يتحدث الناس عن أقلية وأغلبية عند غياب المواطنة الحقيقية التي تكفل للفرد باعتباره مواطنا حقوقا متساوية مع غيره المشاركين له في هذه الصفة.
ويذهب البعض إلى أن تعريف الأقلية ليس محصورا في الأقلية العددية، بل إنه قد يشمل الأكثرية العددية أيضا إذا كانت تعامل معاملة الأقلية.
يحدث ذلك إذا تم تصميم النظام بطريقة يجعل ميزان القوى يميل دائما لغير صالح الأكثرية، كأن لا يقوم نظام الانتخابات مثلا على أساس صوت واحد لكل مواطن، بل على أساس مناطقي أو عرقي أو غيرهما يؤدي في النهاية إلى استئثار الأقلية بمقاليد الأمور والتحكم بالثروات العامة.
المثال الصارخ على ذلك هو جنوب أفريقيا إبان نظام العزل والفصل العنصريين، أو ما يعرف بالإنجليزية (Apartheid) الذي استمر قرابة مائة سنة عانى خلالها الأفريقيون الأمَرين من صنوف الظلم والتمييز والقهر في موطنهم من قبل الغرباء الذين قدموا مستعمرين لتلك البلاد طمعا في ثرواتها الطبيعية من ذهب وألماس وغيرها.
فإثر هزيمة الممالك الأفريقية في العام 1900 م بعد مقاومة شرسة استمرت أربعين سنة تقريبا، تمكنت بريطانيا من السيطرة على جنوب أفريقيا وضمها إلى مستعمراتها. ثم قامت في العام 1910 بتسليم السلطات إلى المستوطنين البريطانيين والبوير Boer . البوير هم جماعة من المستوطنين الهولنديين الذين قدموا إلى جنوب أفريقيا في العام 1652 م، وخاضوا معارك ضارية خلال مائتي عام ضد السكان الأصليين للسيطرة على الأرض.
اتبع المستعمرون سياسة التمييز والفصل العنصري منذ البداية، فتم سن التشريعات التي تقضي على مصادر القوة لدى السكان الأصليين وتمنحها للبيض المستوطنين.
مثال ذلك قانون جنوب أفريقيا (1910) والذي أثبت حقوق البيض في التصويت وأعطاهم الملكية السياسية الكاملة على غيرهم من المجموعات العرقية، وقانونُ الأراضي الأصلية (1913) والذي حظر على السود خارج شراءَ الأراضي خارج مناطق معينة.
ومشروعُ قانون السكان الأصليين في المناطق الحضرية (1918) والذي صُمِّمَ لدفع السود إلى مواقع محددة أشبه بالكانتونات، وقانونُ المناطق الحضرية (1923) الذي بدأ الفصل العنصري في مناطق السكن، وقدم العمالة الرخيصة لمصانع البيض، وقانونُ حظر ذوي البشرة الملونة (1926) والذي حظر على السود ممارسة المهن المهارية، وقانونُ الإدارة الوطنية (1927) والذي جعل من التاج البريطاني الرئيس الأعلى لجميع الشؤون الأفريقية بدلا من رؤساء القبائل، وهكذا.
إلا أنه في العام 1948 أعطيت هذه السياسة غطاء قانونيا وتشريعيا كاملا لهيمنة البيض على كل مفاصل الحياة في جنوب أفريقيا.
يكشف هذا القانون الذي وضعه الحزب الوطني بعد فوزه في الانتخابات عن مدى الانحطاط الذي يمكن أن يصله الإنسان في تسافله إذا انساق وراء أهوائه وعصبياته وغيب العقل والمنطق والفطرة السوية.
قسم القانون الجديد السكان إلى أربع جماعات عرقية:
البيض
والسود
والملونين
والهنود
المضحك المبكي أن المهندس الأبرز لقانون الفصل العنصري ويدعى هندريك فرويرد Hendrick Verwoerd وصف هذا القانون بأنه سياسة حسن جوار.
تم تقسيم هذه الجماعات الأربع إلى ثلاثة عشر قومية أو فيدرالية عرقية، فشمل العرق الأبيض اللغتين الإنجليزية والأفريكانية؛ وتم تقسيم العرق الأسود إلى عشر جماعاتٍ مماثلة. أدى هذا التشريعُ إلى جعل العرق الأبيض العرقَ المهيمن على بقية الأعراق.
يُقَسَمُ نظام الفصل العنصري إلى: فصل عنصري كبير وفصل عنصري بسيط. الفصل العنصري الكبير يشير إلى تقسيم جنوب أفريقيا إلى عدة ولاياتٍ مستقلة، في حين يشير الفصل العنصري البسيط إلى التفرقة في الأماكن العامة والتفرقة السكنية أو ما يعرف بقانون المرافق المنفصلة كالحافلات والمدارس والجامعات والشواطئ ودورات المياه والمطاعم وغيرها.
وفق هذا القانون تم حظر الزيجات المختلطة، واعتبرت العلاقة الجنسية مع عرق مختلف جريمة جنائية. وحَوَلَ قانون (تسجيل السكان) التصنيفَ العنصري إلى أمر رسمي حيث أمر بإصدار بطاقةِ هويةٍ لجميع الأشخاص فوق سن الثامنة عشرة، مكتوب عليها العرق الأصلي لكل شخص. ثم تم تشريع قانون للتمييز العنصري في الوظائف.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حيث تم تجريد السود في جنوب أفريقيا من الجنسية، وأصبحوا (بموجب القانون) مواطنين لدى واحدٍ من أحد عشر وطنا قبليا (بانتوستان) أي أوطان بديلة يدارُ كلٌ منها بواسطة ما عرف بالحكم الذاتي.
لقد تسببت سياسة التطهير العرقي وتقسيم جنوب أفريقيا إلى بيضاء غنية واسعة وأخرى سوداء فقيرة ضيقة في الترحيل القسري لملايين السود إلى مناطق خصصت لهم، بل وحرمانهم من الجنسية، واعتبارهم في أحسن الأحوال عمالا ضيوفا يحتاجون إلى بطاقة عبور أو جواز سفر لينتقلوا للجزء الآخر من وطنهم.
هذا جزء من القصة المريرة في جنوب أفريقيا، وللقصة بقية.
2732012
التعليقات (0)