرِّف العالَم بقضايا العرب وتفتح العيونَ على حضارتهم ؟! .
5
إن السينما العربية مشغولة بالقشور دون اللباب ، وبالضرب على السطح دون الغوص في الأعماق . فنحن نجد مخرجين كخالد يوسف وإيناس الدغيدي يملآن الدنيا تصريحاتٍ نارية ، وتنظيراً فلسفياً ، ويتصدران وسائل الإعلام . لكنهما عاجزان عن التواجد والتأثير في المهرجانات الدولية ، فلا وجود لهما على الساحة الدولية . مع أن العلم أن خالد يوسف هو تلميذ يوسف شاهين ، وإيناس الدغيدي تلميذة صلاح أبو سيف . وهذان المخرجان الراحلان قد حقَّقا بعض الإنجازات العالمية .
6
لقد قال الممثل المصري نور الشريف في أحد اللقاءات التلفزيونية إن عدد أفلامه يقترب من مئة وسبعين ، وإن عدد أفلام محمود ياسين مئة وخمسون ، أمَّا حسين فهمي فتجاوزت أفلامه المئة. وهذا المنطق الحسابي يعكس الانهيار في الفكر السينمائي العربي المعتمد على الكَم لا النوع . والسؤال الذي ينبغي طرحه : ما وزن هؤلاء الممثلين على الساحة العالمية ؟ . إنهم بلا تأثير ، فهم محصورون في دائرة ضيقة ، ويتحركون بمعزل عن الحركة السينمائية العالمية . وإذا كان نور الشريف يفتخر بالأعداد ، فعليه أن يَعلم أن الممثل المصري الراحل أحمد زكي هو صاحب المركز الأول في السينما المصرية _ رغم أن أفلامه لم تصل إلى الستين _، وذلك بسبب اختيار ستة أفلام من أفلامه ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصري في القرن العشرين . وقد قال عمر الشريف في إحدى المناسبات إن أحمد زكي لو كان يتقن الإنجليزية لاستطاع اقتحام الساحة العالمية بكل قوة .
والسينما العربية ليس لها تأثير عالمي أو تواجد يجلب انتباه الآخرين. فالممثل الأمريكي مورغن فريمان عندما زار القاهرة قبل عدة سنوات لم يتمكن من معرفة أي ممثل مصري على الإطلاق ، على الرغم من أن الممثلين المصريين هم أشهر الفنانين العرب دون منازع ! . وهذا يؤشر على انهيار السينما العربية .
7
إن السينما الشبابية المسيطرة على الساحة العربية هي مجرد وسيلة استهلاكية مثل الوجبات السريعة دون أي عمق فكري أو قضايا مهمة . فهي تعتمد على الإضحاك بأي وسيلة ، والترفيه عن الجمهور بدون أي نوع من إعمال العقل . إنها سينما هادفة إلى إراحة العقل من التفكير ، والتركيز على الجسد والإغراء والمشاهد الساخنة لجذب أكبر عدد من المشاهدين . وهذا أدخل صناعة السينما في مأزق كارثي شديد الخطورة ، وجعل صُنَّاع الفيلم خاضعين لسياسة " الجمهور عايز كده " . مما أدى إلى انتحار ثقافة الصورة ، وعجز الأمة العربية _ وعلى رأسها مصر _ عن صناعة التأثير ، والاضطلاع بدور القيادة .
8
يُفترض أن أحوال السينما العربية ستتغير بعد الربيع العربي . وقد اتضحت بعض ملامح هذا التغيير في مصر عندما أعلن الإخوان المسلمون ( الحكام الجدد ) عن نيتهم دخول مجال صناعة السينما وإنتاج "السينما النظيفة" . وهم يقصدون بهذا التعبير السينما الخالية من العري والإغراء، والمعتمدة على مخاطبة العقل لا الغرائز . ونحن بانتظار هذه التجربة لكي نحكم عليها .
9
إن السينما مجرد وعاء ، والعِبرةُ بالأفكار المطروحة في هذا الوعاء . لذلك ينبغي أن تتأسس السينما وفق مبدأ الفكر الإبداعي الذي يبث الوعي في الجماهير ، ويحترم عقولهم ، ولا يؤجج شهواتهم . إنها سلاح ذو حدين ، ينبغي التعامل معه بحذر لئلا يصبح لعنةً تطارد أصحابها .
http://ibrahimabuawwad.blogspot.com/
التعليقات (0)