إن تحقيق رهان استقلالية القضاء المغربي يجب أن ينظر إليه كبنية كلية أو عبر رؤية شمولية لا تقبل التجزئ، بل تؤمن بسيرورة أجرأته بشكل متكامل ومتوازن لا ينظبط لإكراهات المرحلة أو لمزايدات سياسية أو تحت طائلة صعوبة البدايات، ولكن يجب أن يؤسس له وفق تخطيط استراتيجي دقيق ومتكامل من أعلى الهرم إلى قاعدته، ومن الضمير المهني إلى حلقات تكوين القاضي والمحامي، ومن خلال هذه النقطة الأخيرة نكون مجبرين بإبراز العلاقة الجدلية بين جودة تكوين ممتهن القضاء واستقلالية القضاء في إطار تصور شامل يؤسس لرؤية مستقبلية نحو تعزيز استقلالية القضاء، وضمان العدل والنزاهة على اعتبار أن نزاهة وعدل هذا الأخير ترتبط أساسا بمقومات التكوين الجيد في مجالات مدروسة بناء على حاجيات مهنة القضاء، وعليه ترتهن عملية استقلال القضاء بالتكوين الجيد لكل من القاضي والمحامي وباقي الفاعلين في السلك القضائي، لأن القضاء يبقى مستقلا ما لم يهدده بالإظافة إلى التزوير والارتشاء والتحامل ضعف في جودة التكوين.
ولقد بات في حكم المؤكد أن نزاهة وعدالة القضاء واستقلاليته لم تعد ترتبط بالتزوير أو الارتشاء أو التحامل فحسب، ولكن باتت قضية تكوين القاضي والمحامي تكوينا وتأهيلا جيدا يقوي مهاراته التحليلية ويعزز ضميره المهني، ومن هذا المدخل تثار قضية تكوين القضاة والمحامين نحو تحقيق مبتغى استقلالية العدالة بالمغرب نحو مجتمع يشرئب بقوة لتأسيس دولة الحق والقانون.
وحين كان تحقيق رهان استقلالية القضاء يرتبط بالقاضي والمحامي وهما متحررين على نحو مستقل ونزيه وغير خاضعين لأي سلطة ماعدا سلطة الحق والقانون، فإن لا أحد يجادل الآن في الدور الذي أصبحت تلعبه عمليات تكوين وتأهيل القضاة والمحامون في المؤسسات المعنية، فلقد كانت الجهود المبذولة في هذا المجال وإلى أمد قريب مرتكزة بصفة أساسية حول التكوينات الرئيسة التي يغلب عليها الطابع الأكاديمي، تكوينات هي عبارة عن تقديم دروس قانونية ومعلومات نظرية تسمح لهم بشغل منصب بالقطاع القضائي إضافة إلى بعض التداريب بردهات المحاكم، إلا أن التطورات الحالية سارت تفرض التركيز على الكفايات التقنية بدل المعارف أي اعتماد المهارات كوسائل لتفعيل المعارف (النصوص القانونية والتشريعية) على أحسن الوجوه، أي أنه صار لزاما على مؤسسات التكوين أن تتجاوز تمكين المكون القاضي من المعارف في المجال القضائي فحسب بل تزويده بالآليات الفنية والتطبيقية للتعامل مع القضايا والنوازل الخاصة، من خلال تمكينه من تقنيات التعبير والتواصل باعتبارها حجر الزاوية والكفاية الجوهرية لحسن تطبيق المساطر القانونية.
ولقد شكلت الكفايات التواصلية مكونا مركزيا في تنمية قدرات كل من القاضي والمحامي نظرا لارتباطها الوثيق بمهمتهما، فلم يعد يكفي أن يتقن القاضي والمحامي مادته القانونية علميا ومعرفيا فحسب بل أصبح مطالبا بالتمتع بكفايات تواصلية يوظفها بشكل جيد لفهم عميق مشكلات المتقاضين.
إن الكفايات التواصلية كمجموعة من المعارف والمهارات والاتجاهات الواجب امتلاكها من قبل عضو هيئة القضاء، والتي تمكنه من أداء مهامه ومسؤولياته بمستوى يمكن ملاحظته وتقييمه يفيد أن هناك نزاهة وعدالة في استصدار الأحكام بين المتقاضين، وتكون بذلك صمام أمان الممارسة المهنية النزيهة عند القاضي والمحامي، وحري بهما التمكن من مهارات التواصل الفعال باستخدام أحدث التقنيات العصرية كالبرمجة اللغوية العصبية وفق نمط ينسجم ووظيفتهما، تضمن حصول تواصل ناجح يجعل أطراف القضايا يشعرون بوجود رباط قوي مقدس يستدعي احترام الجميع له هو سلطة القانون. ففي ظل التطورات التي يعرفها الجانب القانوني، وكذا بعدما أصبحت المهارات والكفايات تتقادم كالأشياء، صار لزاما على القاضي والمحامي التمكن من آليات التواصل الفعال من وجهة نظر البرمجة اللغوية العصبية التي تقوم على دعائم كون أن لكل فرد خريطة عقلية قد تختلف عن الآخرين، أضف إلى ذلك أن كل إنسان له مستويان من التواصل (تواصل الوعي واللاوعي) ومن بين هذه التقنيات "تقنية الرابط" ربط الشخص بالروابط التي تثير اهتمامه سواء كانت هذه الروابط أصوات أو صورا أو أحاسيس بالإضافة إلى ذلك القدرة على قياس السلوك التعبيري للشخص، كالتعبيرات الجسمية (التموضع) وما يطرأ عليها من تغيير، والإيماءات والحركات وطريقة التنفس، والتي نستطيع من خلالها تكوين فكرة واضحة عما يجري بدواخل من نتواصل معهم، والتمكن من تقنيات التواصل مع الأفراد والجماعات الكبيرة والصغيرة باستخدام المجاراة والتواؤم وأسلوب القيادة والتخطيط الاستراتيجي وحل النزاعات.
ويتأكد بالملموس أن التواصل يشكل حصة الأسد من مهام القاضي والمحامي، ولذلك وجب التركيز في عملية التكوين على هذا المعطى لأنه حجر الزاوية في ضمان تكوين رشيد، يستشرف مستقبل الاستقلالية والعدالة والنزاهة في القضاء المغربي، ولذلك كان التمكن من آليات التواصل مدخلا حقيقيا نحو تكوين جيد يضطلع برهانات المستقبل في دولة على درب تحقيق العدالة الشاملة.
وبناء على هذه المعطيات يبرز الدور الحقيقي الذي تساهم به الكفايات التواصلية لخلق قاض ومحام ناجح يتفاعل بشكل ايجابي مع كل القضايا التي تعترضه، ويقترح لها بالطبع حلولا وبدائلا دقيقة ومناسبة، والقصد هنا يرتبط باختيار الحكم الذي لا يتأسس على سلطة تقديرية مبنية على العاطفة والذاتية، بل على سلطة تقديرية موضوعية تنسجم منطقيا وروح النصوص القانونية، وبناء على دراسة المعطيات واقتراح بدائل ملائمة ومناسبة للنوازل.
إن المهنية العالية لدى القاضي والمحامي إذن ترتبط بقوة الضمير الحي والعادل والهادف للوصول إلى نزاهة القضاء. وبالتالي يكون نجاحهما في الأوساط القضائية والمجتمع متوقفا على نقاء ضميرهما وصدق أمانتهما.
التعليقات (0)