جنون الكلمة وعشق السؤال في ديوان "لي فلقلب علسان" لعبد الرحمان الحامولي
صدر للشاعر الزجال عبد الرحمان الحامولي، درة موكادور، ديوان زجلي بعنوان "لي فلقلب علسان" تكلفت بطبعه جمعية الإشعاع للثقافة والتنمية بالصويرة، يتضمن الديوان ثلاثة وأربعين قصيدة زجلية، تستجمعها ثيمات رئيسة هي: وقفة مع الذات، والإحساس بالهم المشترك، ونسائيات، وتأملات. يجمع بين هذه الثيمات خيط ناظم مفاده الصدق في التعبير عن الجنون اللغوي الشعري، وحب السؤال الوجودي الدائم.
سيميائية الغلاف
يمكن القول ابتداء إن شكل الغلاف الذي اختاره الكاتب، يبئر كل مضامين الديوان، إذ يمكن للقارئ أن يتطلع إلى سيرورات دلالاته انطلاقا من العناصر المكونة للغلاف.
تتضمن واجهة الكتاب مجموعة من العلامات البصرية واللسانية، وهي تشتغل مع باعتبارها نسقا سيميائيا لا يمكن أن ينفك إلا إجرائيا، ففي أعلى الصفحة، يوجد على اليمين جمعية الإشعاع للثقافة والتنمية، وعلى اليسار "زجل"، وفي وسط الصفحة كتب "ديوان الحامولي "لي فلقلب علسان"، وتحته مباشرة فج يتخلله فرس أبيض، وبجانب الصورة، مقطع زجلي يصف الفرس.
هذا كل ما يقوله المؤول المباشر، بالتعبير البورسي، لهذه العلامات اللسانية والبصرية، إننا وقفنا فقط عند حدود ما تقوله هذه العلامات، بحسب رولان بارت، في دلالتها التقريرية المباشرة، والكشف عن الدلالات الثانية الإيحائية والمستلزمة حواريا وفق المقام المخصوص، يتطلب من الناحية السيميائية استدعاء مؤول دينامي كفيل بطرح الدلالة في متاهات التأويل، والقذف بالمعنى نحو ساحة التداول، وهذا المؤول، يتطلب ضرورة موسوعة إدراكية، بتعبير أمبرطو إيكو، نستحضر فيها الشاعر والزجل والمتلقي وكل المقامات الواردة بصدد التلقي والانتاج الشعري…إلخ.
تكلفت الجمعية المعينة آنفا بطبع ونشر الديوان الزجلي، وقد كان لها القدح المعلى في ذلك، إذ لولا هذا التكفل لبقيت القصائد في طي النسيان، يحتل اسم الجمعية من الناحية الإشهارية موقع الأعلى، لأن القراءة تبدأ باليمين من الأعلى، وفقا لما تفرضه طبيعة اللغة العربية، إذ لولا هذا الهدف المستبطن لأشير لها لماما، وقد حدد جنس هذا العمل الإبداعي بأنه "زجل".
يزكي ذلك العنوان الذي كتب باللغة العربية المغربية "لي فلقلب علسان"، يحتل موقع الوسط، فالعين، وهي تتجول عبر الصفحة، تنطلق ابتداء من الأعلى، لكن الوسط دائما هو المهم لأنه متعلق بتبئير الرؤية، يجعل القارئ يقف عند نقطة بعينها، كما أشار كاندنسكي، والعنوان يجد موقعه في الثقافة المغربية ابتداء، فهو مأخوذ من حكمة، أو مثل مغربي شهير، يحيل إلى المرء الذي تخلوا سريرته من النفاق، إذ يكون واضح المعالم، يجمع بين ما يؤمن به، وما ينطق به، وهذا المثل نفسه يجد جدوره في تعريف الإيمان أصلا، أي عمل بالجوارح وتصديق بالقلب، ونطق باللسان، فلا يمكن للمكلف أن يكون مؤمنا إلا إذا جمع بين هذه العناصر الثلاثة.
أصبحت الحمولات الدلالية التي يزخر بها العنوان مفقودة في يومنا، فلماذا هذا الاختيار؟ وما علاقته بالشاعر وبالقول الشعري؟ إن السيرورات التدليلية التي تحفل بها القصائد كفيلة بتقديم الصورة المثلى التي يقصد إليها الزجال قصدا، فالحامولي كما يعرفه أبناء موكادور بسيط في كل شيء، حتى إن من بساطته يحسك أنك تعرفت إليه حينا من الدهر، حيث إن مسار حياته المتقلب جعله أكثر مباشرية، وزاده اهتماما بالسؤال الوجودي، حتى غدا في عرف الأقران حكيما.
ينتصب في أسفل الغلاف فرس أبيض ينظر إلى الأمام، كما نعهده دائما في الفرس العربي الأصيل، يقف بخيلاء بين فج يعمه السواد يمنة ويسرة، تجمع هذه الأيقونة بين الجمعية والشاعر، فهذا الجواد الذي حمل لواء الزجل في موكادور، لم يكن له ليظهر عيانا، لما يحيط به من هالة سوداء في إشارة إلى ما يعيشه الشاعر في حياته اليومية الكئيبة، لولا الإشعاع الذي أحاط به رامزا إلى جمعية الإشعاع.
إن الفرس في الثقافة العربية المغربية رمز للنخوة والأنفة والعزة، وحمولاته الدلالية هاته تجعله مهتما به، غير أنه في بعض الأحيان قد يفقدها، وفي ذلك إشارة إلى شاعرنا الذي فقد بريقه الذي كان معروفا به في صباه، وهو حلاق يساعد أباه، لم تكن الابتسامة تفارقه عندما كان طفلا ومراهقا، مثله مثل فرس صغير (جدع) تربى في عز وعناية، ولا يعرف ما ينتظره بعد، وكل صغير مرغوب فيه، لذلك ذيل الحامولي هذه الصورة بمقطع زجلي واصفا إياها ومنبها إلى العلاقة الحميمة التي تجمع بينه والفرس:
من زين العود إلى كان جدع
يتربا فالعز والعناية
ما يهز تقل ما يتبردع
إبرى الجرح، الهرس والفدع
ما تبرى القلوب
المطبوعة بالغش والخدع.
الثيمات المحور في الديوان
قسمت قصائد الديوان، كما أشرنا سالفا، إلى مضامين أساس أولها سؤال الذات الذي يحضر في أغلب القصائد، إذ ينطلق الحامولي من نزعة وجدانية، تركن أحيانا إلى الانزواء في البرج الزجلي العاجي، التي يميزها هجر الأخلاء والعيال، وأخرى إلى الهروب نحو التأمل في الذات، بغية تحقيق شيء من التوازن النفسي والوجداني، والبحث عن قالب شعري ينفض هموم الفرد وسط هجر الأصحاب، إلى البحث في مقامات شعرية أشبه بمقامات الصوفي، نجد الشاعر فيها حكيما، وهو الأجدر بأن يكون كذلك، فهو المجرب في الحياة:
واش نكتب وندون؟
أو نهجي لوجوه لي كتلون
وسط هاد العالم لمرون
أو نصبر للذل ونكون
ما نكذب ما نمم ما نخون
لي ما قاسى وجرب وجال
عمرو ما يتكون ص7
وفي ظل هذه التأملات الناتجة عن تبدل الأحوال، التي تعد المهماز الذي يعرف به المرء الزيف من الأصيل، نجد الحامولي يطرح أسئلة من صميم الوجود الانساني عموما، وهو بذلك يتكفل بالحديث عن كل الضمائر المكلومة، التي خانتها عاديات الدهر:
الزمان نهكني
وأنا ما قادر لمحانو
كنحس ونشعر بين دركني
زهرت ودارت بيا نيرانو
ما وجدت حبيب يشركني
في محاين قلبي وحزانو ص9
وتحبل القصائد جميعها بالفواجع، حتى إنك لتظن أن شاعرنا يكتب الزجل بدمه، ويعتصر قلبه في قوله اعتصارا، ولعل توالي صروف الدهر هي السبيل الوحيدة التي أدت إلى هذه الرؤيا المأساوية في قصائد زجال موكادور، مما جعل الابتسامة التي كان معروفا بها في صباه تغدو اليوم اكتئابا:
معاك يا هم نتكلم
اخرج لقلبي من داتو
...
نساحب يا هم وسلم
اخرج لقلبي من داتو
كيفاش أنا نبتسم
وكيت الحركة بكاتو
بالليل نبات نخمم
والنكدة د الزمان قهراتو ص11
تنسجم هموم الذات مع ذكرى الوالدين، وهما يعظمان عند زجالنا لما خصهما من قصائد في الديوان، وهي الأكبر طولا والأكثر فاجعة، إن موت الأب في سن مبكرة كان السبب الرئيس في تبدل أحوال الحامولي الذي تكفل وعال، وهو غض طري، حتى إنه أصبح شاعريا سيابيا يجد ملاذه وخلاصه في الموت، الذي من الممكن أن يكون بالنسبة له انبعاثا من جديد:
ما نويتك يالميمة تموتي
تزوج بويا وتفرقو خوتي
صبحت نهتم بطعامي
ما بقات تهمني كساتي
وحار عقلي ما بين ولادي وبناتي
وقتاش يا ربي نتهنى وترتاح ذاتي
ما نبقى عايش مذلول طول حياتي ص15
وتهم ثيمة الاحساس المشترك القلق الوجودي الذي يعتري كل متأمل في الحياة الإنسانية، التي قد تصبح عديمة الجدوى وبحثا عن السراب، والحامولي ينطلق من نزعة أشبه بقصائد غيوانية درامية، تنطلق من الإنسان لتعود إليه، وهذه القصائد تجسد بصدق رؤياه الشعرية التي لا تخرج قيد أنملة عن رؤيا الشاعر الحديث، برغم اختلاف تلاوينها، الذي يهم في غياهب هذه الحياة المستعصية على الفهم:
تفجرت الألغام بالنار في السما
دارت قيامة
كنوس بالظلم ينحرو فالأرحام
ما فقلوبهم الرحمة
ولا الابتسامة ص38
وتتخلل هذه الثيمة الثانية مجموعة من القضايا التي تقض مضجع الإنسان الحديث كالحرمان، والإعاقة، والفقر، والخديعة، والتفاوت الطبقي، وصراع الأجيال، والحرية، والحرب؛ يتوسل الحامولي في التعبير عن هذه القضايا باستعمال مجموعة من الرموز خصوصا الحيوانية منها الحمامة، والخيل، والجدي، والطير، والكلب...
وبالرغم مما يحبل به الديوان من الفواجع والكآبة، فلا يجد الحامولي غضاضة في التعبير عن ميولاته العاطفية، التي يصرح بها تصريحا في مقابلاته، فالذي في قلبه على لسانه، يعبر بالصراح عما يختلج صدره، سواء تعلق ذلك بحب قديم أم بغيره، وقد جمع هذه الخوالج في ثيمة نسائيات التي يتغزل في إحدى القصائد منها بحبيبته "غيثة":
حاسة ذاتي بعماقها
بقلبي مريض ومجروح
عجباتو غيثة بزواقها
سالفها على اكتافها مكفوح
وردة جميلة بوراقها
منها لعطر يفوح
لطيفة ومأدبة فخلاقها ص46
وفي حديث صاحب الديوان عن المرأة، تأخذه إليها نزعته التأملية، حتى إنها لتعظم في وجدانه، فيغلب أحيانا العقلي على العاطفي، لينطلق متأملا حكيما، يذكرك بقصائد عبد الرحمان المجذوب، ليصح الاسمان معا اسما واحدا:
زواج ليلة تدبيرو عام
يا لي بغا يكمل فرضو
البعض فالنسا
ما يكرو بطعام
يهملوا الراجل ايلا جاه مرضو
خارجين بلا حكام
قضاو لشيطان غرضو ص49
لا تخلو أية قصيدة في الديوان من النزعة التأملية الفلسفية في ظواهر الوجود، وإن ارتأى الشاعر، أخيرا، إفراد ثيمة مخصوصة لها وسمها بـ"تأملات" متخذا مجموعة من الرموز مهمازا للتعبير عن رؤياه الشعرية، وتقديم موقفه المخصوص من الأشياء والعالم، فهو يستعير البحر رمزا للجمال والجلال والهالة، مشيرا به إلى الحالة الاجتماعية المزرية الصعبة التي أصبحت تمخر الفقراء:
غير تهدن يا البحر
راك خوفتني بماك
وانت تهيج بلا ما تشعر
جهدك على الناس رماك
مواجك عالية تغدر
لا تبلعني أنا فحما الله ماشي فحماك ص55
ويستعير الشجرة رمزا للوطن، والتشبث بالمخيال المغربي عموما، والحنين إلى الماضي الذهبي، ويحيل إلى تناقضات المجتمع، والتخلف، والاعتداد بالنفس، واحتقار الآخرين، وتبدل الأحوال انطلاقا من استثمار حيوانات أخرى كما في قصيدة "عقول الكباش":
عمر الكبش ما يكون واعي
بالقوة عليا كيداعي
ربيتو وجعلتو خريف نتاعي
بعد ما كنت نحميه بدراعي
صبح ينطحني فاش ولى ارباعي
كلا حقي وسرح فبلاد الناس بلا ما يراعي ص59
على سبيل الختام
تبدو المعاناة في ديوان عبد الرحمان الحامولي مهمازا للبوح والتأسي، والنظر إلى الأشياء المألوفة بعين غير مألوفة تماما، إذ ينطق الجماد، ويتحسس المجرد، ويجرد المحسوس، في وقت أمست فيه القصيدة أحيانا بيته العاجي المألوف، الذي لا يبتعد عنه قيد أنملة، وتطفح القصائد جميعها بالفواجع، فيغدو الديوان على إثرها مرتعا خصبا لتصريف عبق المواجع، مرد ذلك إلى الحياة نفسها التي يعيشها الشاعر، رسمت رؤيا الحامولي الشعرية المخصوصة نحو الحياة والموت وصروف الدهر، وعبرت عن قضايا من صميم الحياة اليومية تحددت بها رؤيا الزجال نحو الوجود.
يستعمل في ذلك رموزا تحبل بدلالات أعمق من معانيها الأصل، مما يخلق انزياحا وخروجا عن المألوف في الإيقاع، واللغة الشعرية. وتقوم كل قصائد الديوان على الرؤيا غير المألوفة للأشياء عينها، وهي أشبه بقصائد غيوانية مكتوبة بالدم لتقرأ بالدمع، وتجعل المتلقي يفكر كيف يقرأ هذه الأسئلة الوجودية، إن كل القضايا المطروحة يجمعها الابتذال الذي صارت إلية تنشئتنا الاجتماعية اليوم.
التعليقات (0)