تزامنت،مع ظهور مرض "جنون البقر"الذي اكتُشف في بريطانيا العظمى في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ،حالة من الذعر الشديد خصوصا بعد أن أفضت الأبحاث الإكلينيكية إلى إمكانية انتقاله للإنسان في نسخته البشرية والتحذير من الضرر الفادح الذي يُلحقه به وبخلايا دماغه قبل أن يفتك به...
وبما أنّ البقرة الضاحكة الحلوب أصابها الجنون فنَفَقَتْ بفعل الإنسان،فإنّ احتمال دخول عصر جنون البشر من مدخل عصر جنون البقر أصبح لا يُثير الاستغراب بقدر ما يُثير الاستهجان والخوف.
لست هنا أروم تَقَصّي الحقائق بشأن جنون البقر ولا إلى ما انتهى إليه من أثر على الإنسان، إنّما أردت الإشارة إلى أنّ استعمال مصطلح "جنون البشر" يجد له مرجعية في "جنون البقر"،وإن كنتُ ميّالا للظنّ أنّ جنون الحيوان النّاطق لا علاقة له بالبقرة الوديعة.
إنّ الجنون الذي أعنيه هو من نوع أمراض"الباتُولوجيا الاجتماعية" و"السّاديّة" والنّهم وتغليب نزعة الشرّ على الخير،وخطورتُه تكمن في انتشاره السّريع ليعُمّ،تقريبا،جلّ سكّان الكرة الأرضيّة،وليستعمل من الوسائل التي ابتدعها الإنسان أشدّها شراسة وتدميرا وفتكا...
كلّما استغْرقنا في الانشغال بالأحداث العالميّة الدّامية المتلاحقة تباعا والتي تتكرّم بها علينا،بسخاء، وسائل الإعلام،تستبدّ بنا الأفكار السوداء إلى حدّ الاعتقاد أنّ الذي يحدث من إيذاء للإنسان والطبيعة هو نتيجة مرض أقرب ما يكون لخلل أصاب مدارك الإنسان فحرّر في هذا الأخير الوحش الذي يسكنه،وهو وحش لا يَردع هيجانه ولا يُلجم غرائزه العدوانيّة غير ضمير يقظ نقيٌ تُحصّنه القيم الأخلاقية الخالدة.
ثمّة إصرار غير مسبوق على حقن حياة الناس،في كلّ مكان من العالم،بالكراهيّة والخوف،ولو تعلّق القصد للتّدليل على وجاهة كذا ادّعاء لطال بنا تعداد ما لا يُحصى ولا يُعدّ...من ذلك حروب وفواجع وتشريد وتهجير وإمعان في تغذية الفتن الطائفية والعرقية والدينيّة.واللاّفت أنّ النّسق التّصاعدي في الاستسلام لرواج الفكر المنحرف والسلوك الأهوج هو فعل إرادي من المؤسّسات الرّسمية القائمة على شأن الدول- في مقدّمتها تلك المهيمنة على حضارة العصر-كما هو فعل يأتيه الناس فرادى أوجماعات بشكل غير مُشرّع.
ولقائل أن يقول:إنّ الصراع بين الخير والشرّ قديم قدم الإنسان،وأنّ الحضارة الحديثة لم تبتدعه،كما ابتدعت القنبلة الذرية أو الانترنات،مثلا.وهذا القول صحيح ومهوّن على النفس المتعبة،لكنّ وجاهته تخفت بالاعتقاد أنّ الحضارة الإنسانية بلغت ذروة المدنية أو كادت بما لم تبلغْه على مدى ماضيها السحيق،بعد أن تأسست على ذمّ الحضارات التي سبقتها من حيث عدم توفّقها في نشر العدل والحرية والتضامن ورغد العيش لكافة بني البشر دون تمييز يُبرّر الاضطهاد والقهر،وهي حضارة أبهرت بما أبدعته من فنون التواصل بين الأفراد والشعوب...
لكن،ها هي أميركا،مثلا،سيّدة العالم المحتكرة لكلّ وقاره وعظمته والمدّعية الدفاع عن شرفه ،تُمعن في التدليل على أنّها مجنونة مسعورة لأنّ الآخر لم يُقدّرْ فيها نزعتها إلى الهيمنة بسعيه التّنغيص على جشعها والتّشكيك في سلامة خياراتها في إدارة الشأن العالمي وقضاياه المتشعّبة التي هي مسؤولة عن استفحالها وحليفاتها نتيجة إرساء حوار يقوم على :"أنا القويّ،إذن أنا على صواب،أنت الضعيف،إذن أنت على خطإ..."ممّا أثار حفيظة الضعيف فانقاد إلى نفس جنون القويّ لنشهد أسوأ أزمة أخلاقية عالميّة في تاريخ الحضارة الحديثة...
إنّ أقوياء العالم لم يُقرّوا،إلى اليوم،أنّ فضيلة الحوار والإصغاء إلى الآخر وتفهّم همومه هو أفضل من رذيلة الاستكبار بقوّة السلاح التي تزرع الحقد والدمار والموت هنا وهناك بعد أن "تعطّلت لغة الكلام"،أو تحوّلت إلى حوار عبثيّ...
والحقيقة أنّ الفواجع التي تسبّبت فيها أمريكا بحجّة رعاية الأمن والسلام العالميين،لم تسلم هي نفسها من تداعياتها السلبية ومن انعكاساتها حتى على جنودها،إذ تُفيدنا الأخبار بتزايد أعداد الذين يُقتلون بنيران "عدوّة أو صديقة"،أو الذين يشْكُون اضطرابات نفسية بعد عودتهم من العراق وأفغانستان أو الذين يلجؤون إلى الانتحار،فضلا عن الكلفة الباهظة للحروب،بصرف النّظر عمّن يُسدّد فاتورتها...
ولعلّه بفعل ذات الهوس،إن لم نقل الجنون،عمد جنود أمريكيون،وربّما آخرون في التّحالف،إلى اقتراف جرائم وحشيّة لا يُمكن أن يأتيها كائن بشريّ سويّ،مثل تلك التي وثّقتها فضائح سجن "أبوغريب" في العراق أو هذه الطازجة التي تقوم دليلا على ساديّة في أبشع صورها-فيما نتمنّى صادقين أن تكون كاذبة،إذ هي من صنف كوابيس أضغاث أحلام وإن كان واقع الأحداث يرويها- تقول الرّواية أنّ ضابطا أمريكيا أصدر أوامره لمنظوريه من الجنود إلى القتل العمد لأبرياء أفغان لغاية التّسلّي،نعم التّسلّي،لا غير...وتقول رواية أخرى أنّ جنودا أمريكيين عمدوا إلى التمثيل بجثث مدنيين أو مقاتلين أعداء وأنّهم أمْعنوا في الاستهتار بالنّفس البشريّة إلى حدّ الاحتفاظ بأشلاء آدميّة،بعد قطعها،لتكون لهم تذكارا في متاحفهم الشخصيّة شاهدة على توحّش الإنسان وجنونه...ويُوثّق موقع "ويكيليكز" ما لا يُصدّقه الخيال من مثل هذه الفضائح البشعة...
وبالمقابل،إن صدّقنا دراسة حديثة أفادت أنّ واحدا من عشرة أمريكيين يُعاني من حالة اكتئاب،فإنّنا نكون أكثر تعاطفا مع الأمريكيين المكتئبين لافتراضنا،عن صواب أو خطإ،أنّ اكتئابهم ناتج عن صدمة رجّتهم من جرّاء بشاعة الجرائم التي تُرتكب باسمهم .
قد يكون من الضّروري التّشديد على أنّ التركيز على وحشيّة ما يُرتكب باسم أمريكا ليس من قبيل الإساءة أو التّحامل على وقار الدولة الأعظم،إنما،لأنها الدولة الأعظم،فهي تُغنينا عن سرد الجرائم التي يقترف حماقتها من هم دونها تقدّما وهيمنة أو تلك التي ترتكبها دول وجماعات محسوبة على العالم المتخلّف والتي نجد لها التّبرير في تخلّفها وجهلها وفقرها.إذ لولا هَوَانها ما بلغ بها الجنون إلى الاحتكام لقانون الغاب بين طوائفها وأعراقها وما كانت قد فتكت بها أوبئة بعضها خلناه في حكم الماضي مثل الكوليرا التي تُطلّ علينا،مجدّدا،بتحدّيها للضمير الإنساني في الكامرون والتشاد والنيجر...إضافة لأوبئة أخرى كالسيدا والملاريا وغيرهما...
التعليقات (0)