جنون إيراسموس ورجال الدين
بقلم: سلمان عبدالأعلى
إذا قيل لك أن التاريخ يعيد نفسه فلا تتعجب، وإذا قيل بأننا سنحذو حذو الأمم السابقة حذوا القدة بالقدة فلا تستغرب، فالإنسان هو الإنسان وإن تقدم الزمن وتغيرت مظاهر الحياة، إلا أنه لن يتخلى تماماً عن بعض عاداته وسلوكياته. صحيح أنه ثمة تغيرات يشهدها في فكره وفي طريقة تفكيره، ولكنه مع ذلك نجده لم يستطع توديع بعض الصفات السلبية المتأصلة فيه والمتغلغلة في أعماقه بشيء نستطيع أن نذكره، ولهذا السبب نرى الإنسان في الماضي هو الإنسان في الحاضر لا يزال يخوض الحروب والنزاعات من أجل تحقيق مصالحة والحفاظ عليها، إذ أنه يحارب من أجل مصالحة كما يحارب أيضاً -معها أو قبلها وأحياناً حتى بعدها- من أجل إثبات مشروعيته أو مشروعيتها.
ولا يختلف في هذا الإنسان العادي عن غيره، سواء كانوا من رجال السياسة أو من رجال الدين أو من العلماء والقادة أو من غيرهم، فالكل في الأصل سواء في هذه الناحية، ولكن لكل منهم أسلوبه وطريقته الخاصة، ولا إشكال إذا كانت هذه المصالح مشروعة، ولكن المشكلة الكبرى إذا كانت مشبوهة وتتم على حساب ظلم واضطهاد الآخرين أو استغفالهم.
والغريب في هذا الأمر أن يكون بعض المحسوبين على رجال الدين من الذين يستغفلون الناس ويستغلونهم للحصول على مصالح ذاتية وأطماع خاصة(غير مشروعة). إذ أن الكثير منهم يتاجرون باسم الدين، والناس في الأعم الأغلب إما أنها لا تدري أو أنها لا تريد أن تدري !
على كل حال، إننا في هذه السطور سوف نستعرض أحد صفات التاريخ التي تبين لنا هذه الحقيقة الإنسانية التي تتجدد باستمرار مع الزمن، ألا وهي بعض من كلمات إيراسموس الفيلسوف الهولندي الذي عاش في الفترة (1468–1536م)، حيث سجل هذا الرجل أروع الأمثلة في صفحات التاريخ، إذ أن التاريخ عجز أن يطوي ناسياً ما خطته يده وما أبدعه فكره، وكيف له أن ينسى ما وصف به إيراسموس رجال الدين في عصره من صفات نراها تكرر وتتجدد باستمرار مع الزمن، ومع أنه كان يخص بكلامه رجال الدين المسيحيين الذين عايشهم في تلك الفترة، إلا أن كلماته تناسب الكثير من رجال الدين بغض النظر عن دياناتهم ومذاهبهم والأماكن والأزمنة التي يتواجدون فيها.
إيراسموس وكتابه ثناء على الجنون :
يقول الأستاذ هاشم صالح في كتابه مدخل إلى التنوير الأوربي: "لاريب في أن ثناء على الجنون، هو رائعة كتب إيراسموس وأحد أهم الكتب التي أنتجتها عصر النهضة. إنه لم يشخ على الرغم من تعاقب القرون والأزمان عليه(...)والكتاب لا يزال يقرأ ويطالع بل وينشر في الطبعات الشعبية الرخيصة الثمن" .
ويواصل كلامه ويقول : "الطريف أن إيراسموس ألف هذا الكتاب في بعضة أسابيع وهو مسافر من إيطاليا إلى إنجلترا. لقد كتبه للترويح عن نفسه كما يقول هو حرفياً. كتبه من أجل تصفية حساباته مع اناس عصره، وبخاصة مع الرهبان وكبار رجال الدين المسيحيين .. " .
إننا سوف نستعرض الآن بعض كلمات إيراسموس في كتابه هذا، معتمدين على ترجمة الأستاذ هاشم صالح في كتابة مدخل إلى التنوير الأوربي .
كتب إيراسموس مستنكراً العنف الذي يمارسه رجال الدين قائلاً: "أليس من التناقض الحاد أن يكون خلفاء المسيح بابوات محاربين مقترفون المجازر مثل البابا جوليوس الثاني (وهو الذي حكم المسيحية بيد من حديد من عام 1503 إلى عام 1513) ، أي طيلة عشر سنوات) . هل يعقل ذلك ؟ أليس جنوناً؟ " .
ويتحدث عن التناقض الذي يقع فيه رجال الدين بقوله : "لنفترض أن البابوات بصفتهم خلفاء للمسيح قد أرادوا السير على خطاه وتقليد فقره ومحنته وعذابه وعقيدته واحتقاره للحياة. لنفترض أنهم فكروا- ولو للحظة واحدة- بهذا الإسم الذي يحملونه، أي الأب، وبذلك اللقب العظيم: قداسة البابا . فهل يستحقونه فعلاً، أو هل يستحقه معظمهم؟ ألا يخجلون؟ أليس من العبث أنهم يبددون كل ثروتهم للحصول على هذا المنصب الأعلى عن طريق المال؟ أليس من المخجل أنهم يستخدمون كل الأساليب من سيوف وسموم وخناجر للمحافظة عليه بعدئذ؟
ويواصل كلماته السابقة قائلاً: "ماذا سيحصل لهم لو أن ذرة من العقل دخلت إلى رؤوسهم؟ وكيف سيشعرون بأنفسهم؟ هل هم بحاجة إلى كل هذه الثروات والتشريفات والانتصارات والمداخيل وصكوك الغفران والأحصنة والبغال والحرس والمتع من كل الأصناف والأنواع؟ ألم يكن الأجدر بهم لو كانوا مؤمنين حقيقيين أن يستبدلوا بذلك كله السهر آناء الليل وأطراف النهار، والصوم والتهجد والعبادة والصلاة والتوبة والعلم والدراسة؟ ... " .
ويضيف ناقداً ومخاطباً رجال الدين بقوله: "ألم يقل بطرس للمسيح : لقد تخلينا عن كل شيء وتبعناك؟ فعن أي شيء من ملذات هذه الدنيا ومتعها تخلوا هم؟ نلاحظ أن أملاكهم تتسع باستمرار وكذلك مزارعهم وقراهم ومدنهم وحتى إمبراطورياتهم. ومع ذلك فهم يدعون حب المسيح ويستخدمون الحديد والنار للمحافظة على هذه الأملاك والثروات. ويقطعون أعداءهم إرباً إرباً باسم الدفاع عن الكنيسة والعقيدة. ولكن أليس أشد الأعداء خطراً على الرسالة الدينية هم هؤلاء البابوات والوثنيون الذي جعلوا الناس ينسون المسيح بعد أن علوه بقوانينهم التجارية وشوهوا عقيدته بتفاسيرهم المفرطة والخاطئة؟ حقاً لقد صلبوا المسيح مرة أخرى" !! .
ويقول إيراسموس في مهاجمة اللاهوتيين المسيحيين قائلاً على لسان الجنون: "ربما كان من الأفضل ألا أتحدث عن اللاهوتيين لكيلا نحرك هذه المستنقعات الآسنة التي انتشرت رائحتها. فاللاهوتيون هم عبارة عن جنس خاص من بين البشر. إنهم جنس حساس جداً وسريع الإنفعال والغضب. وإذا ما تحدثت عنهم فسوف يطلقون ضدي الفتاوى اللاهوتية الأكثر عنفاً . وسوف أرفض عندئذ التراجع عن مواقفي كما يطالبونني بذلك. وسوف يسارعون عندئذ لاتهامي بالهرطقة والكفر. فهذا هو سلاح الردع الوحيد الذي يمتكلونه من أجل إرهاب كل من لا يوافقهم الرأي. لم أر في حياتي أشخاصاً يجحدون النعمة مثلهم. والله يشهد أني أنعمت عليهم بأفضالي".
ثم يردف إيراسموس في فضح اللاهوتيين قائلاً: "إنهم لا يتورعون عن تفسير أسرار الإيمان طبقاً لهلوساتهم الخاصة. فهم الذين يشرحون لك كيف خلق العالم، وكيف نظم ورتب، وكيف أفسدت الخطيئة الأصلية الإنسان وانتقلت إلى ذريته، ثم كم من الوقت أمضى يسوع المسيح في بطن أمه مريم العذراء قبل أن يولد. ولو قارنت تناقضات الرواقيين بأقوالهم لبدت لك مزحة بسيطة لا تستحق الذكر . لضرب على ذلك المثال التالي: إنهم يعتقدون بأن المجزرة التي يذهب ضحيتها ألف شخص تمثل خطيئة أقل أهمية من رتق حذاء أحد المساكين يوم الأحد ! ... لماذا؟ لأن العمل يوم الأحد حرام ! .
ثم صب الجنون جام غضبه على الرهبان حيث يقول إيراسموس: " إن معظمهم لا دين له. ولا أحد يسرح في الأرض طلباً للمال أكثر من هؤلاء الرهبان الذين يدعون الوحدة والتفرغ لعبادة الله . وستكون حالتهم في الدرك الأسفل لولا أني أهب لنجدتهم ! إن جنسهم ممقوت كونياً إلى درجة أنك إذا ما التقيت بأحدهم عن طريق الصدفة فإن ذلك يعتبر نذير شؤم ونحس عليك ... وعلى الرغم من ذلك فإنهم مغرورون وصفيقون إلى أقصى حد ممكن . لماذا؟ لأن ذروة التقى والورع في نظرهم هي أن تكون جاهلاً بشكل مطبق. وكلما زاد جهلك زاد أيمانك أو اقترابك من الله !
ويواصل الكلام السابق قائلاً: "ثم لأنهم يزعقون في الكنائس بتراتيل لا يفهمونها ويعتقدون بأنهم يقتربون إلى الله بذلك. ولكلما زاد جهلهم زاد زعيقهم. والكثيرون منهم يعرفون كيف يستغلون قذاراتهم ودروشتهم. وهكذا يمرون على كل البيوت ويتمتون ويهمهمون بالصلوات غير المفهومة لكي يصدقهم الناس ويقدموا إليهم الطعام والخبز والنقود وغير ذلك من الهبات والزكوات. ويتم ذلك على حساب الشخاذين الحقيقيين، أي الفقراء المدقعين الذين لا يملكون شيئاً . والأنكى من ذلك هو أنهم يقولون بأن سيرة حياتهم تذكر بسيرة حياة الحواريين ! ".
ويقول إيراسموس أيضاً في بعض الخرافات التي ليس لها أصلاً في الدين ما يلي : "إنهم لمجانين أولئك الذين يعتقدون بأنهم لن يموتوا أثناء النهار إذا ما نظروا إلى صورة القديس كريستوف، أو أولئك الذين يتضرعون إلى القديسة بارب لكي تحميهم في ساح القتال، أو أولئك الذين يتضرعون إلى القديس إيراسموس في أيام معينة لكي ينزل عليهم الثروة والغنى بأقصى سرعة ممكنة ... وهكذا يقدمون القرابين والأضاحي للقديسين لكي يشفعوا لهم ويحققوا رغباتهم المادية والدنيوية.
يقول الأستاذ هاشم صالح: "كان إيراسموس يعتقد بأن رسالة المسيح ليست معقدة إلى الحد الذي يبرزه لنا اللاهوتيون القروسطيون المعقدون هم أيضاً. وليست سر يمكن للشعب أن يفهمها وينبغي أن تنشر في أوساطه. يقول بالحرف الواحد : " أتمنى لو أنه حتى النساء يقرأن الإنجيل ورسائل القديس بولس. أتمنى لو أنه حتى الفلاح أو العامل يتغنيان بهما أثناء العمل. أتمنى لو أنه حتى المسافر يتلوهما لكي ينسى الملل ومشقات السفر. إن العمادة والقرابين المقدسة ملك لكل المسيحيين. فلماذا تصبح المعرفة العقائدية بالدين حكراً على أقلية قليلة من الرهبان واللاهوتيين؟ أقول ذلك وأنا أعلم أن هؤلاء لا يفكرون غالباً إلا في أملاكهم وأرزاقهم وزيادة أموالهم ... كل إنسان يمتلك اللاهوت الحقيقي، إنه ملهم ومقود من قبل الله سواء أكان حفاراً أو نساجاً ".
يقول الأستاذ هاشم صالح : وكان إيراسموس أول من أطلق صرخة الإنذار عندما قال: "إن حياة الأديرة لا تعني التقى والورع!" . فليس كل من لبس مسوح الرهبان وأرخى لحيته وتظاهر بالخشوع والورع هو تقي حقيقي ... .
إن إيراسموس عبر مسيرة حياته حاول تحرير عقل الإنسان من الأسر الذي يمارسه رجال الدين عليه، فهو لا يؤمن بأن يحصر الدين وفهمه عند رجال الدين، الذين كان يراهم كثيراً ما يخالفون الدين بإسم الدين ! فهو يؤمن بعقل الإنسان لذا كان يقول: "هناك عقل في كل إنسان، وفي كل عقل يوجد جهد يتجه نحو الخير" . ثم يردف قائلاً: "كما أن الكلب ولد من أجل الصيد، والعصفور من أجل الطيران، والحصان من أجل الركض، والثور من أجل الحراثة، فإن الإنسان ولد من أجل حب الحكمة والقيام بالأعمال الطيبة" .
هذه بعض من مقولات إيراسموس التي نحن بأمس الحاجة لتفهمها في الوقت الراهن، فأنا على يقين بأن كثيراً من الأقوال التي أطلقها إيراسموس تناسب إلى حد ليس ببعيد بعض رجال الدين الموجودين في زماننا هذا، ولكن للأسف بأن بعض العقول المأسورة ترفض هذه الفكرة من دون التفكير فيها، إذ أنهم يغضون نظرهم حتى عما يشاهدونه أو يسمعونه من خلل واضح وفاضح لدى هؤلاء –أي رجال الدين- وذلك لأنهم اعتادوا على أن يبقوا مستغلين ومستغفلين(مستعبدين) أو لأنهم يخافون من بطشهم ومن الفتاوى التي قد يستخرجونها ضدهم !
التعليقات (0)